لا يختلف أحد على أن انتخابات 2020 الأمريكية، هي الأكثر إثارة وجدلاً، وقد تكون الأهم خلال قرن من الزمن، سواء على صعيد طبيعة المتنافسين، أو على صعيد التداعيات التي قد تكون لنتائج هذه الانتخابات ليس على المستوى الأمريكي الداخلي الذي يعاني أزمة اقتصاد وصحة عامة أفرزها فيروس كورونا، وإنما على مستوى نمطية العلاقات الدولية، ومستقبل النظام الاقتصادي الليبرالي، الذي يشكل مرجعية العلاقات بين الدول، وربما إعادة تشكيل مفاهيم الهيمنة والقوى في النظام الدولي، وهو ما جعل كثيرا من القوى الكبرى في النظام الدولي قيد انتظار نتائج هذه الانتخابات، فالبعض لا يرحب بعودة ترامب إلى السلطة في ولاية ثانية، نظرًا لما قد تحمله من أربع سنوات عجاف كما وصفها أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة بيرزيت "على الجرباوي"، ليس فقط للفلسطينيين وإنما لكل الدول الكبرى، وهناك من يربط درجة اهتمامه بنتائج الانتخابات الأمريكية بدرجة تداعياتها على الأوضاع في الشرق الأوسط، فالفلسطينيون وعلى الأخص منهم القيادة التي تتحكم بالنظام السياسي الفلسطيني المترهل تنتظر وربما تبتهل إلى الله فوز "جو بايدن" الديمقراطي على حساب "ترامب" الذي وضع القيادة الفلسطينية على حافة اليأس، ولا حاجة لتوضيح ذلك.
السؤال ماذا يعني فوز "ترامب" أو فوز "بايدن" بالنسبة للفلسطينيين؟
بداية، نُذكر أن تعامل كل رؤساء الولايات المتحدة منذ عام 1948 وحتى هذا اليوم الذي سيفرز رئيساً جديداً للولايات المتحدة، مع القضية الفلسطينية قد بني على حقيقتين، الأولى تعامل قد بنيَ على أساس أنها أزمة إنسانية ليس أكثر بينما الحقيقة الثانية حول الموقف من إسرائيل، والذي بنيَ على أساس ديني وعقائدي متين يؤمن بحق إسرائيل الكامل بأرض الميعاد، ومن يحاول استحضار تاريخ الأحداث وقراءة المواقف الأمريكية تجاه الفلسطينيين لن يجهد كثيراً في البحث والتنقيب عما تضمنه مواقف كل الرؤساء الأمريكيين، فعلى مر سنوات طويلة، لم تقدم الولايات المتحدة التي سعى الجانب الفلسطيني إلى اعتبارها وسيطًا نزيهًا، أي مبادرة تناولت الحديث عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة بشكل صريح، بل تبنت دومًا الموقف الإسرائيلي الرافض لأي قرار أممي يكون مرجعًا لعملية سلام حقيقة وذات معنى.
والواضح، أن كافة السيناريوهات التي يمكن رسمها لحدود التدخل الأميركي في مرحلة ما بعد إدارة "ترامب" تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لا تبشِّر بالكثير من التفاؤل لإحياء آمال الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة كاملة السيادة في المستقبل القريب، خصوصًا، بعد أن قامت إدارة "ترامب" بالإعلان عن "صفقة القرن"، وهي صفقة تحمل رؤية يمينية تتبنى السردية اليهودية، ليس فقط ما يخص الصراع، ولكن حتى بما يتعلق بالرواية التوراتية لتاريخ المنطقة والصراع الدائر فيها، أو ما يمكن تسميتها بـــــ"حرب المائة عام ضد فلسطين".
فالوجود المحتمل لـــ"جو بايدن" الذي يصرح ليل نهار بمدى دعمه لإسرائيل والتزامه بأمنها واستدامة وجودها على مقعد الرئيس الأمريكي لن يكون مفيداً للفلسطينيين ولن يشكل لهم فرصة لإعادة ترميم ما قامت به إدارة ترامب، فهو لن يلغي قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، ولن يوقف عمليات الزحف الاستيطاني الممنهج والهادئ، ولن يلغي مسار طويل حدد طبيعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية الثنائية، لعل وجوده في إدارة أوباما دليل على عدم رغبته بتغيير القواعد التي تحدد إدارة الصراع، وإن أكثر ما يمكن أن يُتوقع منه القيام به، هو إعادة هذه السياسة إلى مسار المفاوضات الثنائية، وفتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن وإعادة المساعدات الأمريكية للسلطة وللأونروا، ودعوة أبو مازن للقاء بروتوكولي لن تغير في جوهر الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل ولن يعيد ما تم فرضه خلال فترة ترامب.
وكما هو معلوم للجميع، على مدى سنين طويلة لم تسع الإدارات الأمريكية لحل الصراع، وبايدن لن يكون استثناء، ومن الخطأ فلسطينياً الاعتقاد أن ثمة أمل أو فرصة تلوح بالأفق بفوز بايدن، الذي سيبقى أميناً على مصالح إسرائيل وعلى قدرتها في رفض أية حلول للصراع تتعارض ومصالحها التوراتية والاستراتيجية، ورغم حالة الظلم والعزل التي مارستها إدارة ترامب ضد الفلسطينيين، إلا أنها يجب أن تشكل فرصة لإعادة تقييم الحالة الفلسطينية بكل أبعادها الداخلية والإقليمية والدولية، فالسياسة الفلسطينية التي كانت تدار بها القضية الفلسطينية قبل ترامب لن تكون صالحة لفترة ما بعد ترامب، فعجلة التاريخ لا تعود للوراء ولن نسمع من الإدارة الأمريكية القادمة سوى تصريحات مستهلكة وبلا جدية أو معنى، وأي سعي فلسطيني مستقبلي للعودة للمفاوضات من بوابة واشنطن ودون دراسة جدية وأخذ للعبر على مدار ربع قرن، لا يعني إلا شيئا واحدا، أن القيادة الفلسطينية لا يعنيها إلا علاقات بروتوكولية شكلية تحافظ على وجودها أمام كاميرات وسائل الإعلام تحقيقاً لمصالحها المرتبطة بالحالة الفلسطينية القائمة.
الوضوح والرؤية مطلوبة، فبايدن لا يختلف عن ترامب إلا بالقدر التكتيكي في حسابات السياسة الأمريكية بالمنطقة، فالمفاضلة بين هذا أو ذاك، خطأ كبير، والتقيد باحتمالات خطيئة أكبر، والارتهان لعوامل خارجية جريمة سياسية، والأساس الذي يجب أن يبنى عليه فلسطينياً، هو أن الولايات المتحدة الديمقراطية أو الجمهورية هي ذاتها وهي ذات العلاقة التكافلية مع إسرائيل، وأن الحراك الداخلي الفلسطيني نحو المصالحة وإعادة بناء البيت الفلسطيني وتحصينه، وإجراء الانتخابات والشراكة، لا ينبغي أن يكون خاضعة لقرارات ارتجالية وعاطفية غير مبنية على قراءة عميقة للسياسة الأمريكية، أومرهوناً في انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية أو الإسرائيلية.
لم يعد هناك من فرصة قد تأتي من باب الانتخابات الأمريكية، فالفرصة الحقيقية هي التخلص من الرعاية الأمريكية المنفردة والاستثمار في إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ومؤسساته، فنحن أمام قرن جديد بأدوات جديدة وسياسات عنصرية مختلفة ومؤامرات مركبة، تتطلب تفكيرا خلاقا يمنح الأمل للفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم، فوسائل النضال في السنوات والعقود الماضية خلال القرن العشرين لم تعد تجدي وليست بالضرورة يمكن أن تكون هي ذاتها كوسائل نضالية للقرن الواحد والعشرين، نعم فرصتنا المتبقية هي الاستثمار بالشباب وبطرق تفكيرهم الخلاقة وتحويل قيمنا التحررية والنضالية كجزء من القيم العالمية التي ترفض العنصرية والأبارتهايد واستمرار الاحتلال، وتطوير خطاب سياسي وإعلامي فلسطيني يتناسب وحالة التغيير التي تشهدها المفاهيم العالمية وعدم البقاء رهينة المفاهيم التقليدية التي أصبحت عبئا.
الفرصة حاضرة، إما نحولها لأمل أو نبقيها استمرار لنفس الحالة التي نعيش