أيها الموت الجارف المكتسح كوحش أيقظه بغتة وجع يلوي ويقطع أحشاءه، لقد فقدت هويتك أخيرا وأصبحت غير نفسك، دون معناك. لم تعد موتا، بل أضحيت مجرد حكايات مشهد إعلامي بئيس لا حياة له، ومن لا حياة له، لا موت يكمن في الأفق، أقصد بقاؤه دهرا كالحَجَر. اكتفيت بعد كل تراث ما هيتك، بمراكمة وهمية صرع طواحين الهواء، حيث الوهم يحتفل بالوهم. ألا تجابه حقا نفسك! وتدرك ما أنت عليه حقا. تعلم أيها الموت، أن أعظم المعارك تبقى معركة النفس، وقد يخوضها المحارب طيلة حياة بأكملها دون أن ينهيها، لكن الأساس إدراكه ووعيه بحقيقة وجوده، ولماذا أتى؟ ثم لما عليه الرحيل؟ بعد كل شيء؛ بين ثنايا ذاته، حيث الحياة والموت بلا موت.
كنت أيها الموت، قبل رقمنة المفاهيم وتدويلها التجاري ثم تقلبها المبتذل بين تداعيات حشو الصفائح الرقمية المسماة افتراضية؛ وسائطية ثم اجتماعية، شامخا بهيا، باعتبارك سلطانا مطلقا غير سلطة البيولوجية والجيولوجية والفيزيقا والميتافيزيقا. شعلة منيرة فوق رؤسنا، لا سيما هؤلاء الباحثين عن عالم ثان بمحض إرادتهم، غير المتجلي اعتباطا وبلا استئذان، لا لشيء سوى نكاية بنا، حيث الفرد قطعة من التكرار السرمدي. نترقبك على امتداد الأفق، ونشرئب بمجمل كياننا المترنح حياة، نستشرف انبجاسك، بجلال الانتظار؛ وجمال الألم، بأن يكون الموت انتشاء بالحياة، غير الأوجاع الصغيرة، التي تقتلنا ألف مرة؛ أبعد من الحياة، لكن تبعا لمختلف معاني الحياة.
لماذا أيها الموت بحروبك التافهة هذه؟ وإدمانك اليومي؟ لم تعد مجردا، فارسا أبيا، مثلما عهدناك طيلة أزمنة الأفكار الكبرى، الزاخرة حياة، نفتقدك. حينئذ، كان هامش الموت بالنسبة للحياة، فقط هامشا، بل الموت ولادة تنقدنا من الجحيم، الذي ألفنا عليه وجودنا.
لماذا صرت هكذا أيها الموت؟ متلصصا، ماكرا ومخادعا بلا داع؛ زاحفا على بطنك، كأنك صعلوك حقير من صعاليك السؤال، وليس ثائرا شامخا من ثوار التضحية والنبل والعطاء. تتباهى بالتقاطك كل آن صورا فوق الجثث، حد الابتذال، والتفاهة، ربما امتثالا مع موضة زمن التفاهة مثلما صاغوا العبارة، الكلمة التي أضحت منذ فترة ليست بالهينة عنوانا لما أردته أن يستحق فعلا حياته ومن ثمة مماته.
لقد فقدت جانبا من خصوصية عظمتك، حينما استكنت إلى تعميم قيمة الشر، بدل أن تبقى موتا تستحق حقيقتك، أي أن رحلتك فوق هذه الأرض قصيرة، لا تعمر كثيرا، تترك الحياة وشأنها تمارس وجودها كما يحلو لها، ثم تحل أنت فقط خلال ومضات النداءات الإنسانية الكبرى. حاليا، سئمتك يوميات غباء التكرار. أصبحت أيها الموت على عجلة من أمرك، متأهبا بالمطلق للرحيل، تجرف كل آن ظلما حياة بأكملها.
أيها الراقدون تحت التراب، ما الموت؟ أي فارق بينه والحياة؟ كيف نفهم معاني الموت والحياة؟ ماذا تذكرون عن لحظات اتصالكم بالموت؟ كيف جرى اللقاء؟ أيكما تحدث أكثر من الثاني؟ هل انساب التآلف أم التنافر؟ ماذا أنتم فاعلون إن حدث وعدتم إلى هنا ثانية؟ تحدثوا قليلا.
أخذ الجميع يموت على التوالي؛ يتساقط الناس تباعا، الإنسانية بصدد تجريب طقوس الموت المعولم، الجماعي، الرقمي، الاستعراضي، المشهدي، الأيديولوجي. يختفي الشخص، تحت أنظار الحشد كأنه لم يكن البتة، دون أن ينبس بكلمة أخيرة؛ لنفسه وللحشد. بينما الموت قضية فردية، لا بد ووجب حتما أن يرحل الفرد وحيدا، متواريا عن الجميع، إلا من عزلته التي أحياها وهذبها وارتقى بها؛ غاية المنتهى. لم يعد الموت قادرا على التريث الحكيم والصبر النبيل، والإصغاء الرحيم، كره الانتظار مثلما لم يكرهه أحد.
تمهل أيها الموت قليلا، استجمع أنفَاسك للحظة، اغرب عن أنفَاسنا كثيرا، وضب أغراضك من جديد، ارسم بتأنٍّ خيال الشعراء، خريطة أشلائك، واتركنا لأحوالنا نتنفس عشق الحياة، ما استطعنا إليها سبيلا، قبل انتقالنا ونحن نريد، وجهة سكينة ما بعد الموت، حيث انتظار ذاك الانتظار؛ انتظار غودو على امتداد صمت الجسد.
يقال بأن العالم الحالي ضجر حد السأم؛ كفاية، من وضعه الأشبه بالموت ثم ليس بالميت، وأشفق على حاله مما صنعه بمصيره. هكذا، تحول إلى ماكينة خرقاء لموت بلا طعم الموت، يلقي جزافا بمنتوج الموت، في دورة لا تنتهي وقائعها، وسلسلة هوجاء غير قادرة على التوقف. ربما، ارتاح الأحياء بعد أن تشيأوا للغاية؛ فاطمأنوا أخيرا بالموت الطارئ، إلى شيء ما، تخلصا من رتابة حياة النمط العقيمة والموت النمطي. يريدون حياة أخرى، بمواصفات صالحة للحياة، أو الاحتجاج بالموت ضد الحياة والموت معا.
نعم، إنها مواسم الهجرة جماعة صوب محج الموت. لم تعد لنا من مهمة أخرى في هذا الوجود، سوى أن نتابع صنيع الموت واستقصاء أخبار الأموات؛ حيث يموت الجميع تحت تصفيقات الجميع: هل الموت دراما؟ بطولة؟ معركة؟ تجربة؟ حتمية؟ نزوة؟ استفسارات منفتحة على اللانهائي.
لا يعلم حقا أجوبة من هذا القبيل، سوى الذين نجوا من الحياة بأعجوبة. ربما، الراقدون حاليا تحت التراب.