''لست خاسرا جيدا، لا أحب تكبد الهزائم، لا أخسر كثيرا، ولا أحب أن أخسر'' (دونالد ترامب).
"في أي بلد نعيش؟'' (جو بايدن).
أن تفرز صناديق الاقتراع الأمريكية رئيسا جمهوريا أو ديمقراطيا، بمعنى سواء عكست أصوات الناخبين نزوعا نحو متانة وجسامة الفيل أو صبر وتجلد الحمار، فالسعي بعد كل شيء؛ وبغض النظر عن تفاصيل ما يجري في الداخل الأمريكي من اختلاف هذا البرنامج عن ذلك، تظل السياسة الخارجية التي تهم بالدرجة الأولى الأبعاد الجيو-استراتيجية للسياسات العالمية، مكمن الثوابت الأمريكية عينها، بخصوص مرتكزاتها الكبرى؛ تتغير فقط تكتيكيا تبعا لنوعية شخصية الرئيس الموجود داخل أروقة البيض الأبيض.
سياسة تجمع في نهاية المطاف، وبامتياز؛ بين شتى المساوئ الحيوانية للفيلة والحمير مجتمعة عبر كل مناطق العالم، هكذا طبعت القرارات الأمريكية في علاقاتها بالدول، تحديدا، غير النووية والضعيفة، بصفتين أساسيتين: الاحتقار والوحشية.
إذن، بغض النظر عن السمات الشخصية لزعيم واشنطن، ثم البرامج الاقتصادية والاجتماعية المطبقة داخليا، فالسياسات الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وغاية اللحظة، انصبت دون تراجع أو استرخاء على مشروع تثبيت؛ المرتكزات التالية:
*دعم إسرائيل وتكريس سياسات الأنظمة الديكتاتورية والرجعية في العالم، والمنظومات الإرهابية والمتطرفة؛ في شقها الديني واليميني والعسكري والشعبوي، دون اعتبار قط للتمدن، ثم مصادرة حرية الشعوب، بكل الوسائل.
*الهيمنة الأحادية على القرار العالمي، وتقويض مشروعية مؤسسات المنتظم الدولي، وفي طليعة ذلك السلطة الرمزية والمعنوية للأمم المتحدة.
* اللجوء إلى مختلف الأساليب الهمجية، بدءا من تدبير الانقلابات الاستخبارية الدنيئة، غاية الحصار والتجويع، أو تدبر أمر تفويض قانوني؛ كيفما اتفق يبرر إشعال نيران حرب إبادة شاملة تأتي على الأخضر واليابس، بهدف إعادة ترويض كل نظام سياسي أراد لنفسه استقلالية قرارات بلده.
*يبقى الصديق الأول لواشنطن وحليفها الاستراتيجي الأوحد، تلك المصالح الشرسة الاقتصادية والمالية لشركاتها العابرة للقارات. في هذا الإطار، اتفقت جل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، على جواز التحالف مع الجن والشيطان؛ وكل أشرار التاريخ.
عموما، الجوهر الأمريكي عينه، صحبة الفيل أو الحمار، والمنظومة نفسها؛ يظل الاختلاف فقط في أسلوب الرئيس، الناطق الرسمي علنيا باسم الشعب الأمريكي، أو أساسا مضامين التقارير الخبيرة لجهاز ''سي أي أي'' على امتداد العالم تبعا لمصالح الشركات الكبرى، وكذا تأرجح مزاجه بين النزوع الذكي والدبلوماسي والفظ والمرح والمتعجرف واللبق والمتصلب ولين العريكة والخطيب المتفوه؛ الذي يعرف ماذا يقول وكيفية قوله، إلخ.
بهذا الخصوص، ومثلما أكدت مختلف المشاهد المباشرة للرئيس ترامب وتصريحاته ومواقفه وتغريداته الغزيرة طيلة فترة حكمه، جَسَّد الرجل بكيفية لا لبس؛ معها نموذجا مختلفا عن الذين سبقوه من حيث البلاهة السياسية والرعونة والفظاظة ومستويات النرجسية والعجرفة، وربما تقاسم معه جورج دابليو بوش، رائد نظرية تخريب العراق وإشعال الحروب في كل مناطق العالم، جانبا من قسمات شخصيته.
ترامب ''المنتخب ديمقراطيا''، شئنا أم أبينا، رجل الأعمال الثري والملياردير الذي تولى الرئاسة مباشرة عبر بوابة المال والأعمال، دون أن يختبر سابقا حيثيات خدمة عسكرية أو حكومية، وعمل خلال فترات معينة مستشارا ماليا للملاكم الشهير تايسون، ثم تجلت أهم منجزاته الدولية في سياسات ''لا'' ثم ''لا''، بحيث تملص بجرة ابتسامة صفراء من كل اتفاقات الدولة الأمريكية: الاتفاق النووي مع إيران، الاتفاقيات التجارية، اتفاقية باريس للمناخ، الحرب التجارية مع الصين، تقويضه المستفز للعبة التوازن في الشرق الأوسط، بانحيازه الصريح والعلني للإسرائليين على حساب حقوق الفلسطينيين، ثم أمراء النفط وآبار الذهب ضدا على التطلعات التاريخية المشروعة لشعوب المنطقة وتعبيراتها الحقوقية والمدنية…
أما بخصوص الداخل الأمريكي، فقد مأسس وهيكل ترامب مختلف تفاصيل الشعبوية والعنصرية والطائفية، ومن ثمة تقسيم الشعب إلى فريقين متباعدين تماما، مما دعا البعض إلى نحت مفهوم ''الترامبية السياسية''، ثم أخيرا فشله الذريع في تعبئة مشروع مجتمعي لمواجهة وباء كورونا…
أقول، لا يريد ترامب صاحب اللازمة التعبيرية الشهيرة "سنرى'' الاكتفاء بما سبق، لأنه حاليا بصدد إدخال بلده دوامة مآزق فوضى قانونية، بل حرب أهلية ومختلف توقعات المجهول، بإعلانه منذ الساعات الأولى لإغلاق مكاتب التصويت، كونه الفائز بالانتخابات، مؤكدا في كل الأحوال اللجوء إلى المحكمة العليا، مع رفضه المبدئي التعهد بانتقال سلمي للسلطة. الأفق، الذي يطرح بارتياب علامات استفهام عديدة حول الإطار المؤسساتي للدولة الأمريكية، وبالدرجة الأولى الديمقراطية.
يقول جاك أتالي: "يعتقد أقل من ثلث الأمريكيين المزدادين سنوات الثمانينات بضرورة العيش تحت كنف الديمقراطية؛ بينما يبدي الآخرون استعدادهم لإعادة النظر في مفهوم من هذا القبيل، واللجوء في المقابل، إلى استعمال الأسلحة قصد الدفاع عن حقوقهم أو رفضهم الامتثال لأبسط قواعد العيش المشترك. كيفما جاءت هوية الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأمريكية، فلن يجد أمامه سوى فرص ضئيلة من أجل إعادة ترتيب الأوضاع بشكل سريع: نعرف أن دونالد ترامب يواصل دعمه للأكثر ثراء ويغرق البلد في أزمة هوية كبيرة. أما جو بايدن، فمهما اعتقدناه محترما، يظل مفتقدا سواء للقدرة، أو الوسائل السياسية اللازم توفرها قصد الدفع بالمسار الحتمي لإصلاحات هائلة. ستكابد الديمقراطية الأمريكية زمنا قاتما، قبل أن يرفع جيل جديد مشعل التحدي، والانكباب على العمل سعيا لولادة وطن مستند إلى مبادئ آبائهم المؤسِّسين، التي نحتاجها جميعا. ومثلما، نلاحظ حاليا تحول الإنجليز نحو الظفر بجنسية بلد عضو في الاتحاد الأوروبي، وكذا أرجنتينيين يتذكرون قومية أجدادهم، فبوسعنا ذات يوم معاينة حركات من ذات القبيل نحو القارة العجوز. حركات أفكار، أشخاص، ورؤوس الأموال'' (موقع جاك أتالي: 7 أكتوبر 2020).