الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

معجم كارل بوبر.. المجتمع المنفتح والمنغلق (حلقة 14)

ترجمة: سعيد بوخليط

2020-11-08 11:15:34 AM
معجم كارل بوبر.. المجتمع المنفتح والمنغلق (حلقة 14)
كارل بوبر

تقديم:

عندما صادفت، منذ عقدين، كتاب الأستاذة الفرنسية روني بوفريس، الصادر حديثا آنذاك. توخيت بداية، إنجاز مقاربة تلخيصية تعريفية للعمل باعتباره عنوانا جديدا على  رفوف المكتبات. لكن بين طيات ذلك، تبين لي أن كتاب: العقلانية النقدية عند كارل بوبر ثم السيرة العلمية لصاحبته، ينطويان على قيمة معرفية كبيرة. لذلك، من الأمانة العلمية والتاريخية إن صح هذا التأكيد إعادة كتابته باللغة العربية. 

*اشتغلت روني بوفريس؛ من بين أشياء أخرى، على نظريات كارل بوبر. وترجمت له أعمالا من الإنجليزية إلى الفرنسية؛ لا سيما سيرته الذاتية. كما أن بوبر نفـسه؛ أوكل لها مراجعة الترجمة الفرنسية لعمله الذائع الصيت بؤس التاريخانية.

*اعتبرت روني بوفريس عملها هذا، تقديما عاما لمعجم بوبر المفهومي. ساعية بذلك، إلى جرد ألفبائي للمصطلحات والمفاهيم التي وظفها بوبر، قصد صياغة مشروعه. لقد رصدت وفق تعريفات سريعة لكنها دقيقة وعميقة؛ أهم المفاهيم سواء تلك التي نحتها بوبر، أو توخى في إطارها، على العكس من ذلك، مناقشة أصحابها وإبداء رأيه حولها: العقلانية النقدية/ التحقق/ المعرفة الموضوعية /المحتوى/ النظريات العلمية / تحديد /الديمقراطية / المجتمع المنفتح/ مقولة الأساس/ قابلية التكذيب/ قابلية التزييف والتفنيد/ الرائزية /التاريخانية / العقل و اللغة / اللاوعي/ الاستقراء / الوسائلية /الليبرالية / الماركسية/ الميتافيزيقا / العوالم الثلاث / المجتمع المنغلق /الوضعية/ القابلية / النسبية / الكليانية والطوباوية / التوتاليتارية.

خطاطة مفهومية، تعكس البرنامج النظري والمنهجي الذي خطه بوبر لنفسه. وقد توزع بين: منهجية العلوم؛ فلسفة المعرفة العامة؛ البيولوجيا؛ علم النفس؛ العلوم الاجتماعية؛ تأويلات الفيزياء الحديثة؛ تاريخ الفلسفة؛ فلسفة الأخلاق والسياسة؛ نظرية العلوم الاجتماعية.

أرضية فكرية وعريضة، يتجادل ضمنها مع: أفلاطون وسقراط وهيغل وماركس وفتجنشتاين وهيوم وكانط… إلخ. منحازا أو مختلفا، لكن بمعنى يتجاوز حدي منطق الميتافيزيقا الغربية الثنائي القيمة: صادق أو كاذب، ولا يوجد احتمال ثالث. لأن بوبر يؤكد نصيب الحقيقة من الخطأ. السمة الفكرية التي تهمه؛ أكثر من اليقين والاعتقاد المطلقين.

هكذا ظل بوبر رافضا باستمرار، لكل أنواع الطوباويات والإطارات الشمولية المنغلقة؛ بل والأفكار الرومانسية المنتهية حتما إلى العقيدة الجامدة والدوغماطيقية؛ لأنها تستند بدءا وانتهاء على المرجعية الأحادية.

 لم يكن من باب الصدفة إذن، أن يخرج بوبر آخر أعماله تحت عنوان مثير: "أسطورة الإطار، في دفاع عن العلم والعقلانية". يقول بوبر في تأويل لما أشرت إليه: ((وعلى الرغم من أنني معجب بالتقاليد وعلى وعي بأهميتها. فإنني في الوقت ذاته أكاد أكون مناصرا أصوليا للا-أصولية: إنني أستمسك بأن الأصولية هي الأجل المحتوم للمعرفة، ما دام نمو المعرفة يعتمد بالكلية على وجود الاختلاف. وكما نسلم جميعا، الاختلاف في الرأي قد يؤدي إلى النزاع، بل وإلى العنف. وأرى هذا أمرا بالغ السوء حقا، لأنني أستفظع العنف، غير أن الاختلاف في الرأي قد يؤدي أيضا إلى النقاش، وإلى الحجة وإلى النقد المتبادل. وإني أرى هذه الأمور ذات أهمية قصوى، وأزعم أن أوسع خطوة نحو عالم أفضل وأكثر أمنا وسلاما، قد قطعت حين وجدت حروب السيف والرمح لأول مرة من يضطلع بها، وفيما بعد حين حلت محلها في بعض الأحيان حرب الكلمات)) (أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية. ترجمة يمنى طريف الخولي. سلسلة عالم المعرفة. أبريل- مايو 2003).

ولكي يتم تسليط الضوء بقوة، على الأفق المتطور لهذا الفكر الإنساني في جوهره، أسرعت بوفريس غير ممتثلة لترتيبها الألفبائي؛ نحو الصفة التي عشق بوبر، أن يسم بها اجتهاداته الفكرية والمنهجية. أقصد تصنيف: العقلانية النقدية.

فما هي إذن أبرز ملامح وتجليات هذه الفلسفة؟ ثم  كيف عملت  بوفريس على توظيف ذلك حين مقاربتها مشروع بوبر؟ لا شك، أن الإجابة عن بعض هذه الأسئلة تخول من جهة أخرى؛ إثارة انتباه القارئ نحو أهم أطروحات هذا العمل، والتي سنقف على مضامينها عبر سلسلة هذه الحلقات.  

 

إعادة صياغة إشكالية هيوم:

تتمحور إجابة كارل بوبر بخصوص قضية الاستقراء على إعادة صياغة "إشكالية هيوم". يميز هذا التقويم بين "قضية منطقية" و"قضية سيكولوجية"، ويدرج في إطار عبارات موضوعية (نظريات وتأكيد أو دحض ببراهين تجريبية) ما سبق لـ هيوم أن طرحه تبعا لمصطلحات ذاتية في الاعتقاد.

 يعيد بوبر صياغة الإشكالية المنطقية للاستقراء تعاقبيا وفق ثلاث طرق:

(L1 – L2 – L3). نتساءل مع (L1)، عما إذا كان الجزم بصحة نظرية تفسيرية، ربما نتيجة تأكيدها بـ"براهين تجريبية"، أي من خلال افتراض حقيقة بعض صياغات الملاحظة، والجواب سيكون سلبيا، كما الشأن عند هيوم.

 لكن توجد قضية منطقية ثانية (L2)، بمثابة تعميم ل(L1) والتي نحصل عليه بأن نضع مكان: "صحيح" تعبيرا ثانيا هو "صحيح أو خطأ"، وبالنسبة لهذه القضية فالجواب يكون إيجابيا، لأن افتراض حقيقة بعض صياغات الملاحظة يلزمنا أحيانا التأكيد، بعدم صحة نظرية  تفسيرية.

 أما بخصوص قضية (L3)، للاختيار بين مجموع نظريات متنافسة، والتي تتطابق مع السؤال الذي طرحه هيوم حول موضوع شخص يؤكد بأن الزئبق أثقل من الذهب، فالجواب، أنه قد يتأتى لتعابيرنا التجريبية تمكيننا من دحض بعض النظريات المنافسة لكن ليس جلها، ونفضل التي لم يتم بعد تأكيد خطئها، بالتالي من الأفضل امتلاك معيار عقلاني.

إعادة صياغة قضية هيوم السيكولوجية، حسب "مبدأ الانتقال": (الذي يؤكد على انتفاء الاختلاف بين المنطقي والسيكولوجي، وأن "ما ينطبق على المنطق– مع العلم أن الانتقال يتم بطريقة ملائمة- يتم كذلك بالنسبة للسيكولوجي")، تقود نحو التمييز بين المعادلتين (Ps1) و (Ps2). بحيث يتساءل بوبر وفق (Ps1) بخصوص استمرار إحساسنا بالثقة الكاملة، حتى ما يتعلق بالنظريات التي اختُبرت بشكل أفضل، مثل التي تؤكد بأن الشمس تشرق كل يوم، عندما نختبر تلك النظريات برؤية نقدية. جاء جوابه بالنفي.

 بينما انصب تساؤل معادلة (Ps2)، إن كانت "الاعتقادات البراغماتية القوية"، مثل الاعتقاد بأن هناك غد، تتأتى نتيجة التكرار اللاعقلاني. أيضا، يجيب بوبر في هذا المقام بالنفي، وينظر إليها باعتبارها جزءا من تحولات اعتقادات غريزية، نتيجة منهجية عقلانية كليا، تحاول ثم تستبعد الخطأ.

 فضلا عن ذلك، بالنسبة إليه، فالضوابط التي يتوخى العلم استعراضها ليست موضوعية، لأنها جزء من تعريف القوانين الطبيعية ذاتها التي يبحث العلم مبدئيا على صياغتها. كما رأى كانط، فلم ندركها نتيجة ملاحظتنا المكتفية بحدود التفاعل السلبي، بل تعكس أساسا حصيلة رؤيتنا للطبيعة.

تقف النظرية البوبرية للفكر كـ"شعاع منير" يضيء العالم بحيوية، مقابل نظرية "العقل– الوعاء" التي استعارهما من جون لوك وجورج بيركلي ثم دافيد هيوم.

بوبر الذي تحاور مع هيوم بطريقة تقديرية ونقدية، يجسد بالأحرى كانط منتميا إلى القرن العشرين، في حين يعتبر بيرتراند راسل الوريث الشرعي لدافيد هيوم خلال هذا القرن.

 يكتب راسل: "تقوم شكية هيوم على استبعادها الكلي لمبدأ الاستقراء [...]. ما تبرهن عليه دلائل هيوم – ولا أعتقد بأن البرهان قد يوضع موضع شك- أن الاستقراء مبدأ منطقي، مستقل، لا يستخلص سواء من التجربة، أو مبادئ منطقية أخرى، وبدونه يستحيل العلم".

النسبية:

النسبية حسب تعريف عام مشترك، نظرية تكون المعرفة بحسبها نسبية: وتنكر إمكانية الوصول إلى معرفة منطقية، بطريقة تتعارض مع الدوغماطيقية والشكية.

 النسبية الأخلاقية نظرية تؤكد تعدد المعايير الأخلاقية باختلاف المجتمعات، بالتالي،  لا توجد قواعد كلية.

أما النسبية العلمية، فتعتقد بأن الحقيقة العلمية يتم تشييدها، وفق مقاربات متوالية.

 ينظر بوبر إلى النسبية كـ"مرض فلسفي" أساسي خلال القرن العشرين، لينتقدها في نص جميل جدا، تحت عنوان "أسطورة إطار المرجع" الصادر بالفرنسية ضمن أعمال ندوة "سوريزي"، التي انصبت أشغالها على تيمة: كارل بوبر والعلم الحديث.

 انتقد بوبر ببراهين مهمة جدا، النظرية التي تؤكد بأن "الحقيقة نسبية تبعا لخلفيتنا الفكرية أو إطار الإحالة" ويمكنها أن تتغير من إطار وإحالة إلى أخرى. وكذا أطروحة "استحالة الفهم المشترك بين مختلف الثقافات والأجيال أو الحقب التاريخية".

 يقترح علينا أنصار النسبية معايير للفهم المشترك، ارتقت بطريقة لا واقعية؛ وحين الفشل في ملاقاة هذه المعايير، يؤكدون حينها بأن الفهم مستحيل.

 حسب أسطورة إطار المرجع، التي تتضمن جزءا من الحقيقة: "تتجلى استحالة بلورة نقاشا عقلاني ومثمر، إذا لم يتقاسم المشاركون إطارا مرجعيا مشتركا بخصوص المنطلقات الأولية، أو على الأقل التوافق على إطار مرجعي ما سعيا إلى فسح المجال للنقاش".

بوبر الذي يحاور هنا الدلائل الواردة عند ويلارد كوين، توماس كوهن، ثم بنيامين وورف، بحيث وظِّفت قصد الدفاع عن هذا التصور، يقر بالصعوبة المحتملة لنقاش يجري بين مشاركين يفتقدون إطارا مرجعيا مشتركا، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى أن أطروحة استحالته تعتبر مبالغة، مؤكدا بأن نقاشا بين أطر مرجعية مختلفة جدا، ربما يكون مثمرا أكثر إذا اقتسم المتحاورون منذ البداية العديد من المفاهيم.

المجتمع المنفتح والمنغلق:

استعار كارل بوبر من برجسون، لكن بمعنى مختلف شيئا ما ووفق تمييز عقلاني وليس ديني، مفهومي المجتمع المنفتح والمجتمع المنغلق، نذكر أنه بالنسبة لبرجسون، المنفتح هو كل مجموعة (أخلاقية، اجتماعي، إلخ) تنفلت من خنق دائرة القواعد المغلقة والصلبة، منفتحة على طفرة الحياة والإبداع.

المثل الأعلى السياسي العقلاني الذي يحدده بوبر، لا يصطدم فقط بزيف العقلانية الطوباوية فحسب، لكنه مهدد أيضا بصورة لا تقل خطورة من طرف هذه القوة العاطفية التي تحنُّ إلى المجتمع المنغلق. وحينما يطرح مسألة تقابل المجتمع المنغلق والمنفتح، فإنه يتوخى من جهة وصف دلالة التاريخ الاجتماعي للإنسان. تاريخ سمته التطور، حسب اعتقاده، بحيث يمكن أن نعود به إلى عصر بيرقليس، الذي يمثل بالضبط اللحظة التي بدأ فيها الانتقال التدريجي من المجتمع الأول إلى الثاني. من جهة ثانية، يظهر لبوبر الصراع بين المجتمع المنفتح والمنغلق، كصراع دائم لا يعرف نقطة النهاية.

على ماذا يرتكز إذن هذا التعارض؟ من جهة، المجتمع المنغلق، مجتمع "ساحر" عاجز عن الفصل بين القوانين التي أبدعها الإنسان والقوانين التي جاءت بها الطبيعة: يستكين إلى الطابوهات والإكراهات، معتقدا وفق "أحادية ساذجة"، أن التقنيات الاجتماعية فرضتها الطبيعة أو الآلهة.

على النقيض من هذا يعتبر المجتمع المنفتح، مجتمعا لائكيا، قادرا على الفصل بين ما العرفي وما ليس كذلك، ينظر إلى المؤسسات كإبداعات إنسانية. ومن جهة أخرى المجتمع المنغلق، مجتمع سلطوي يرفض الفكر النقدي: فلا القوانين ولا الأساطير ولا سلطة القادة يمكن أن تكون موضوع اتهام. على العكس من ذلك، نمارس منهجيا الفكر النقدي داخل المجتمع المنفتح، مما يفسر ظهور الفلسفة والعلم وأهميتهما.

من جهة ثالثة يرفض المجتمع المنغلق التطور، متوخيا أن يبقى مماثلا لذاته بينما المجتمع المنفتح، يتطور بشكل لا نهائي، ويعمل باستمرار على وضع ذاته موضع تساؤل، دون أن يسعى أبدا أو يبتغي، الوصول إلى لحظة السكنية.

أخيرا، المجتمع المنغلق بمثابة مجتمع عشائري، يلغي الفرد ويميل إلى اعتبار نفسه جهازا لا يشكل فيه الأفراد إلا أجزاء: من هنا ضعف تحمله الاختلاف، كما أن قوة الانفعالات الجماعية لديه، تعمل على تذويب الأفراد ضمن بوتقة كائن واحد. أما المجتمع المنفتح، فيأخذ منحى مختلفا يقوم على الترابط والتواصل "المجرد" بين أفراده بواسطة وسائل منظمة، ويترك لكل واحد تبني اختياراته الشخصية جاعلا من الفرد قيمته العليا.

يعتقد البعض، أنه قد نعمل على تبخيس قيمة المجتمع المنفتح، عندما نماثل فيه بين الفردانية والأنانية، كما فعل أفلاطون. بوبر، يرى أن المماثلة غير مناسبة، ما دامت المجموعة، قد تتصف بالأنانية بينما يكون الفرد غيريا (متصفا بالإيثار)، بل يمكننا القول، ولو في حدود معينة، بأن الآخرية تفترض الفردانية. ألم يظهر ذلك مع المسيحية والكانطية، بتعريفهما للأخلاق من خلال كونها تقوم على التعامل مع الشخص الآخر كغاية؟

فيما يخص أطروحة التعارض المطلق بين المجتمعات المنغلقة والمنفتحة، يبدو بديهيا على المستوى التاريخي وكذا الأنثروبولوجي، حسب بوبر، أن الأمر يتعلق بتباين مختصر جدا: ألا توجد بين المجتمعات "البدائية" وكذا المجتمعات الحديثة فوارق لا نهائية؟ نحن نعرف بأن الإثنولوجيا المعاصرة، قد ركزت، مع ليفي شتراوس على الاستمرارية بين المجتمعات القديمة والمجتمعات التاريخي. من جهة، التأكيد الساذج على "مجتمعات بدون تاريخ"، يخفي في الأصل إرادة لفهم العالم، وإعطاء المعنى لوقائع بتصنيفات وحكايات أسطورية.

ومن جهة ثانية، فالقواعد الرمزية والموانع، بعيدا على أن تكون وقفا فقط على "البدائيين"، هي من صنع كل المجتمعات، والإنسان لا يمكنه أن يعيش اجتماعيا، دون خلق نسق ثقافي متعارض مع اقتضاءات الطبيعة، ويقوم بالتأكيد على المحظور والرمز. وإذا رأى بوبر ضرورة التركيز على التمييز الجوهري بين نمطي المجتمعين (حيث لا يجب بالتأكيد البحث عن إعطاء أمثلة ملموسة في التاريخ بطريقة قطعية صارمة)، فلأنه يعتبرهما كأنماط "مثالية" (بلغة ماكس فيبر) وظيفتها توضيح التحليل.

يمكننا فضلا على ذلك، ملاحظة نوع من التشابه يقارب الفصل الذي أقامه بوبر وكذا ليفي شتراوس، بين المجتمعات التي "بلا تاريخ"، أو " الباردة" - هكذا تسمى قياسا مع الآلات الباردة مثل ساعة التوقيت- ثم المجتمعات "الساخنة" المسماة كذلك قياسا للآلات الساخنة مثل الآلة البخارية. هاته الأخيرة، تستهلك قدرا كبيرا من الطاقة، وتنتج كثيرا من العمل كما تنمي التوترات والتفاوتات الاجتماعية. لكن إذا كان ليفي شتراوس ينزع نحو تفضيل المجتمع البارد، الذي حسم أحيانا قضايا الحضارة التي نصطدم بها - الديموقراطية، واستبعد الصراعات وخاصة صراعات الأجيال، والتواصل بين الأفراد - فإن بوبر يعطي قيمة أكثر للمجتمع التاريخي، لأنه وحده يمكّن من تطوير العلم، ويدفع بلا توقف الاختلاف الفردي.

 حسب بوبر، يخلق في العمق الحنين إلى المجتمع المنغلق، إمكانية النزوع نحو التوتاليتارية. لماذا هذا الحنين؟. الانتقال من المجتمع المنغلق إلى المنفتح، لم يتم دون إحداث صدمة للوعي الإنساني. لأنه من جهة، كان منبعا لصعوبات جسيمة (صراع الطبقات هو بمعنى ما نتيجة لاختلاف المهام والأفراد، وفي الواقع فإن مجتمعا فردانيا بالنسبة لـ بوبر، لا يمكنه تجنب الحد الأدنى من الصراعات، ومجتمعا بلا صراعات سيكون مجتمعا للنمل).

من جهة أخرى، فلأن المجتمع المنفتح، أكثر تطلعا، وأقل حماية من المجتمع المنغلق. وبما أن الإنسان، حسب التحليل النفسي، ينجذب حتما وبشكل ارتدادي إلى مرحلة الطفولة (بل وإلى مرحلة ما قبل الولادة)، فإنه كذلك، في كل مرة تظهر خلالها صعوبة ما، ينجذب نحو نسيان الذات والانصهار في الجماعة، والوقوع تحت تأثير الرغبة في الاحتماء بقوة فوق بشرية ذات تراتب طبيعي، كل ذلك يتم بنزوع قوي.

إذن يشكل الخروج من المجتمع المنغلق، إزعاجا للحضارة. ويحلم الكثيرون، فيما وراء تجزئة المجتمعات الليبرالية الحديثة، بانبعاث تسلطي للوحدة المجتمعية. تمثل الفاشية، وبصورة أقل بعض أشكال الحركة الشيوعية، التعبير عن هذه الرغبة النوستالجية. ومع أنه لا يمكننا نفي حتمية النضج والانتقال إلى مرحلة الرشد، فلا يمكننا أن ننكر أن التطور الاجتماعي نحو المجتمع المنفتح، أمر غير قابل للارتداد. العودة إلى الوراء مستحيلة: وقف التحول السياسي لا يمكنه خلق السعادة. ولا يمكننا أبدا العودة إلى ما يفترض من تناغم وجمال المجتمع المنغلق، حينما نشرع في استعمال قوانا النقدية، يستحيل العودة إلى مرحلة الخضوع الضمني لـ "سحر القبيلة". من جهة ثانية، فأولئك الذين يتوخون بالرغم من كل شيء النظر إلى الوراء لا يصلون في الواقع إلا إلى إنشاء أنظمة الرعب. الرومانسية التي "تحلم بعالم الجمال"، تنتهي بخلق الجحيم.

يجب إذن حسب بوبر، دحض كل الإيديولوجيات التي تقوي الحنين إلى المجتمع المنغلق، ودعوة الأفراد إلى النهوض بالمجهود النقدي.

 

*المصدر:

Renée Bouveresse :le rationalisme critique de karl popper ;ellipses ;2000.