الحدث فكر ونقد
ثمّة إشارات إضافيّة تضمر اعتذارًا عن كتابة مقدّمة “فعليّة” لأطروحة البرغوثي للدكتوراة في “الأدب المقارن” من “جامعة واشنطن – سياتل”، في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، الّتي أنجزها في عام 1992 بعنوان: "الصوت الآخر: مقدّمة إلى ظواهريّة التحوّل". فبعد عقدين من القراءة و”استئلاف الموحش”، تمكّنتُ من تحويل هذا النصّ الكثيف - الشفيف إلى العربيّة في عام 2016. وقد رغبت في كتابة مقدّمة “أطول” تطوّرت لتصير كتابًا موازيًا للنصّ الأصليّ يتتبّع ظاهرة “التحوّل” في الأنواع الأدبيّة المختلفة الّتي أنجزها البرغوثي. وقد كُتب الفصل الأوّل بالفعل حول التحوّل في الشعر متّخذًا من ديوان “مرايا سائلة” نموذجًا (الشيخ، 2018)، ولا تزال فصول أخرى قيد الإنجاز. لكنّني كلّما أعدت قراءة النصّ أحسست بأنّ تقديمه على هذا النحو سيقتله، حتّى مضى أكثر من أربع سنوات دون أن يُنشر. أمّا الآن فثمّة أربعة احتمالات لقراءته.
رغبت في كتابة مقدّمة “أطول” تطوّرت لتصير كتابًا موازيًا للنصّ الأصليّ يتتبّع ظاهرة “التحوّل” في الأنواع الأدبيّة المختلفة الّتي أنجزها البرغوثي. وقد كُتب الفصل الأوّل بالفعل حول التحوّل في الشعر متّخذًا من ديوان “مرايا سائلة” نموذجًا...
لكن قبل عرضها، لا بدّ من التذكير بأنّ الكتابة عن المبدعين الكبار تستدعي ثنائيّة مربكة على المستويين الفكريّ والأخلاقيّ، وهي مصيدة ينبغي تجنّب الوقوع فيها: فمن ناحية، يزعم أصحاب الاختصاص من النقّاد أنّ مفكّرًا ما “لم يُقرأ بشكل جدّيّ”، وأنّ ما كُتب عن إنتاجه لا يتعدّى حالات من التموّض التسليعيّ والادّعاء المتطفّل؛ ومن ناحية أخرى، يواصل مَنْ يطالهم نقد المقولة الأولى، الادّعاء بمشاعيّة النصّ لقراءة “العَوامّ”، وإن لم يمتلكوا ذائقة النقد وأدواته. ولعلّ في هذا ما يذكّر بالطرفة السمجة، حول أوّل معرض أقيم للكتابات الأولى بلغة “بريل” في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. فلقلّة بصيرة المنظّمين، وضعوا الأوراق كلوحات فنّيّة مغطّاة بالزجاج ومؤطّرة بالخشب، فلم يتمكّن المبصرون من قراءتها، ولم يتمكّن المكفوفون من لمسها! في حالة البرغوثي، تتصاعد هذه الثنائيّة إلى أقصى درجات توتّرها، وتغدو كتابة “مقدّمة” لأهمّ عمل نظريّ له على الإطلاق مجازفة خطرة قد تنقذ النصّ، أو تميته، أو تحييه، أو تشتّته.
الإنقاذ مقولة أخلاقيّة وسياسيّة لا تخلو من الادّعاء، لكن من المفيد هنا استذكار لوحة تحذيريّة على رمل شاطئ بحر هائج، مؤدّاها أنّ "السباحة على مسؤوليّة مَنْ ينزل إلى الماء، وقد غادر المنقذ الوحيد". وعلى الرغم ممّا في هذه المقولة من إعفاء المنقذ وسلطة الشواطئ من المسؤوليّة، وإلقائها على عاتق السابح الّذي قد تقوده رعونته إلى حتفه، إلّا أنّ فيها، أيضًا، الكثير من المسؤوليّة في صدقيّة الإبلاغ عن ثمن المغامرة المحتمل. ولعلّ هذا المجاز يصدق على نصّ “الصوت الآخر”، بعد أن غادر المنقذ الوحيد حسين البرغوثي، ولن يعود. فكلّ ما يمكن أن نتعلّمه منه تعلّمناه، وهو: مهارة الحركة، وحسب. وسنقضي وقتًا طويلًا في قراءة نصّه الشاقّ الّذي يُقْرَأ دفعة واحدة، و”يُفهَم” على دفعات. لقد ترك البرغوثي في النصّ وخارجه ما يحيل إليه، لكنّ “الصوت الآخر” ليس صوته تمامًا، بل هو غابة أصوات خطرة عرف كيف ينجو منها، ويتجاوزها بيقين تعلّمه من مرشده الروحيّ في “الضوء الأزرق”: "سألتُه: 'كيف تعبر في بقعة خطرة؟'، أشعل لفافة تبغ، وبصق الفتات من فمه، وقال بعد صمت: 'بمعرفة أنّني أنا، أيضًا، خَطِر'" (البرغوثي، 2001).
هنا، والحديث كلّه حول صوت المؤلّف، لا بدّ من استدعاء إشارتين أوّليّتين بضرورة موت المؤلّف، أو إماتته، عند قراءة النصّ: الأولى، صاحبها ت. س. إليوت، وقد أعلن، بوصفه طفرة الشاعر-الناقد (ويلك، 1970)، أنّ النصّ ليس وثيقة مرجعيّة للشخصيّة والمشاعر، بل هو فضاء للإفلات منهما، ولكنّ مَنْ يملكون الشخصيّة والمشاعر يعرفون كيف يخفونهما في النصّ، كيف يهربون ولا يمسك بهم أحد (إليوت، 2014). والأخرى، لصموئيل بيكيت، الّذي كان لا يقول الكلمات حتّى تقوله، لكنّه كان يواصل الادّعاء بعدم معرفته: من يتكلّم؟ وهل يهمّ من يتكلّم؟ (بيكيت، 2010). كتب البرغوثي أطروحته للدكتوراه، العمل النظريّ الّذي أنتجه الأكثر كثافة ورصانة، ليجيب عن سؤال بيكيت الخطّيّ الّذي لم يُجِبْ عنه أحد. لكنّ تقديم عمل البرغوثي على نحو يجزم بأنّ الصوت الّذي في النصّ صوته، هو إجهاض للنصّ وليس إنقاذًا له؛ إذ إنّ إنقاذ النصّ، فعليًّا، هو إدامة تخيّل المجهول الّذي لم تقله الكلمات، ومواصلة الرحلة إلى ما وراء قصد المؤلّف والناقد والقارئ... لبلوغ قصد النصّ الّذي لا يُدْرَك إلّا بوصفه “لا يُدْرَك”. وعليه، فإنّ تأبيد لاإدراكيّة النصّ، وليس إدراكه، هو ما ينقذ النصّ، وليس العكس.
أمّا مَنْ لا يستطيع خوض غمار هذه الرحلة السرمديّة في البحث عن قصد النصّ، فقد يحتاج إلى دليل أوّليّ للقراءة. ولكنّ خطورة الدليل المفتاحيّ أنّه يتطلّب إجراء “تشريح” (Autopsy) لجسد النصّ، كما يحتاج إلى موافقة أهل الفقيد لإجراء التشريح، وهي موافقة تُضْمِرُ - قانونيًّا واجتماعيًّا وأنطولوجيًّا - إقرارًا بموته؛ موت المؤلّف وموت المؤلَّف في آن معًا. كما أنّ التشريح هو الاختصاص الطبّيّ الوحيد الّذي لا يستفيد منه “المريض” وقد صار “ميّتًا”، ولا تلزم نتيجة الكشف إلّا لإراحة ضمير أهل الفقيد حول سبب الوفاة. مات حسين البرغوثي، وكلّ ما فعله فرانسوا أبو سالم في “لا، لم يمت” (البرغوثي، 2002-أ)، لم يكن إلّا مجازًا في مديح الجميل. لم يحتج ذوو البرغوثي، وهم كثر بقدر محبّته، إلى عمليّة تشريح لسبب وفاته؛ لأنّه عرف السبب بنفسه قبل 21 عامًا، تحديدًا في 25 آب 1999: الـ “ليمفوما”. لخّص البرغوثي التقرير الطبّيّ بفقرتين محايدتين، طول كلٍّ منهما سبعة أسطر بالعربيّة، مع بعض التفاوت بالإنجليزيّة، وكتبهما كتابة آليّة دون أن يقصد أن يكون سورياليًّا... ومضى يتمّم أثره الّذي تركه لنا. أمّا تشريح النصّ، الّذي ظلّ مفقودًا قرابة ثلاثة عقود بسبب الإهمال، فمن شأنه أن يقدّم قراءة تنافذيّة صارمة لإرثه، لكنّه، أيضًا، يحتاج إلى تصريح لا يملكه أحد، لا من أقارب الدرجة الأولى ولا سابلة الثقافة السعداء الّذين يقرؤونه ويقتبسونه دون محاورة، فالنصّ هو مالك نفسه، ولن يَسْمَحَ بإحالة جسده الحيّ، وبالتالي جسد البرغوثي “الأثيريّ”، إلى جثّة فاقدة للحياة مستباحة على طاولة التشريح، حيث لا يقوى بعدها على الدفاع عن نفسه أبدًا، ويخرج من شقاء الإمكان إلى سعادة التعيّن.
جاء تقرير التشريح الّذي أجراه سارتر في 700 صفحة، فأربك جينيه، ولم يتمكّن من تلخيصه مثلما فعل البرغوثي في سبعة أسطر! ولعلّ في هذه الأمثولة درسًا مفيدًا، مؤدّاه: أنّ في الاختصاص المعرفيّ خطورة على النصّ تُداني خطورة الابتذال والتطفّل...
وفي هذا السياق، لا بدّ من استذكار ما نسبه جورج بتّاي (بتّاي، 1952)، إلى صديق الفلسطينيّين جان جينيه، من تعليق على الكتاب الهائل الّذي أنجزه جان بول سارتر عنه، وهو لا يزال حيًّا، بعنوان: “القدّيس جينيه: ممثّلًا وشهيدًا” (سارتر، 2012). سُئِل جينيه عن الكتاب، فقال بما معناه: بعد عمليّة التشريح الّتي أجراها سارتر لي، ثمّة جثّة لا تزال متخشّبة على طاولة التشريح، لكنّ مَنْ يحدّثك الآن هو جينيه آخر! جاء تقرير التشريح الّذي أجراه سارتر في 700 صفحة، فأربك جينيه، ولم يتمكّن من تلخيصه مثلما فعل البرغوثي في سبعة أسطر! ولعلّ في هذه الأمثولة درسًا مفيدًا، مؤدّاه: أنّ في الاختصاص المعرفيّ خطورة على النصّ تُداني خطورة الابتذال والتطفّل. فحين يقطع الناقد الشكّ باليقين، فإنّ اليقين يكون قد مات بعد أن أحاله مبضع التشريح إلى جثّة مفتوحة ومستباحة. هنا، ثمّة تأنيب ضمير أخلاقيّ على الكتابة وعدم الكتابة، وثمّة علاقة عشق صوفيّة مع سرّ الجميل، لا ينبغي البوح به تمامًا، ولا ينبغي إبقاؤه مخفيًّا؛ لأنّه ينبغي أن يُعْرَف.
“للنوايا روائح”، لكن لا شكّ في نوايا سارتر الّذي كان يرغب في إحياء جينيه فأماتَ نصّه، مع أنّه كان ينبغي أن يفعل العكس: أن يميت جينيه، كسلطة على المعنى، ليُحْيَيَ النصّ. وهذا مقترح ليس بالجديد، لكنّ أصحاب مقولة “موت المؤلّف”، وأشهرهم رولان بارت وميشيل فوكو، لم ينتبهوا تمامًا لمقترح عمليّ يقضي بـ “إخفاء المؤلّف”، لا إماتته تمامًا بتشريح نصّه، فيموت الاثنان... وهو مقترح موريس بلانشو، ولا أحد غيره. فقد سبق هذا الرجل، الّذي يشبه التيّارات تحت-السطحيّة للأمواج العملاقة، وأشار - قبل عقد من زمن بارت وفوكو - إلى ضرورة تغييب المؤلّف، بغية منح فرصة للوقوف على السيرة الأنطولوجيّة للمؤلّف نفسه (بلانشو، 1981). ومَنْ يتأمّل حديث بلانشو يجد فيه صدًى ما لمقولة إليوت رغم سذاجتها، بضرورة إخفاء الشاعر لصالح المشاعر؛ إذ إنّ إحياء الكتابة يتطلّب انسحاب الكاتب، لإتاحة المجال أمام الكلمات.
كان بارت الأكثر شجاعة في إعلان موت المؤلّف ثمنًا لولادة المؤلّف، إذ بالقراءة يبدأ المعنى لا بالكتابة. صحيح أنّ الكتابة تهدم كلّ الأصوات لتبني إمبراطوريّة الكاتب، لكنّ بارت شرع في هدم تلك الإمبراطوريّة لكي يحرّر المعنى الّذي لا تتحدّد هويّته إلّا بغياب محتكرها الأكبر، وهو: المؤلّف. فعلى الرغم من مكانة المؤلّف الرسوليّة، والحديثة نسبيًّا، الّتي عزّزتها موضة الكتابات الأتو-بيوغرافيّة في الحاضنة الغربيّة، إلّا أنّ إصرار بارت على كسوف المؤلّف كان لافتًا؛ بغية جعل اللغة وحدها تنجز المهمّة من خلال تحرّك المعنى عبرها. لقد أتاح انتصار السورياليّة لبارت أن يستخدم “الكتابة الآليّة”، دليلًا على إمكانيّة مباغتة المعنى الّذي يضمره المؤلّف، أو يزعم قرّاؤه أنّه كان يضمره (بارت، 1977). فاليد الّتي تكتب بسرعة تفوق العمليّة الذهنيّة ينبغي أن يُكافَأ منتوجُها بالعناية، أكثر من “المعنى” الّذي لم يكتمل “وروده” إلى حياة اليد الساخنة، قادمًا من ثلج الذهن البارد. ولعلّ هذا يستدعي، مرّة أخرى، المقولة الصوفيّة: "الكتابة على قدر الوقت، لا على قدر الوارد"، ذلك أنّ المفازة الجليديّة للعقل الإلهيّ، الّذي يصدر عنه الوارد، تقبع في الربع الخالي لذهن المريد، الّذي كان قصبة شاغرة قبل أن يصير قصبة شاعرة. أمّا البرغوثي فقد طوّر مفهوم “الكولاج” للتعبير عن هذه الانتباهة السورياليّة، أي أسبقيّة الحواسّ على الذهن، ومن ثَمَّ الحضّ على ضرورة امتلاك قدر من الوفاء بمكافأة يد-الكتابة، على كدّها، لا عقل-الكاتب.
يفسّر فوكو فعل الإماتة ويتواطأ معه، لكنّه يبحث في الفراغ الّذي يتركه موت المؤلّف في النصّ. ولعلّ في هذا ما يشي بتعاطف فوكو مع غيرة بارت على النصّ، وصرامته مع رومانسيّة بارت في ترك النصّ على عواهنه، دون البحث في جينيالوجيا السلطة للأصوات المتنافسة على “إعادة-إنتاجه” على شكل خطاب...
أحال بارت المؤلّفَ إلى لسان “شخص” مضى وانقضى، بعد أن “قال” ما لديه وأودع فيه أقانيمه الّتي برسم الاكتشاف: مجتمعًا، وتاريخًا، وجغرافيا، أمّا الكتابة فهي “فعل” و”الفاعل” يبقى مختزَنًا في اللغة الّتي تعبّر عن إمكانيّة حيّة للمعنى المتجدّد في الزمن. واختلاف الزمن هو الّذي يحدّد مكان كلٍّ من المؤلّف، والناسخ، والمؤلَّف. المؤلّف يتلاشى بعد أن “يقول” مقولته فيصير هو ومقولته فعلًا ماضيًا؛ أمّا الناسخ الحديث، “الّذي دفن المؤلّف” ولم يتلقّ فيه العزاء، فتتواصل فاعليّته في الكتابة بتواصل القراءة كحاضر مستمرّ، في كلّ “هنا” و”الآن”، ومع كلّ “قارئ” جديد للنصّ يتقصّى مدلولاته اللانهائيّة.
قبل ميلاد بارت بربع قرن، كان فريدريك نيتشه قد أعلن “موت الله” بوصفه “المؤلّف الأوّل” لأشياء كثيرة (نيتشه، 2016). أمّا ميشيل فوكو فالتقط من نيتشه “الموت”، ومن بارت ومارتن بوبر “الكسوف” (بوبر، 1988)، ومن بلانشو “الإخفاء”... ليعزّز موت المؤلّف بوصفه “نشاطًا ثوريًّا محضًا”. عاد فوكو بالسؤال إلى أوّله، لا ليستفسر إن كان المؤلّف قد مات أو لا، بل ليعرِف: “ما المؤلّف؟”، وذلك باستدعاء مقولة بيكيت حول “تسمية المتكلّم”؛ ليسبر العلاقة بين النصّ والمؤلّف من ناحية، وليبحث عن بنى السلطة الكامنة وراء “شبح المؤلّف”، من ناحية أخرى. هنا، يفسّر فوكو فعل الإماتة ويتواطأ معه، لكنّه يبحث في الفراغ الّذي يتركه موت المؤلّف في النصّ. ولعلّ في هذا ما يشي بتعاطف فوكو مع غيرة بارت على النصّ، وصرامته مع رومانسيّة بارت في ترك النصّ على عواهنه، دون البحث في جينيالوجيا السلطة للأصوات المتنافسة على “إعادة-إنتاجه” على شكل خطاب. يقترح فوكو “نظريّة في القراءة” تستكنه بنى السلطة الّتي تستبدل باستعلائيّة “المؤلّف” المعروف الّذي مات أو كاد، استعلائيّة المؤلّف الجديد للخطاب الّذي يُحْكِم قبضته على عنق النصّ لإنتاج المعنى عبر: تحديد النصّ، واشتراطات تَلَقّيه (فوكو، 1977). يتحوّل النصّ إلى خطاب، وتتوسّع مهمّة المؤلّف الجديد من حيث: الارتباط بالنظام القانونيّ الّذي يحدّد “ملكيّة” النصّ مؤسّسيًّا، والاقتصاد السياسيّ للشروط الّتي أُنْتِج فيها النصّ، ومغايرة المكانة تبعًا للنوع الكتابيّ أو الحقل المعرفيّ للنصّ، وتذرُّر “مؤلِّفِيَّة” النصّ، حيث لا يغدو مؤلّف التمهيد هو ذاته مؤلّف المقدّمة... وهكذا دواليك، حسب سياسات “القراءة” الّتي تحدّد الفاعلين الجدد وخطاباتهم النقديّة. ولعلّ الإضافة الحقيقيّة لفوكو، في هذا السياق، أنّه يصف “طوبوغرافيّة النصّ” كخطاب، فالمؤلّف لا يموت، بل ينوب عنه “آخرون” انتحلوا دوره، وأعادوا تعريفه.
لم تُفْضِ سجالات موت المؤلّف إلى غيابه التامّ، بل نازعَتْه على ملكيّة النصّ، وسلطة مَنْ يستمدّون منه سلطتهم في القراءة. وقد بارك أمبرتو إيكو تلك الإزاحة للمؤلّف، مشيرًا إلى أنّ النصّ نفسه "آلة تخيّليّة مستقلّة" قادرة على إثارة التأويل، ولذا، لا يُنْصَح المؤلّفون بشرح نصوصهم مطلقًا. أمّا في النصوص المترجمة، فقد أشار إيكو إلى ثلاثة حقوق في إنتاجها: حقّ المؤلّف، وحقّ المترجم، وحقّ النصّ؛ أي حقّ القارئ التجريبيّ المصاب بأرق المعرفة غير الاحترافيّة، وهو الوحيد الّذي يمنح النصّ حياة سرمديّة عبر سلسلة من "القراءات المغلوطة"، فيبقي النصّ مفتوحًا (إيكو، 1996). يمتدح إيكو هذه القراءات لأنّها تحيل النصّ إلى نزهة يحضّر فيها المؤلّفون الكلمات، والقرّاءُ المعنى، كلٌّ حسب "خزانته الاجتماعيّة" الّتي تقوده إلى اكتشاف النصّ، ضمن مغامرة سرنديبيّة تحوّله من نفق إلى أفق.
وبينما يقف إيكو في منزلة بين موت المؤلِّف وموت المؤلَّف، يَخِزُ الساخر الأكبر، جاك دريدا، الجميع بدبّوس من العبث والفكاهة حين يعلن موت مؤلّف "موت المؤلّف" (دريدا، 2001)، ويسأل: كم مرّة مات بارت؟ وكم مؤلّفًا أمات قبل موته؟ وماذا تبقّى من بارت، وفكره، إلّا ما ننتجه نحن؟ لم تجئ مقولات دريدا لإذابة الملح النظريّ في مقولة بارت، بقدر ما تقصّدت إضافة أبعاد جديدة للقراءة الّتي اقترحها البرغوثي لقراءة "الصوت الآخر": "لقد كُتِبَ هذا النصّ على نحو 'تجريبيّ' بأكثر من كتابته على نحو شبه منطقيّ صلد. لقد كُتِبَ على نحو شعريّ وسورياليّ ليقدّم مثالًا لتجربة حيّة على تحوّل الذات، وليتجنّب أيّ محاولة لـ 'إدماج' أنظمة مقولات متعدّدة في نظام نهائيّ 'واحد' يعمل كرصيف أخير أو محطّة نهائيّة. إنّه نصّ غير تقليديّ، إنّه خطاب تفكيكيّ غير مألوف. وعليه، فإنّه يقتضي نمطًا آخر من القراءة، ليس أحاديّ الفكرة ولا متعدّدها، بل نمط قرائيّ تشتيتيّ" (البرغوثي، 1992).
يدعو البرغوثي القارئ إلى "التشتيت" بدلًا من "التثبيت"؛ لأنّ كلّ فقرة في النصّ تختزن تعدّدًا دلاليًّا، يستعصي على القراءة الخطّيّة الشائعة، الّتي لا تفلح في تفسير "متاهة المعنى" في النصّ الّذي يبدو شعريًّا، لأنّه كذلك، ونقطته المرجعيّة الوحيدة، هي انعدام المرجعيّة...
يستند البرغوثي إلى دريدا، لتحفيز متلقّي "الصوت الآخر" على استخدام آليّة قراءة تشتيتيّة، تعامل "الحقائق كأوهام" و"الأوهام كحقائق" بغية نقد كليهما. وإذا تجاوز المرء هذا الأثر النيتشويّ في دريدا والبرغوثي، فإنّ التشتيت في صميمه يقضي بعدم اختزال كلّانيّة النصّ في فكرة واحدة ذات طابع خطّيّ، تلهث وراء المعنى المركزيّ لتقبض عليه، حرفيًّا، كما تلاحق الشرطة الجناة. فَدَريدا يعتقد أنّ قراءة كهذه - وإن تضمّنت تعدّدًا دلاليًّا - ستقود إلى انبثاق أحاديّ للمعنى، يعدم طاقة النصّ على التحرّك المفتوح لإنتاج "السلسلة النصّيّة". أمّا التشتيت فهو آلة توليديّة لا تقبل الاختزال، وتحول دون إغلاق النصّ، وتمنع شَكْلَنَتَه (دريدا، 1982). ولذا، يدعو البرغوثي القارئ إلى "التشتيت" بدلًا من "التثبيت"؛ لأنّ كلّ فقرة في النصّ تختزن تعدّدًا دلاليًّا، يستعصي على القراءة الخطّيّة الشائعة، الّتي لا تفلح في تفسير "متاهة المعنى" في النصّ الّذي يبدو شعريًّا، لأنّه كذلك، ونقطته المرجعيّة الوحيدة، هي انعدام المرجعيّة. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ النصّ بلا معنى، بل هو نصّ ينطبق عليه مفهوم دريدا للكتابة الجديدة "الّتي نخاطر فيها بأن لا نعني شيئًا" إلّا ما ينتجه القارئ، لا ما يستنتجه. ولكنّ البرغوثي يغفل عن هذا التحديد المنهجيّ النظريّ، حين يبتعد عن المقدّمة وتأخذه شاعريّة الموضوع للقول: "إنّ النصّ إذا كُتِبَ ليقرأه الآخرون يظلّ ناقصًا في عين مبدعه، حتّى يُقْرَأ. إنّ قنبلة نوويّة لا تكتمل، في عيون أوغاد الجيش من كلّ نوع، حتّى تُسْتَخْدَم" (البرغوثي، 1992).
الترجمة عند أمبرتو إيكو "تَفاوُض" جرى تسليعه، كما يكشف حوار بين زبون وتاجر في سوق فارسيّ: يطلب التاجر مئة، ويدفع الزبون عشرة، وتُباع السجّادة بخمسين! لكنّ ما يضيع في هذه "المُفاصَلَة" هو الجماليّ الّذي يُحَسّ ولا يُدْرَك، أو ما وصفه إيكو بـ "ما لا يُقال" في "النصّ الكسول"، وهو يغري بإجراء "تحويل" للنصّ لا "ترجمة"، كما اقترح البرغوثي في "توجد ألفاظ أوحـش من هذه": "لا أُتَرْجِم، بل أُحَوِّل" (البرغوثي، 1998-أ). أمّا فالتر بنيامين فيسخر من "وضع خدمة المتلقّي في الاعتبار"، لما يلحقه ذلك من ضرر بالعمل الفنّيّ والدرس النظريّ له في آن معًا. صحيح أنّ بنيامين يرى في الترجمة السبب الوحيد المعقول لقول "نفس الشيء" بصورة متكرّرة، لكنّ الأمر المربك هو تحديد ماهيّة "نفس الشيء" المراد قوله، وهل سيكون "نفسه" حقًّا. فالترجمات الرديئة، في نظر بنيامين، هي نقل غير دقيق لمحتوًى غير جوهريّ؛ إذ الجوهريّ في النصّ هو الشاعريّ فيه، الّذي لا يستطيع اقتناصه إلّا المترجم الشاعر. ومع أنّ النصوص ليست كلّها سواء من حيث قابليّة الترجمة، إذ خصّص الجاحظ لعدم قابليّة الشعر العربيّ للترجمة فصلًا شوفينيًّا في "كتاب الحيوان" (الجاحظ، 1996)، إلّا أنّ الشاعر، حسب بنيامين، هو وحده القادر على تجاوز المعنى المعلوماتيّ-المُدْرَك نحو المعنى الجوهريّ-المحسوس في النصّ. ولأنّ الأعمال العظيمة تختزن قابليّة عالية للترجمة، فإنّ نقل جوهرها إلى لغة أخرى يطيل عمرها. ولأنّها لا تُتَرْجَم في حياة أصحابها، فإنّ الترجمة-التحويليّة تصير جزءًا من تاريخها الأصليّ وحياتها البَعْدِيَّة (Afterlife)، حقيقةً لا مجازًا.
تتجاوب في "الصوت الآخر" أصداء بنيامين، دون أن يذكره البرغوثي الّذي يذهب إلى تأكيد أنّ الذهن البشريّ سيرورة متدفّقة (Flux) تنتمي إلى التاريخ جدليًّا: تصنعه ويصنعها عبر فعل "التحويل". لكنّ الخلاصة السياسيّة في الأمر، إن كان نقل النصّ الأصليّ إلى لغة أخرى "تحويلًا" لا "ترجمة"، هي أنّ الـمُحَوَّل، يصنع وثيقة تاريخيّة حين يستنطق ماضي ذاكرة النصّ "المقدّسة" في حاضر تاريخه "العلمانيّ". هنا، لا ينتصر مؤلّف النصّ الأصليّ بسيف الـمُحَوَّل فيحقّق الشهرة، ولا ينتصر الـمُحَوَّل بسيف المؤلّف فيحقّق الريادة، بل ينتصر الجوهر الشاعريّ في النصّ على النسيان. وهنا، تحدث طفرة خاصّة وصف البرغوثي الشقّ الأوّل منها بـ "الخلود بالتجاور" (البرغوثي، 1999)، وأصف أنا اليوم شقّها الآخر بأنّه "الخلود بالتجاوز". هذه تمامًا هي مهمّة "التحويل"، لا الترجمة، حين تكون الصيغة الجديدة للعمل تحويلًا للشاعريّ فيه، ومن جنسه، وبصوته نفسه وهو يتحوّل، تدريجيًّا، إلى صدى. وبما أنّ البرغوثي يجزم أنّ الصوت الأوّل يمكن أن يكون صدى "لقِوًى عليا"، فالصيغة الـمحوّلة، إذن، تصير صدى الصدى. يرى بنيامين أنّ العثور على هذا "الصدى" ذروة سنام عمل المترجِم، الّذي ينبغي أن ينشغل بالقصد الشعريّ (Intention) الموجود على حوافّ الغابة النصّيّة، لا بالـمُلْهِيات السياقيّة لبنيته اللغويّة (Context) في مركزها (بنيامين، 2002). وهنا يكمن الفرق بين قصد الشاعر الّذي "يُحَوِّل"، وهو قصد عفويّ وأوّليّ وتصويريّ، وقصد المترجِم الّذي ينقل، وهو قصد اشتقاقيّ ونهائيّ وتصوّري.
يؤكّد بنيامين أنّ "الأمانة" تقتل النصّ؛ لأنّها بتعبير الآمديّ تحيط بما فيه من معرفة (المعنى المُدْرَك)، ولا تبلغ توصيف ما فيه من شاعريّة (المعنى المحسوس). وبذا، فالنقل الأمين للبنية اللغويّة هو وفاء قبيح، فيما أنّ الخيانة الجميلة هي تحوّل الجوهر الشاعريّ إلى صدى...
ثمّة مقولة متداولة في حقل الترجمة بأنّ "الجميلة الخائنة، أفضل من القبيحة الوفيّة". وإذا ما تجاوز المرء التجنيس، غير الجميل وغير الوفيّ، في المقولة، فإنّها تعبّر تمامًا عن "روح الترجمة" الّتي ينجزها المترجمون الشعراء الّذين تاق إليهم بنيامين، وعبّر عنها الآمديّ، في ألفيّة سابقة، بأنّها "ما تحيط به المعرفة، ولا تدركه الصفة" (الآمديّ، 1973). وهي، أيضًا، مقولة تخصّ مسألة "الأمانة" في "النقل" لا في "التحويل". هنا، يؤكّد بنيامين أنّ "الأمانة" تقتل النصّ؛ لأنّها بتعبير الآمديّ تحيط بما فيه من معرفة (المعنى المُدْرَك)، ولا تبلغ توصيف ما فيه من شاعريّة (المعنى المحسوس). وبذا، فالنقل الأمين للبنية اللغويّة هو وفاء قبيح، فيما أنّ الخيانة الجميلة هي تحوّل الجوهر الشاعريّ إلى صدى. حين ترجم البرغوثي مسرحيّة "هاملت"، استأنس بترجمة جبرا إبراهيم جبرا (شكسبير، 1979)، ولكنّه وعد بـ "ترجمة أكثر خيانة"، ووفى. أوّلًا لأنّه كان واعيًا للتساقي الأوروبّيّ؛ الإسبانيّ فالإيطاليّ فالإنجليزيّ، مع الشعر العربيّ، وثانيًا لأنّه أراد "إعادة صياغة شاعريّة هاملت"، ليس فقط بفعل "الخيانة الجذريّة" الّتي غايتها الوفاء فحسب، بل بفعل "إساءة القراءة" كرؤيا جذريّة-تشتيتيّة للنصّ، بتعبير دريدا، مهمّتها "التشعيب في المعاني والإيحاءات" تجعل من النصّ العربيّ "المُسْتَزْرَع"، الّذي نُقِلَت جذوره إلى تربة أخرى، مرآة جديدة لـ "هاملت"، تتناسخ فيها روح شكسبير (البرغوثي، 1997).
هنا، تتحقّق "الترجمة الحرّة" الّتي استطاعت القبض على شيفرة النصّ الأصليّ، على الرغم من أنّ الترجمة-التحويليّة، لا الـحَرفيّة، هي الّتي تتمكّن من مسّ الجوهر الشاعريّ مثلما يُقَبِّل مماسٌّ دائرة، بخفّة، وفي نقطة واحدة، وعلى نحو سرمديّ. أمّا ناتج الترجمة-التحويليّة فيصلح في أن ينتمي إلى النوع الّذي وصفه محمود درويش بـ "النثر الإلهيّ" الضروريّ لانتصار الرسول (درويش، 1995)، وهوِس به البرغوثي، ولجأ إليه، فحَوَّل، ولم يُتَرْجِم. إنّه نمط من الكتابة الّتي تختزن في صميمها قابليّة الترجمة دون شروط؛ إذ يَعْبُر جوهرها الشعريّ حدَّي التزمين والتمكين، وقد بلغ حدّ القداسة.