ثمانية أشهر ونحن خلف هذه الشاشات المملة، نطوّع التكنولوجيا في سبيل الاستمرار في التعليم. هذا التعليم الذي بتنا لا نفهمه، والذي جاء نسخةً بشعة عن تعليمنا الذي تلقيناه في أروقة مؤسساتنا التعليمية؛ نسخة مغمسة بالمشاكل التقنية، والامتعاض الواضح من جميع مكونات هذه العملية التعليمية.
وهذه الاستمرارية التي أصبحت العنوان والشعار الأهم والرئيسي في هذه المرحلة، بغض النظر عن جودة التعليم وكفاءته. فالتعليم لم يتوقف للحظة واحدة تأخذها كوادر هذه المؤسسات للتفكير ملياً بالشكل الجديد الذي ستأخذه عملية التعليم في ظل الظروف الاستثنائية التي نمر بها، ولا حتى لتدريب الكوادر وتوفير الموارد اللازمة. فانشغلنا بإحصاء عدد المحاضرات الإلكترونية المنعقدة في يوم ما، وعدد الامتحانات التي قدمت، والطلاب الذين التحقوا بمحاضراتهم من خلف أجهزة ما انفكت تظهر مشاكلها التقنية. وهكذا، وقعنا في وهم الاستمرارية، متناسين خصوصية هذا التعليم الذي من المستحيل أن يكون نسخة إلكترونية عن ذاك الذي تلقيناه وجاهياً.
ثمانية أشهر من التعليم الإلكتروني انتهت بإعلان إغلاق جامعة بيرزيت ووقف جميع الأنشطة الأكاديمية من قبل الحركة الطلابية حتى إشعار آخر وحتى تحقيق المطالب التي رفعتها لإدارة الجامعة. أزمة تفاقمت مع كل تسجيل دخول على 'زووم'، وكل اختبار أُتلفت أعصابنا ونحن نقدمه خوفاً من خلل في الإنترنت أو انقطاع في الكهرباء. وبات واضحاً بأن الكادر التعليمي غير راض عن هذه العملية، فالتواصل من خلف الأجهزة صعب ومزعج، وهذا السجن المغلق بإحكام اختفى، فكيف سيتحكم المعلم بعمليات "الغش" في التقييمات المختلفة، وكيف سيتأكد أنه هناك من يسمعه في الطرف الآخر. وبالمقابل، لماذا يحفظ الطالب معلومات سينساها فور انتهائه من الامتحان، وهي مكتوبة على دفتر بالتفصيل؟ وكيف ستثير اهتمامه محاضرة لا يحصل فيها إلا على صوت متقطع أحياناً وصورة معلمه إن كان حظه سعيداً؟
إذاً، المشكلة أعمق من كونها مشكلة طالب مهمل أو معلم ضجر من هذا التعليم. المشكلة أننا لم نفكر في طريقة أنسب تلائم هذا الواقع الجديد، أو الأجدر بنا أن نقول إننا لا نريد أن نفكر. فماذا كان يحصل في مؤسساتنا التعليمية ما قبل الكورونا؟ كنا نجلس على مقاعدنا، نستمع مرغمين لمحاضرات تثير اهتمامنا أو لا تثير (ليس مهمّاً). وكنا نجلس كل فترة في ذات المقاعد، لنفرغ هذه المعلومات التي تلقيناها من المعلم، وننتظر نتيجة الاختبار. هذه النتيجة أو العلامة التي أصبحت محور عمليتنا التعليمية الأهم، فالمهم الوصول لأعلى النتائج بغض النظر عن الطريقة، وبغض النظر عن استقادنا الحقيقي من هذه المعلومات أو تطبيقنا لها.
وبالمقابل، ماذا حصل عندما أتت "كورونا" تقحم تفاصيل حياتنا؟ كان توقعنا أن تستمر هذه العملية بالطريقة ذاتها، ومن هنا بدأت المشاكل تظهر وتفرض نفسها. وإذا ما نظرنا للبدائل فهي كثيرة، إلا أن المشكلة فيها أنها تحتاج وقتا لا نملكه في عالمنا السريع الذي لا ينتظر أحداً أو شيئاً. وباختلاف المواد التي يتم تدريسها، يمكننا الاستغناء عن هذا الأسلوب التلقيني المعتاد، فيصبح المعلم ميسراً ليس إلا. فإذا استفسرت من طالب عن معلومات يتذكرها من امتحان حفظ دروسه، فإنك لن تحصل على إجابة مرضية، أما إذا سأل هذا الطالب عن معلومات من تقرير أو عرض قام به، فإنه سيتذكر معلومات أكثر. ثم ما المشكلة في أن يتم دمج الطلاب في عملية التعليم بحيث تصبح لقاءات زوم مجرد نقاشات يشارك الجميع فيها بجهده الخاص، وما المشكلة من النقاشات حتى في مادة كالفيزياء بحيث يقوم كل طالب بحل مسألة رياضية أمام زملائه ويناقشها، أو يقدم عرضاً موجزاً عن موضوع معين يتناوله المساق قبل البدء فيه؟ ولكنني كما ذكرت سابقاً، هذه البدائل قد يكون تطبيقها مستحيلا، فالمعلم لديه الكثير من المواضيع لتغطيتها والقليل من الوقت – لينهي الطالب المساق ويأتي غيره ليتم إنتاج أكبر عدد من "الرياديين" الذين ينخرطون بشجاعة في سوق العمل.
لا ننكر بأن بعض الطلاب اعتبروا التعليم الإلكتروني فرصة ذهبية لجني أكبر قدر من العلامات بسهولة من خلال الأساليب المختلفة للتحايل على الوضع الحالي، إلا أن هذه المشكلة متجذرة في فهمنا المغلوط عن التعليم وتصوراتنا وتطلعاتنا تجاهه. هذا الفهم الذي لا يريد المجتمع الرأسمالي تغييره، فهو ينتج الطلاب بالعتاد اللازم للانخراط في الحياة العملية ويعمّق فينا الفردانية والعديد من الصفات التي لا تخدم إلا هذا المجتمع الذي لا يفكر إلا بالأرقام.