الانتخابات الأمريكية الأخيرة، 2020، أثبتت ودون تأويل، نجاعة ورصانة النظام السياسي الأمريكي بمكوناته السياسية والاجتماعية والأمنية والحزبية. وأعطت هذه العملية المعقّدة والشاقة زخماً عالمياً ترقبه كثيرون حول العالم، ليس لأهمية البلد الذي شهد الانتخابات، (الولايات المتحدة) فقط، وإنما لذهول المتابعين بآلية العملية الديمقراطية، والاهتمام الهائل من الأوساط السياسية والإعلامية والأمنية بنجاح سير هذا الاستحقاق، وتحوله لـ ''حدث تاريخي" للمواطن الأمريكي، وجذب غيرهم لمحاكاة التجربة، والإعجاب بها أيضاً.
قد انكبت معظم الفضائيات الدولية وحتى العربية، ومعها التحليلات السياسية قبيل الانتخابات الأمريكية الأخيرة، على وضع تصورات وسيناريوهات لما ستؤول إليه هذه الانتخابات. جل هذه التحليلات افترضت أن الرئيس الأمريكي (الحالي) دونالد ترامب (بصفته الشخصية)، يملك قدرة وسلطة توازي الحكومة الفيدرالية نفسها، وأنه (ترامب) "سيعرقل" انتقال السلطة إذا ما فاز منافسه الديمقراطي (جو بايدن). لكن الحقيقة هي أن ترامب ظاهرة شعبوية ليست أكثر، ستزول مع يوم تنصيب الرئيس المنتخب في يناير العام المقبل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التحولات التي شهدتها الانتخابات الأخيرة (انقسام الناخبين، وطعونات الانتخابات، وتصريحات الرئيس ترمب) لاتعني بالضرورة تراجع فاعلية العملية الديمقراطية والمؤسسة الحاكمة. ومحور هذا الحديث يأخذنا لتتبع واستكشاف منابع القوة الأمريكية، بتوليفتها التي أظهرت للعالم عبر انتخاباتها أنها منظومة متكاملة جاءت بجهد أمة بأكملها تختار لنفسها أن تكون في مقدمة الأمم والنظام الدولي.
من بين هذه المنابع المهمة في الانتخابات الأخيرة ثلاثةٌ أساسية لفهم المسار الذي تتبعه الولايات المتحدة في انتخاباتها.
أول منابع هذه العملية أنها تستند على نظام فيدرالي مركب للاتحاد ككل، وتحظى كل ولاية بأهمية عضوية في مؤسسات الحكومة الأمريكية والرئاسة والكونغرس، ويرجع ذلك للنظام الانتخابي “المعقّد” الذي نحته المؤسسون الأوائل في آواخر القرن الثامن عشر، ويبرهن على "الفطنة" التي كان يتمتع بها واضعوه، حيث ارتأوا ذلك لمساواة الولايات التي كانت وليدة الاتحاد في التركيبة الفيدرالية، واعتبارها رقماً مهماً تبعاً لعدد سكانها. فقوة النظام السياسي من قوة الاتحاد.
ولأن النظامين السياسي والانتخابي فعّالان ومميزان، يأتي المنبع الثاني، وهو الدستور الأمريكي (1787)، حيث كفِلَ في (مادته الثانية، الفقرة الأولى، النقطة الثالثة)، الآلية التي يُنتخب بها رئيس الولايات المتحدة بطريقة تضمن ديمومة هذه العملية الانتخابية، وتكون "تعاونية" بين الناخب (المواطن العادي) وممثل الولاية (المُجمع الانتخابي) ومجلس الشيوخ بطريقة (تراتبية). فدستور الولايات أهم وثيقة للبلاد، ومن الصعب تعديل بنوده، لأنه يلزم أن يقترح ثلثا كل من مجلسي الكونغرس تعديلاً، ويُلزم أن يوافق عليه ثلاثة أرباع الهيئات التشريعية في الولايات، ويطالب ثلثا الهيئات بعقد مؤتمر خاص، وأن يُقره ثلاثة أرباع مؤتمرات خاصة لإقرار التعديل. وباستثناء التعديل الـ 12 المتعلق بانتخاب الرئيس ونائبه، حافظت العملية الانتخابية على استمرارها وفعاليتها منذ إقرارها (بعد التعديل) عام 1803 وحتى اليوم.
ثالث هذه المنابع المهمة في العملية الانتخابية ويمتلك "الحسم" النهائي هو "المجمع الانتخابي" والمكون من 538 عضواً، يمثل الولايات على قاعدة النسبة السكانية. ويكون العدد 270 "الرقم السحري" للوصول لمنصب الرئيس، إضافةً لتزامن انتخابات الكونغرس (مجلسي الشيوخ والنواب) في يوم انتخابات الرئيس، في دلالة أن ممثلي الأمة الأمريكية (البرلمان ومؤسسة الرئاسة) يتشاركان الأهمية والمسؤولية الوطنية. وسر هذه العملية المعقدة هي إعطاء كل ولاية أهمية فيدرالية في انتخابات رئيس الاتحاد، ولهذا يلاحظ في الانتخابات الأخيرة أن الولاية تكتسي أهمية وزخماً إعلامياً، وتوسم بـِ"المتأرجحة" و"الديمقراطية" و"الجمهورية". هناك الكثير من العوامل والمواصفات التي تحظى بها انتخابات الولايات المتحدة، فالإعلام والكفاءة التي تبديها الكوادر في نقل الصورة الحيّة والحقيقية لما يتمخض عن هذه الانتخابات، تضفي لوناً مميزاً للدور الوظيفي في منظومة الحكم، وتدعيم حيوية المجتمع الأمريكي وحماية الإرث التاريخي للأمة.
هذه المرتكزات والمواصفات تعطي الانتخابات الأمريكية دعائم وشرعية للرئيس المنتخب وفريقه (الإدارة الأمريكية) للانطلاق في إدارة الملفات الداخلية، وممارسة سياسة خارجية تعكس مكانة ودور الولايات المتحدة بنظرة الإدارة الجديدة تجاه العالم.