لعلَ هذا السؤال هو الأكثر شيوعا وتداولا هذه الأيام في الشارع الفلسطيني، خاصة بعد مُضِي ستة أشهر من أزمة أموال المقاصة، وما رافقها من آثار اقتصادية على مناحي الحياة كافّة في المشهد الفلسطيني، فعلى الرغم من أن آثار عدم استلام أموال المقاصة مَسّت بشكل رئيس فئة الموظفين العموميين، والقطاعات ذات العلاقة بالحكومة من موردين ومنشآت أعمال ذات صلة، إلا أن ارتدادات تلك الأزمة أصابت مكونات المشهد الاقتصادي الفلسطيني كافة، تبعا لنظرية "تأثير الديمنو".
وللإجابة على السؤال أعلاه، لا بُدّ من قراءة تحليلية هادئة لواقع المالية العامة في فلسطين، بالاعتماد على الأرقام والبيانات العلمية الموثقة، فمن خلال مراجعة قرار بقانون رقم (8) لعام 2020، بشأن موازنة الطوارئ العامة لسنة 2020م، فإن إجمالي الموازنة العامة بلغ (17.8) مليار شيكل، وبفجوة تمويلية قدرها (5.04) مليار شيكل، بعد كل الإيرادات ومصادر التمويل الأخرى، بمعنى أن موازنة العام 2020 تعاني من فجوة تمويلية فاقت الخمسة مليارات شيكل، بعد كل الايرادات المتوقعة الضريبية وغير الضريبية ومن ضمنها إيرادات المقاصّة والتي قدرت في العام 2020 بـ (6.8) مليار شيكل، وبعد الدعم الخارجي المتوقع، وبعد التمويل البنكي المقرّ، وبلغة أبسط فإنه إذا ما تم استلام كافة أموال المقاصّة وفق المخطط، والدعم الخارجي أيضا، والتمويل البنكي، إضافة للإيرادات المحلية، فإن الموازنة العامة لسنة 2020 ستبقى تعاني من عجز مالي وفجوة تمويلية قدرها خمسة مليارات شيكل، يضاف إلى المستحقات المطلوبة من وزارة المالية، مثل الديّن العام بشقيه المحلي والخارجي، والذي ارتفع في العام 2020، ليصل مع نهاية شهر أيلول الماضي الى (11.9) مليار شيكل، عدا عن اقتراض وزارة المالية من الصناديق العامة كصندوق التقاعد والمعاشات وغيرها، علما أن الاقتراض من هذه الصناديق يفقدها فلسفة الاستثمار بعيد الأجل.
وفي ضوء ما تقدّم فإنه في حال استلام أموال المقاصّة كافة، فإن الأزمة المالية للسلطة الوطنية الفلسطينية ستبقى قائمة، فردم الفجوة التمويلية يحتاج مصادر تمويل غير متوفرة، بل على العكس من ذلك فإن مصادر التمويل التقليدية كالدعم الخارجي للخزينة العامة أو النفقات التطويرية، تراجع وبشكل حاد في السنوات الأخيرة، إن كان على مستوى الدول العربية أو الأجنبية على حد سواء، ففي الوقت الذي شكّل التمويل والدعم الخارجي حوالي 50% من الموازنة العامة في العام 2010، تراجع الى 12.5% فقط في موازنة 2020.
والسبب الرئيس للعجز المالي في موازنة 2020 هو الفجوة الماليّة ما بين الإيرادات والنفقات، حيث أن الإيرادات بكافة أشكالها يضاف إليها الدعم الخارجي والتمويل البنكي، فإنها لا تستطيع أن تغطي النفقات، والتي تشكل الرواتب والأجور وأشباه الرواتب المكوّن الأكبر منها، وبالتالي فإن الخلل في الموازنة العامة خلل هيكليّ بنيويّ دائم، وليس خلل طارئ أو عجز موسمي، ودائرة هذا العجز تتسع طرديا مع الزمن، تبعا للزيادة الطبيعية في النفقات، وارتباطها بفاتورة الرواتب الثقيلة، وبالنفقات الأخرى ومن ضمنها النفقات التشغيلية والرأسمالية والتحويلية والتطويرية، يضاف إليها صافي الإقراض والذي يستنزف الموازنة العامة بحوالي مليار شيكل سنويا، وهو المصطلح المتداول للمبالغ المقتطعة من إيرادات المقاصّة من إسرائيل؛ لتسوية ديون مستحقة للشركات الإسرائيلية المزودة للكهرباء، والمياه، وخدمات الصرف الصحي للبلديات ولشركات وجهات التوزيع الفلسطينية، وغيرها من البنود.
وفي ضوء ما تقدم فإن استلام أموال المقاصة لن ينهي الأزمة المالية للسلطة الوطنية الفلسطينية، فمن المتوقع أن تنتظم الرواتب للموظفين العموميين، وأن يتم سداد المستحقات وفق آليات خاصة بوزارة المالية، ولكن الأزمة المالية ستبقى قائمة، والعجز المالي بشكل أو آخر ستنعكس آثاره على المشهد الاقتصادي في فلسطين، ويجب على وزارة المالية التفكير بنهج "ثوري"، وإجراءات "دراماتيكية" من أجل معالجة الأزمة المالية، فالإجراءات الفنية من خلال الاقتراض البنكي أو التسهيلات البنكية أو سندات الدفع الحكومية، لن تستطيع الصمود طويلا أمام استحقاقات تلك الازمة تبعا لعمقها، واتساعها مع الزمن، وتكلفة أي حل الان ستكون أقل تكلفة من تلك التكلفة بعد زمن، خاصّة مع نشوء مصطلح "الأحداث اللاحقة" لتداعيات الأزمة المالية الراهنة.