يشير التاريخ السحيق لفلسطين، أن كيانا فلسطينيا وجد في المنطقة المحاذية للساحل الشرقي الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وتواصل هذا الوجود في فترة الحكم العربي الإسلامي والحكم العثماني وفترة الانتداب البريطاني، ومثلت منظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد شكلا من أشكال الكيانية للشعب الفلسطيني، وبرز في فكرها وممارستها سعي دائب لتجسيد هذا الكيان على أرض الواقع.
وعليه أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
وفلسطين ككيان سياسي منفصل لم تكن موجودة طوال تاريخها، ولكن ذلك لم يمنع من تمايزها كتنظيم التصق به شعبه وحافظ على شخصيته منذ فجر التاريخ.
ولا بد من الإشارة أولا وقبل كل شيء إلى عدم وجود معاهدة أو وثيقة في غالبية دول العالم تعرف ماهية الدولة في القانون الدولي التي يسعى الشعب الفلسطيني إليها وأعلن عنها في مجلسه الوطني وما زال يتمسك بها كأحد شروط الحل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
وفي هذا الشأن يقول الأستاذ جورج بودو في كتابه الدولة، إن "الدولة ليست إقيما أو شعبا ولا مجموعة من القواعد الملزمة"، ومع ذلك فإن كل هذه العوامل ليست بالتأكيد غريبة عنها ولكنها تضعها فوق المعرفة المباشرة، فوجودها لا يتعلق بالظاهرة الملموسة، إنه شيء ذهني، فالدولة بالمعنى الكامل للكلمة هي فكرة وبما أنها ليس لها غير حقيقة إدراكية فهي ليست موجودة إلا لأنها تدرك بالفكر.
وإذا أخذنا تعريف الأستاذ بوردو كقياس لمفهوم الدولة، نجد أن الدولة الفلسطينية موجودة في الماضي والحاضر، في فكر الفلسطيني يعبر عنها في إنتاجه ويدافع عنها ويضحي من أجلها، وتتبع ولادة الدولة "أية دولة" لا يتطلب متابعة مراحل تكونها بشكل معمق فالتاريخ لا يهمنا إلا بالقدر الذي يسمح لنا بفهم ما قد تولد عنه.
وبناء عليه، فإن التعرف على تاريخ الفلسطينيين يمكن أن يكون أساسيا في تحديد مفهوم الدولة الفلسطينية في الوقت الراهن وتوفرها على أحد أركان الدولة أو اثنين منها بالتأكيد، وهما الشعب والإقليم، ونجد الركن الثالث المتمثل في السيادة والسلطة من خلال متابعة تطور المؤسسات الفلسطينية في الماضي وصولا إلى السلطة الوطنية الفلسطينية وبناء مؤسسات الدولة.
إن تاريخ فلسطين موغل في القدم، وتذكر التوراة أن شعوبا مختلفة سكنت فلسطين وتلك الشعوب هي (الكنعانيون والفلسطينيون والعبريون)، وينحدر الفلسطينيون من اندماج الكنعانيين بالفلسطينيين واستوطن الكنعانيون ساحل فلسطين وجنوبها الغربي ونسبة إلى هؤلاء سميت أرض كنعان وهو أقدم اسم لهذه البلاد وظلت السيادة للكنعانيين ما يقرب من ألف وخمسمائة عام.
وجاء الفلسطينيون واسمهم في النقوش المصرية بلاست أو فلاست من الأرخبيل اليوناني حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وشغلوا جزءها الجنوبي والشاطئ الشرقي، وظلو فيها لعدة قرون يسيطرون على الأرض التي أصبحت تعرف باسم فيليستينا، في حين تذكر الاسيكلوبيدا بريتاتيكا أن ثمة دلائل تشير إلى أن الساميين استوطنوا جزيرة كريت في إحدى الحقب التاريخية، وأن الفلسطينيين هم من أولئك الساميين الذين عادوا إلى أرض كنعان بعد احتكاكهم بالقبائل اليونانية، ويظهر الفلسطينيون في العهد القديم (التوراة) على أنهم (شعب سامي) أو على الأقل صبغ بالسامية لغة وديانة.
لقد سيطر الفلسطينيون على السواحل الجنوبية لأرض كنعان لعدة قرون، ويستفاد من إصحاح السفر الثالث عشر من التوراة أن الفلسطينيين أنشأوا خمس ممالك مدن على الساحل الجنوبي، وهي غزة وأشكلون وأشدود وعقرون وجت، ويستفاد من أسفار أخرى أنهم أنشأوا ممالك أخرى في يبنه ورافاح. وهذا يدلل على أن الفلسطينيين كانوا شعبا مستقرا يسكن المدن (الدول) التي ازدهرت حضاريا وقامت قبل دخول العبرانيين أرض كنعان، ولعل ذلك يعطي تفسيرا للتسمية التي اكتسبتها فلسطين. في تلك الأثناء تسللت قبائل بدوية عبرية إلى أرض كنعان وسكنت إلى الشرق من الفلسطينيين الذي دخلوا في حرب معهم وهزموهم في حرب توحدت خلالها دويلات الفلسطينيين الخمس (ممالكهم).
ويتحدث ارنولد توييني في كتابه تاريخ البشرية الجزء الأول، عن إمبراطورية الفلسطينيين الذين حافظوا فيها على استقلالهم إلى سنة 734 قبل الميلاد، ولكن نقص القوى البشرية عندهم جعل سيطرتهم على الإسرائيليين المقهورين صعبة، فحاولوا تجريدهم من سلاحهم ماديا وأدبيا فأسروا التابوت وحملوه إلى بلادهم، وجرد الفلسطينيون الإسرائيليين من سلاحهم ماديا بأن حرموهم من الحدادين وفرضوا عليهم ضرائب عينية. وقد حاولت القبائل الإسرائيلية رد اعتبارها تحت قيادة شاؤول الموحدة، غير أنه سقط صريعا في أرض المعركة.
ولكنهم في عهد داوود بن يسى (داوود النبي أو الملك) ظهر لهم وجود، واتخذوا من مدينة القدس الكنعانية الفلسطينية التي احتلت عاصمة لهم، ولكن الساحل الفلسطيني الممتد من شمال يافا إلى جنوب غزة لم يقع تحت حكم النبي داوود حتى في ذروة فتوحاته.
ويعزو توييني إلى هذا الصراع، بأنه أضاع الفرصة من أيدي الفلسطينيين ليوحدوا سوريا سياسيا تحت حكم فلسطيني، حيث فقد الفلسطينيون استقلالهم أمام الآشوريين الذين دمروا مملكتي اليهود وأيضا مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهودا في الجنوب قبل الميلاد، وسبا الأشوريون القبائل اليهودية ولم يكن أحد منهم من العائدين إلى فلسطين.
ومما لا ريب فيه أن اليهود تبددوا مع الزمن واختلطوا بالأمم التي عاشوا فيها، ومن الثابت علميا وتاريخيا أن كتلا كبيرة من أصل آري في آسيا وأوروبا اتخذت اليهودية دينا لها في وقت متقدم بعد المسيحية وبعد الإسلام، بحيث يمكن أن يقال إن أكثرية اليهود اليوم هم من نسل هذه الكتل وليسوا من (أصل سامي).
ومنذ ولادة يسوع وحتى منتصف القرن التاسع عشر، لم يكن في القدس يهود وكان هناك عدد قليل عاش فقط في فلسطين وأساسا في مدينتي طبريا وصفد.
وهكذا نجد أن اليهود لم يدخلوا إلى فلسطين إلا في حقبة متأخرة من الزمن، ولم يحكموا إلا أجزاء من البلاد لمدة قصيرة، وبقي أهلها من العرب فيها "كنعانيون آشوريون كلدانيون" أصحاب السيادة.
وتقول الانسيكلوبيديا: ومما يؤكد احتفاظ الفلسطينيين بخصائصهم القومية أنه في الفترة التي أعقبت الفتح الإسكندري ( 333 ق . م) كانت هذه الخصائص وما زالت باقية، فعلى الرغم من أن فلسطين بدت وكأنها صبغت الهلينية فأنه ليس من المؤكد أن الثقافة اليونانية سادت جميع الطبقات، حيث كان التأثير الأجنبي يلمس في المدن الساحلية وبالتالي فقد ارتبط الفلسطينيون بتراث شعب منح اسمه للمنطقة وشاع هذا الاسم حتى الفتح الإسلامي والحكم العثماني وترسخت الشخصية الفلسطينية فترة الحرب العالمية الأولى وتحت الانتداب البريطاني، حيث تبلورت حركة وطنية فلسطينية كمثيلاتها في سوريا والعراق تصارع الحركة الصهيونية التي تحظى بمساندة بريطانية، وما زالت الحركة الوطنية الفلسطينية في صراع ممتد مع الحركة الصهيونية وتعبيرها الكيان الصهيوني على أرض فلسطين حتى يحرر وطنه التاريخي ويتمتع باستقلاله في دولة خاصة به عاصمتها القدس الشريف كما نص على ذلك إعلان الاستقلال.
فلسطين دولة قبل ميلاد الزمان
إن مقومات إعلان استقلال فلسطين وآثاره، هي اختزال لتاريخ فلسطين للوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة على أرض فلسطين.
ويتمثل إعلان الاستقلال في القرار الذي صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشر غير العادية التي عقدت في الجزائر بتاريخ 15 نوفمبر 1988.
ويمثل القرار، أول تعبير عميق عن طموح منظمة التحرير الفلسطينية في تجسيد فكرة الدولة المستقلة وعملية قيام دولة فلسطينية مستقلة لم تبدأ من تاريخ إعلان الاستقلال، فهي عملية ممتدة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ومثلت هدفا لنضاله الطويل، وما زال الوصول إلى الاستقلال الناجز يتطلب الكثير من الجهد والدم، ولكن إعلان الاستقلال مثل بداية عملية في مسيرة السلام في الشرق الأوسط تقود حتما إلى دولة فلسطينية مستقلة، وإن مرت 33 عاما على إعلان الاستقلال.
وإعلان استقلال فلسطين، ليس كإعلان غيرها من الدول، فهو ذو أبعاد دولية خطيرة كونه يتعلق بصراع رافق نشأة عصبة الأمم والجمعية العامة للأمم المتحدة وحربين عالميتين وجر منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية الدولية إلى حروب وصراعات إقليمية ما زالت تعاني من آثارها وما زالت مرشحة للتجدد والانفجار في كل لحظة.
إن مقومات إعلان الاستقلال وأبعاده؛ قضية تمتد في جذورها إلى زمن أبعد بكثير من يوم إعلان الاستقلال عام 1987، فقرار المجلس الوطني يستند إلى قاعدة قانونية دولية، وهذه القاعدة موجودة كما حددتها وثيقة الاستقلال في القرار الأممي رقم 181 لعام 1947، والظروف التي أحاطت بالكيان الفلسطيني في تلك الفترة وأدت إلى اتخاذ القرار، وبالتالي لا بد من التدقيق في قوة هذا القرار القانونية اليوم وغدا وصلاحيته لإعلان الاستقلال، وكذلك الأمر مع المادة 22 من عهد عصبة الأمم عام 1919 فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وما قبلها، وهي الفترة التي شهدت أهم الأحداث التي تحدد اليوم مسيرة الكيان الفلسطيني كاتفاقية سايكس بيكو 1916 ووعد بلفور 1917 ومسألة الأقاليم والشعوب التي انسلخت عن الدولة العثمانية ومنها فلسطين.
لكن، حتى العودة إلى فترة الحرب العالمية الأولى، لا تكفي في حد ذاتها لتبيان ما ركزت عليه وثيقة إعلان الاستقلال من استناد جوهري إلى الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في دولته، ومن ثم لا مفر من العودة إلى التاريخ، إذ بالتدقيق في وثيقة إعلان الاستقلال نجد أنها تعتمد اعتمادا صريحا على الحق التاريخي في قيام دولة فلسطين بنفس القوة التي اعتمدت فيها على الشرعية القانونية التي قادتنا إلى فترة الحرب العالمية الأولى.
والتاريخ السحيق للشعب الفلسطيني الذي يمتد إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، أثبت أنه حاضر على هذه الأرض ومتحسس للخطر اليهودي الذي يتهدد كيانه، فمنذ احتل العثمانيون فلسطين عام 1517؛ قام اليهود بتظاهرات ترحيب، فرد الفلسطينيون بتظاهرات معاكسة وخاصة في صفد، وعندما قام السلطان سليمان القانوني عام 1561 بجعل مدينة طبرية يهودية؛ عارض الفلسطينيون، وكان هناك إضراب عام كذلك هاجم فيه الفلسطينيون مدينة صفد بعد تزايد الوجود اليهودي فيها عام 1567، فهرب اليهود إلى طبرية وبيروت ودمشق ومصر.
ورغم إغراق هذه التفاصيل في القدم فهي ذات أثر آني على إعلان الاستقلال لأنها لا تزال تتكرر إلى اليوم.
لقد صبغت فترة الحكم الإسلامي فلسطين بالصبغة الإسلامية، وأخذت مدينة القدس مكانتها المقدسة لدى المسلمين إلى جانب المسيحيين واليهود، ونلمس هذا الأمر بوضوح في إعلان الاستقلال الذي أعلن "قيام دولة فلسطين على أرض فلسطين وعاصمتها القدس الشريف"، ويفسر هذا الأمر ظهور حركات مقاومة إسلامية إلى جانب حركات مقاومة وطنية وعلمانية.
وإذا عدنا إلى الوراء أكثر في التاريخ، نجد في 330 قبل الميلاد وجود دولة فلسطين الأولى والثانية، وبالعودة إلى الوراء أيضا نجد أن الأرض حملت اسم فلسطين نسبة إلى الشعب الذي تعرب ولازمها إلى اليوم ومجد صورة من صراعه مع الغزوة اليهودية الأولى الطارئة والعرضية قبل اثني عشر قرنا من ميلاد المسيح، ونجد صراع داوود (النبي اليهودي) مع جوليات (الملك الفلسطيني) الذي صُرع بحجر من "مقلاع" داوود يتكرر في انتفاضة الحجارة الأولى والثانية والمواجهات اليهودية من أبناء الشعب الفلسطيني وقوات الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه، لذلك تكتسب هذه المواجهات مدلولا سيكولوجيا ونفسيا ودينيا وحضاريا وتراثيا في الصراع الممتد.
لقد وجدت ظروف أدت بالمجلس الوطني الفلسطيني إلى إعلان الاستقلال، تمثلت في انتفاضة الشعب الفلسطيني وموقعها في مسيرة حركته النضالية، وكذلك القرار الأردني بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية وأثره على مستقبل الضفة الغربية والقدس، وبالتالي الكيانية الفلسطينية، فتعقيدات هذه العلاقة لا يمكن جلاؤها بكلمة فك الارتباط، وتوافرت ظروف دولية لإعلان الاستقلال تمثلت في حينه في التوجه الدولي نحو حل النزاعات الإقليمية بالوسائل السلمية في ظل جو الانفراج الدولي.
لقد ترافق إعلان الاستقلال مع وثيقتين هامتين هما البرنامج السياسي وقرار تشكيل حكومة مؤقتة للدولة الفلسطينية.
ومثل البرنامج السياسي حركة سياسية في صراع الشرق الأوسط ومبادرة فلسطينية للسلام، ما زالت ثوابتها الركيزة الأساسية لتحرك القيادة الفلسطينية قبل أوسلو وبعده.
لقد كانت مفاعيل إعلان الاستقلال وما رافقه من برنامج سياسي، ذات أثر ملموس في فتح حوار رسمي بين منظمة التحرير الفلسطينية والولايات المتحدة الأمريكية، أوضحت المواقف الأمريكية الفلسطينية من مواضيع ذات أهمية بالغة الحساسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كالإرهاب والكفاح المسلح وحق تقرير المصير وأهمية الحوار ومفهومه مع الإدارة الأمريكية نظرا لخصوصية علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة وإسرائيل بالذات. وقد حرك إعلان الاستقلال آلية التسوية وانخراط الولايات المتحدة فيها عبر نقاط وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر الخمس.
وطرحت أطراف النزاع في الشرق الأوسط خيارات عديدة للوصول إلى تسوية سلمية كالحكم الذاتي والفترة الانتقالية والفيدرالية والكونفدرالية وصولا إلى الدولة المستقلة.
قضايا عديدة طرحها إعلان الاستقلال يجب بحثها بالتفصيل للتذكير بأن حق الفلسطينيين في وطنهم وإقامة دولتهم ثابت لا يمكن تجاوزه، وأن الرجوع إلى جذور القضية الفلسطينية في هذه الظروف الدقيقة والصعبة التي يحاول فيها الاحتلال الإسرائيلي والإدارات الأمريكية تصفية القضية الفلسطينية أمر بالغ الأهمية خاصة للأجيال الفلسطينية والغربية والتي لم تواكب أحداث القضية وباتت تسمع أصوات نشاز عربية تشكك بعروبة فلسطين وقدسية الأقصى، وتتماهى مع الطروحات الإسرائيلية وتخضع لابتزاز الإدارة الأمريكية كإدارة دونالد ترامب المتصهينة، ووقوف الأجيال على فحوى إعلان الاستقلال وأسانيده التاريخية والقانونية والطبيعية يعطيها مزيدا من العزم والإصرار على تحقيق حلم الشعب الفلسطيني وحقه في فلسطين دولة مستقلة قبل ميلاد الزمان.