يعود الفضل في نشر كتاب "نِسوة في المدينة" إلى الصديق العزيز حسن عبّادي، فقد رعاه منذ لحظة التفكير الأولى بنشره وحتّى أصبح كتاباً مطبوعاً، وراجعه معي صفحة صفحة، فقرأه مرّتين، وأقال كثيراً من عثراتي فيه، وقد ساعدني ليكون الكتاب أجمل حلّةً، وآنق طباعةً. وليس هذا وحسب، بل كان متشجّعاً للكتاب، يبحث لي عن ناشر جريء يوافق على نشره، وهكذا كان، ليتوّج أفضاله بكتابة تظهير للكتاب، يضيء فيه فكرته وهدفه. وظلّ على تواصل معي ومع الناشر حتى بعد صدوره وخروجه من المطبعة، ليهاتفني ويزفّ ليَ البشرى. كتاب انتظرته طويلا ليطبع، وكنت "على قلقٍ كأنّ الريح تحتي".
اتّكأت في بداية الكتاب على حديث نبويّ شريف، وعلى قول للكاتب الأمريكي (تشاك بولانيك) يتّصل بصنعة الكتابة غير المألوفة؛ الصادمة والمتحرّشة. أمّا فكرة الكتاب فهي بلا شكّ تنتمي إلى ذلك التراث الإنسانيّ العامّ؛ العربيّ الأدبيّ والدينيّ والموروث الاجتماعيّ والقصص الشعبيّة الشفاهيّة التي تدور أحداثها حول ما يتعلّق بممارسة الجنس والعلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة ودوائرها المباحة أو المحرّمة وحتّى الشاذّة، أو تلك التي تتّخذ طابع النكتة والفكاهة والسخرية، كبرنامج النكت اللبناني "أهضم شي" الذي يُعرض على إحدى الفضائيّات العربية. ولم يخلُ هذا التراث من الحديث عن كلّ ذلك، فبجانب قصص الممارسة الجنسيّة بين الرجال والنساء، وقصص الخيانات واللقاءات و"التوبة عن التوبة" في الحكايات الشعبيّة، كان ثمّة قصص تتناول ممارسة الجنس مع الغلمان أو ممارسة الجنس الخلفيّ مع النساء، عدا الممارسة الجنسيّة بأشكالها المتنوّعة واعتباراتها الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة. وقد أخذت مساحة لا بأس بها من هذا التراث بشقّيه الأدبيّ والفقهيّ الدينيّ، ولذلك جعلته مُحيلاً على أحسن القصص في القرآن الكريم في استعارة الاسم "نِسوة في المدينة" من سورة سيدنا يوسف، عليه السلام، وكأنّني وقفت عند هؤلاء النسوة اللواتي أصبحن نساء، فجئن بما لم تجئ به "صواحب يوسف"، وكنّ أكثر جرأة وشراسة وانتقاما، وأحدثن تلك النّشوة العارمة التي يضجّ بها الكتاب، ولذلك يبادر أحد الأصدقاء معترضا على الاسم "نسوة في المدينة" إلى "نشوة في المدينة"؛ ليبتعد الكتاب- كما قال- عن الكلاسيكية في التسمية والإحالات، وليكون شاملا "الذكران من العالمين".
هذه جوانب من التراث العربي، أمّا التراث العالمي فحافل بالأدب الأيروتيكيّ، ككتب "الماركيز دو ساد" وكتاب "الكاموسوطرا" الهندي ذي البعد الدينيّ، وصولاً إلى ما كتبه الأدباء لمحبوباتهم من رسائل يعبّرون فيها بالعبارات المكشوفة الواضحة عن الرغبة في الممارسة الجنسيّة أو وصف الفعل الجنسيّ الذي تمّ بينهم وبين محبوباتهم، كما فعل جيمس جويس في رسالته إلى زوجته "نورا بارناكل" المؤرّخة بـ "2 كانون أول 1909"، وقامت بترجمتها الكاتبة الفلسطينيّة د. ريم غنايم. وفعلتُ ذلك أيضاً في كتابي هذا "نسوة في المدينة"، وفي مجموعة قصائد "أغنيات إلى سموّ نهدك"، وفي بعض الرسائل التي كتبتها بين عامي 2018-2019، فلم تقف عند حدود التبادل الثقافي بيننا، بل تعدتها إلى مآلات الشهوة والرغبة الجنسية الكاملة.
أتذكّر وأنا في غمرة الإعداد لإصدار الكتاب عدّة مواقف؛ أوّلها إصراري على أن يكون اسم ابنتي مصمّمة الغلاف موجوداً ضمن "صفحة الحقوق" مع أنّه سقط من مسوّدات كثيرة، إلّا أنّني كنت أصرّ دائماً على إثبات الاسم، كحقّ معنويّ من حقوقها، وليس فقط إيفاءً بوعد أبٍ لابنته. لم يشكّل الأمر بالنسبة لي معضلة مع أنّني فكّرت أحياناً بالموضوع. حسمت الأمر لصالح مرافقتها لي في هذا الكتاب كونها مصمّمة للغلاف.
وللغلاف قصّة أيضاً؛ ففي مساق "تصميم فنيّ" أحد مساقات تخصّصها الجامعيّ في "كليّة فلسطين التقنيّة- خضوري"، حيث كلّف المحاضر طلبته بتصميم غلاف كتاب. و"بين الجدّ واللعب"، خاطبت ابنتي: وهل تصمّمين غلافاً لكاتب غير أبيك؟ تستجيب مباشرةً. أشرح لها الفكرة، فتخرج بغلاف رضي عنه الأستاذ، وقد أعجبني كذلك. كان للمحاضر بعض التعديلات لم نشأ أن نجريها على الغلاف وبقي كما جسّدَتْه في أوّل خاطر وأوّل إحساس، لعلمي أنّ الخاطر الأوّل في الفنّ هو الأمتع والأنفع. كما أنّ ردود أصدقائي على الفيسبوك كانت مشجّعة، وتدفعني لاعتماده.
في الحقيقة، لم يقتصر وجود ابنتي في الكتاب على الغلاف فقط، فثمّة نصوص كانت شخصيّتها حاضرة بقوّة، بل إنّها هي الشاهد الوحيد على بعض علاقتي مع هؤلاء النسوة اللواتي تحدّثت عنهنّ. فقد كانت شخصيّة رئيسيّة مهمّة في هذا الكتاب، ومن سيقرأ الكتاب سيكتشف أهمّيّة وجودها هذا.
ثاني هذه المواقف التي أحبّ أن أسجّلها، هذا الموقف الطريف الذي حدث في مقرّ دار النشر في مدينة رام الله، إذ اجتمعنا نحن الثلاثة: الناشر وحسن عبّادي وأنا، ينتحي الناشر جانباً للحديث مع عبّادي في بعض المسائل المشتركة، في حين يأخذني الحديث مع محاضر متقاعد، شرع يتحدّث عن المخيم وأهمّيّته في التاريخ الفلسطينيّ المعاصر، نخرج من المكتبة، ويخبرني عبّادي بوصف الناشر للكتاب بأنّه "كتاب بورنو من العيار الثقيل". حسن يبتسم، وأمّا أنا فأخاف وأتوجّس، وصرت قلقاً، أخشى من أن يتراجع الناشر عن نشر الكتاب. يطمئنني حسن كلّما أعربت له عن خشيتي من ذلك. جازماً أنّ الأمر ليس لعبة، وأنّ الكتاب سوف يطبع لا محالة، وكلّما أحسستُ بالتأخير أبادر الصديق حسن بالسؤال عن موعد صدور الكتاب، وقد فعلت ذلك مراراً، وفي كلّ مرّة أسمع التطمينات نفسها بالعبارات ذاتها.
أحبّ كثيراً أن أرى ردّات فعل الأصدقاء على ما أنوي إصداره من كتب، تأتيني كلّ الآراء مشجّعة، ومن ذلك رأي الصديق المصمّم الفنّيّ ظافر شوربجي الذي امتدح الكتاب وأثنى على ما فيه من جرأة وفنّيّة وصدق. وكذلك رأي صديقي الكاتب الطليعي رائد محمّد الحوّاري الذي اطّلع على المسوّدة الأولى من الكتاب، وكتب مقالة مطوّلة حوله، لكنّه لم ينصحني بنشر الكتاب إلّا بطبعة محدودة لا تتجاوز العشرين نسخة، وألّا يتمّ توزيعه إلّا على من هو صديق وثقة.
رائد يعرف ما حدث معي قبل سنوات عندما تمّ التحقيق معي إداريّاً بسبب نشري على الفيسبوك مقال "أجمل ما في المرأة ثدياها" مقروناً بلوحة "المرأة التي أرضعت أباها". الطليعي يخشى أن يتكرّر الأمر، ويسبّب لي الكتاب مصاعب في الوظيفة بسبب الوشايات غير التربويّة، وغير الثقافيّة، وغير الحقوقيّة، وغير الإنسانيّة أيضاً. الآن ها هو الكتاب يُنشر كما هو معهود الكتب، ولا أدري ما هو مصيره وما هو مصيري، علماً أنّه سيخرج من رحم هذا الكتاب ولحمه كتابان آخران، كتاب "الثرثرات المحبّبة"، ويضم مجموعة من الرسائل العاطفيّة والشهوانيّة والثقافيّة، كما أسلفت القول أعلاه، لها علاقة مباشرة بكتاب "نسوة في المدينة"، وكتاب شعر أيروتيكيٍّ خالص بعنوان "أعنيات لسموّ نهدك"، أعزّز فيهما حضور الأدب الأيروتيكيّ في الثقافة الفلسطينيّة والعربيّة المعاصرة، ولقصائده علاقة خاصّة بي وبالمرأة التي كتبت لها ومعها تلك القصائد، وقد بادلتني شعراً بشعر، وجنونا بحنون.
نشر سابقاً من هذا الكتاب عدّة نصوص، ونالها بالحديث والنميمة والنقد والانتقاد الشيء الكثير. ثمّة من كتب في تلك النصوص مقالات تحليليّة. عدا مقالة الصديق الحوّاري قدّمت الكاتبة اللبنانيّة مادونا عسكر مقالاً تحليليّاً في نصّ بعنوان "امرأة الليلة الواحدة"، ونشر الكاتب التونسيّ الحبيب بالحاج سالم قراءة حول نصّ "المسافة الآمنة"، كانت القراءتان مذهلتين في الكشف عن الأبعاد الثقافيّة والنفسيّة في النصّين، عدا أنّ نصّ "امرأة الليلة الواحدة" تناوله عندما نشر على الفيسبوك مجموعة من المثقّفين في إحدى مقاهي مدينة عمّان. وقد وصلتني هذه الرسالة من الصديق يوسف عسكر على إثر ذلك: "أمس، كنّا مجموعة في المقهى من كتّاب وفنّانين، وفتحت صفحتك على قصّة جميلة، وكان نقاش ومحاورة وتحليل دام أكثر من ثلاث ساعات؛ حتّى الساعة الثانية من منتصف الليل. منهم حسين دعسة، زياد عسّاف، محمّد أبو عزيز، نبيل سجّادة، رسمي أبو علي، جمال المصري، وغيرهم، شيء خرافيّ من التحليل". لقد كان النصّ ناجحاً إذاً. إنّه لأمر مشجّع على أيّة حال.
خلقت عندي تلك القراءات رضىً عاماً، وتعزّزت لديّ فكرة أهمّيّة كتابة النصّ الأيروتيكيّ الذي لا يقف عند حدود القشور الخارجيّة للفظ والمعنى. ثمّة ما يقوله النصّ الأيروسيّ من بين كلّ ذلك الزحام والالتحام والشبق. لقد تعلّمت من تجاربي الشخصيّة كثيراً وأخذت أنظر إليها كمحفّز لكتابة أدب مختلف، كما تعلّمت من الفيلسوف الفرنسيّ (جورج باتاي)، ومن الكاتب (تشارلز بوكوفسكي) كثيراً، فالأوّل علّمني كيف أنظّر وأجسّد تلك النظريّات في النصّ الإبداعيّ؛ شعراً ونثراً، وأمّا الآخر فقد علّمني كيف أشتقّ من التجربة الخاصّة حكمة إنسانيّة عامّة، وكيف أعمّم التجربة لتكون شاملة. أمّا كتاب "موجز تاريخ الأرداف" للكاتب الفرنسيّ (جان ليك هينيج) فقد ساعدني في أن أعيد النظر في كتابي، فأضمّنه مجموعة من النصوص السرديّة التي كتبتها في وصف الأعضاء الجنسيّة، وليس الأرداف فقط، تلك النصوص التي شرعت في كتابتها بعد مقال "أجمل ما في المرأة ثدياها"، ولم أنشرها خارج هذا الكتاب بسبب تلك الموجة الظالمة التي تعرّضت لها في حينه، لكنّني بقيتُ أكتب وأحتفظ بما أكتبه.
لقد كانت قناعاتي راسخة في إنتاج تلك النصوص، ولكن لهذه القناعة أعداء. فهذا الكتاب سبب من أسباب كثيرة أدّت إلى قطع العلاقة العاطفيّة مع تلك المرأة التي رضيت أن تشاركني الحبّ وفراشه لأربع ليالٍ فقط مضت من عمري وعمرها، تقرّر أن تلغيني من ذاكرتها وقلبها بسبب هذا الكتاب وغيره من الكتابات "الشاذّة"، و"العاهرة"- كما كانت تسمّيها- التي أكتبها على (الفيسبوك)، واتّهمتني اتهامات شتّى جارحة وقاسية، لتصل إلى قناعة "أنّه لا فائدة منكَ ولا فيكَ". وأنّني لا أحفظ عهداً، وأنّني سرّبت في الكتابة أسرار علاقتنا الحميمة. ثمّة فارق بين العامّ والخاصّ، لم تكن لتفرّق بين الأمرين. حاكمتني وأطلقت عليّ رصاصاتها بالهجر التامّ غير الجميل بطبيعة الحال. لقد أصيبتْ بخيبة أمل كبيرة وأصبحت لا تراني سوى شيطانٍ رجيم، وتستعيذ بالله منّي ومن حضوري، وكرهتني، وصارت تأبى سماع صوتي ولا تردّ على رسائلي.
لست معتذراً لها أو لغيرها عن هذا الكتاب أو غيره من الكتابات الأيروتيكيّة التي كتبتها أو تلك التي سأكتبها أو سأسعى إلى نشرها في المستقبل، ولست أبرّر شيئاً، وليس مطلوباً منّي أن أدافع عن نفسي فلست متّهماً ألبتّة، عليّ أن أكتب قناعاتي، وما حدث ويحدث معي، وعلى القارئ إمّا أن يقرأ أو لا يقرأ، فليست مهمّته إدخالي الجنّة أو النار أو إعطائي شهادة "حسن سير وسلوك". وليست مهمّة حبيبتي أيضاً حراستي كي لا أقع في الزلل. عليّ أن أكون حرّاً، مستنداً إلى قوّة منطقي ورسوخ قناعتي، ولا شيء غيرهما. عليها أن تحترم ذلك منّي، هي والقرّاء جميعاً. عليها أن تعلم أنّني أصبحت راشداً بما يكفي لأسند نفسي بنفسي.
هذا الكتاب منحني الحرّيّة الكاملة، حيث كتبته حرّاً من كلّ قيد دينيّ واجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ، كنت أكتب ما يدور في الخفاء كأنّه في بؤرة الضوء، متمرّداً على كلّ السلطات التي قد تنشب أظفارها الوحشيّة في لحمي. بالفعل أردتُ هنا أن أكون حرّاً. هي أرادت أن تقيّدني لذلك تمردتُ عليها وعلى حبّها، وعلى ذلك التاريخ الطويل الذي صنعناه سويّاً على مدى سنوات طويلة، حتّى غدا سفراً عامراً بالذكريات والحكايات والأسرار والطقوس. كان حبّاً زاهياً حارّاً جارفاً وجامحاً، لكنّها "خنقت أنفاسه" بعنف لا مبرّر له. من المؤكّد أنّني لم أكن أنتقم منها بهذا الكتاب، أو أنتقم من أولئك النسوة بنشر حكاياتهنّ، وكذلك لم أكن أخونها أو أخونهنّ. كنت أكتب ما حدث أو آمُل في أن يحدث أو ما أتوقّع حدوثه. آمُل أخيراً ألّا تلعنني عندما تقرأ هذه الشهادة، كما صارت تفعل بشكل متكرّر ولأتفه الأسباب. يا ليتها تُعَدِّل جِلستها لعلّها تراني أوضح من زاوية مختلفة. بل عليها أن تفعل ذلك لكي ترتاح وتفهمني جيّداً لو أرادت أن تحافظ على شيء من ذكرى ذلك الحبّ الذي سكننا يوماً. ولا أظنّه سيغادر مكانه مهما جرى في النهر من ماء.
لقد أنهيت الكتاب بسؤال قلق: "كيف لي أن أتخلّص من كلّ تلك النساء العالقات على جثّتي؟". ربما كانت الكتابة إحدى تلك الوسائل الآمنة للتخلّص من تلك الآثار التي خلّفتها أولئك النساء في نفسي، لكنّني لستُ متأكّداً من ذلك، وإنّما الأمر الأكيد في هذه المسألة هو أنّني قرّرتُ أن أغلق هذا الباب نهائيّاً، وإلى غير رجعةٍ؛ لأصبح شخصاً خالياً من الأسرار، لأكون أوضح وأنقى وأقوى، وحتّى لا يستعبدني شيء ما مهما كان مهمّاً وحسّاساً في نظر الآخرين، فلست مضطّراً لإخفاء أيّ فعل فعلته، فأنا فعلته تحت سماء الله وعلمه، وإذا كان هذا الفعل مخجلاً فالأصل ألّا يحدث مطلقاً، أمّا وقد فعلته، وخلقه الله على يديّ فلا حرج من أن أكتبه ويعرفه الناس، فهو تجربتي وجزء من وعيي الفكري والشعوري، هكذا أكون خفيفاً من الأحمال والأسرار، ونظيفاً من هواجس القلق، ولا شيء يعكّر صفو هدوء البال. هذه الفكرة ذاتها كنتُ وضّحتها بمقال "لماذا فضح الله امرأة العزيز في سورة يوسف؟".
في حوار خاصّ مع صديقة لي حول الكتاب، قرأته في فترة انتظار الخروج من المطبعة، قالت: "الكتاب سيجعل الشباب يركضون وراء البسس"، وعندما سألتها: هل الكتاب يثير الشهوة؟ وكنت أقصد بالذات هل أثّر فيها شخصيّاً إلى درجة أن يثير شهوتها بما فيه. لم يكن ردّها شافياً؛ فقد أرجعتْ ذلك إلى عدّة أسباب منها العمر والتجربة والحالة، فهي امرأة متزوجة، ولا تشعر بالخواء أو الاحتياج، سواء العاطفيّ أو الجنسيّ. إنّها تعيش بهدوء إذاً. كثير من القرّاء والقارئات سيكونون مثل صديقتي هذه. لم يثرها الكتاب بنصوصه الشهوانيّة، وإنّما، كما قالت، أثار في نفسها "القرف" و"الحزن". كنت قد سألتها سؤالاً آخر: هل ينفّر هذا الكتاب من الجنس؟ قالت: نعم، أنا نفرت، بل شعرت بالقرف، ولكن مع شعوري بالقرف شعرت بالحزن على هؤلاء النساء، فالكتاب يفتح، كما قالت، العينين والقلب والعقل إلى ما تعانيه النساء من جوع عاطفيّ ومشاكل زوجيّة أوصلتهنّ إلى هذا الوضع الملتبس الذي تضيئه النصوص. كأنه يفتح باب مكاشفة الذات لمواجهتها، وللتخلي عن تلك "المثالية الموهومة" المعششة في عقولنا، فقد آن الأوان- كما قالت الشاعرة فاطمة نزال في تساؤلاتها المحقة- "هل سيكشف ضعفنا الإنساني كبشر ولسنا ملائكة؟ وكم منا سيواجه المرآة دون أن يكسرها؟ وكم منا سيتصالح مع ذاته ويتقبلها؟ وكم منا سيزيح هذا العبء من المثاليات عن كاهله؟".
أرجو أن يُنظر إلى الكتاب بشيءٍ من الموضوعيّة، وأن يرى القرّاء ما فيه من رسائل إنسانيّة، إذ لا ينفع الوعظ والإرشاد في مثل هذه الحالات المعقّدة من العلاقات البشريّة، ففي قصّة يوسُف- عليه السلام- في القرآن الكريم المثل الأعلى في هذا التناول القصصيّ الدراميّ البعيد عن النصح والأوامر الحادّة المباشرة.
سألتني صديقتي سؤالاً آخر مهمّاً: لماذا كتبت هذا الكتاب؟ لا أستطيع أن أشرح لماذا كتبت هذا الكتاب. حقيقة لي أسبابي، ولكن هل ما سبق وذكرته كافياً ليكون من ضمن هذه الأسباب؟ وهل الأسباب الخاصّة كافية لتكون عامّة بحيث تصلح مبرّراً لنشر مثل هذا الكتاب؟ لكنْ، هل من الضرورة أن يكون للكتاب مبرّر؟ ربّما.
عليّ الاعترافُ أنّني كتبتُ كتاب "نسوة في المدينة" احتراماً لذاتي ولتجربتي، ولست متحرّجاً من أيّ جملة أو لفظة وردت فيه، مع أنّه قد يقف في حَنجرة الكتابة كغصّة قاتلة؛ لا أريد أن أحذفه من قائمة كتبي المنشورة، بل لم أعد أخاف من نشره أو الخجل من تلك القصص أو الأفكار التي وردت فيه، لكنْ... لكم أن تتخيّلوا كم سيفرّخ هذا الكتاب من أنبياءَ، وقضاةٍ، ليصبحوا ملائكة مكرّمين ووحدي الشيطان الأكبر الذي لا بدّ من رجمه بحجارة التقوى، فأنا في النهاية عندهم إمّا كاذب أو فاجر، وفي كلتا الحالتين، أستحقّ منهم ما سأستحقّ من شتائم ومعلّقات الخير والشرف، هكذا سيفكّر ناقصو العقل، أنصاف الجهلة، وأوباش التفكير الدينيّ الضالّ، فهم يخافون على شرف العالم أكثر من خالق هذا العالم.
كتاب "نسوة في المدينة"، ربّما لم يكن أهمّ ما كتبته من كتب، لكنّه هو أخطرها بلا شكّ، فليس سهلاً أن يوجد في مكتبة بيتٍ أو مدرسة أو أن يتعاطاه القرّاء بالمناقشة والتحليل العلني ليخرج إلى نور الإعلام، فهو كتاب مفخّخ وذو ألغام شرسة، فهو يدفع القارئ ليفتّش عن تلك المصائب في محيطه، أهي موجودة أم لا؟ بل إنّها موجودة. فكيف له أن يعالجها على طريقته، بحكمة وحنكة ورويّة؟ عليكم أن تفكّروا بعد قراءة الكتاب بما يجب عليكم فعله بأنفسكم وأبنائكم، لا أن توجّهوا سهامكم إلى جثّتي التي أحاول أن أنتشلها من ذلك الوهم. فالمدينة شاسعة والساكنون كثيرون، فلا ترقصوا فرحين أنّكم استطعتم إنامة الوحش الأخطر في داخلكم وأطلقتم فقط كلابكم الجائحة الجائعة لتنبحني على قارعة الرصيف في مدينة غارقة في الوحل والطين والجنس وكلّ "المقرفات" والمفارقات.