الجمعة  15 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الفلسطينيون... تنمية مثقوبة وخطط سجينة!!

بين واقع الاكتواء وحُلم الاكتفاء

2015-03-10 12:38:28 AM
 الفلسطينيون... تنمية مثقوبة وخطط سجينة!!
صورة ارشيفية

  

 
 
تقرير- محمود الفطافطة

يمثل منطق الإلغاء المتبع لدى أي استعمار استيطاني الأداة الأساسية في إقصاء السكان الأصليين والاستحواذ على نتاج عملهم بغية تحقيق مفهوم الاستلاب التنموي الهادف إلى انتزاع عوامل الإنتاج ـ الأرض والعمل ورأس المال ـ من هؤلاء السكان لترسيخ سلطته على أراضيهم وعزلهم عن أي تنمية أو استقلال ذاتي على الصعيد الاقتصادي.
هذا الاستلاب هو ما طبقه الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين كسلاح للإخضاع والسيطرة، بحيث عمدت سلطات الاحتلال بصورةٍ منهجية ومنظمة إلى تقويض كافة عناصر التنمية والنمو للشعب الفلسطيني منذ احتلال فلسطين التاريخية سنة 1948.
هذا النهج الذي طبق مقولة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر "سيطر على النفط فتسيطر على الدول؛ سيطر على الغذاء فتسيطر على الشعوب"، مثل النموذج المادي للسيطرة السياسية والاقتصادية الإسرائيلية على كل ما يتصل بالمشهد الفلسطيني وتحويل كل إمكاناته لصالح الاحتلال وسياساته، وهذا ما حال دون قدرة هذا الشعب على تحقيق أي اكتفاء ذاتي أو أي عنصر من عناصر الأمن الغذائي.
 في هذا التقرير سنسلط الضوء على التحديات التي تقف عائقاً أمام التنمية الفلسطينية وتساهم في عرقلة الوصول إلى اكتفاء ذاتي للفلسطينيين لإبقائهم خاضعين للتبعية السياسية والاقتصادية للاحتلال. كما وسيناقش هذا التقرير التحديات الداخلية والخارجية المؤدية إلى غياب مثل هذا الاكتفاء. ومن ثم سيطرح الآليات الكفيلة لتذليل هذه التحديات أملاً في الوصول لهذا الاكتفاء الذي لم ولن يتحقق إلا بزوال مسبباته والمتمثلة أساساً بالاحتلال.
 
لا تنمية إلا بحرية!
يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأميركية في جنين د. أيمن يوسف إنه لا يمكن للفلسطينيين من تحقيق الاكتفاء الذاتي على المدى القصير لأنهم لا يسيطرون على مواردهم ومعابرهم، فضلاً عن قلة تواصلهم مع الخارج، مشيراً إلى أن جزء من المال الذي يأتي للسلطة يدخل عبر البوابة الإسرائيلية وبرضاها، وهذا ما له تأثير سلبي على مدى تحقيق الاكتفاء من جهة، والقدرة في تخليق حالة تنموية مستدامة من جهة أخرى. ويرى د. يوسف أن عملية تحقيق الاكتفاء الذاتي تتم عبر الحل السياسي، والسيطرة على المعابر، وتعميق التواصل مع العالم العربي، وتكريس نهج المقاطعة الشاملة، والوعي الشعبي بضرورة اقتصاد التنمية والصمود.
عميد البحث العلمي في جامعة القدس المفتوحة د. حسن السلوادي يقول:"إن مصطلح الاكتفاء الذاتي والسعي إلى تحقيقه هو من سمات الدول أو الكيانات السياسية المستقلة التي تمتلك إرادتها وتقرر مصيرها ولها القدرة على التخطيط لمستقبلها". ويضيف" الحديث عن الاكتفاء الذاتي في ظل احتلال يتحكم في كل مفاصل الحياة ويسيطر على كل منافذ الاتصال مع العالم الخارجي، إضافة إلى سيطرته المطلقة على المصادر الطبيعية وعلى جزء كبير من الفضاء الجغرافي الذي يشكل نقطة الارتكاز في أي جهد تنموي لا يستوي مع السياسات الواجب اتخاذها لتحقيق مثل هذا الاكتفاء".
 ويشير د. السلوادي إلى أن كل هذا يفرض على الدولة  تفعيل مصادرها وقدراتها الإنتاجية كافة دون الحاجة إلى مساعدة من أية قوة خارجية". ويتابع قائلاً:" إذا توافرت لدينا الإرادة فبإمكاننا أن نحقق قدراً كبيراً من الاكتفاء الذاتي وذلك بالاستغناء عن السلع الكمالية المستوردة من سلطات الاحتلال، وتطوير قدراتنا الإنتاجية في المجالين الزراعي والصناعي وتشجيع المبادرات الاستثمارية الفردية والجماعية غير الخاضعة للاحتلال ودعمها".
ويطالب د. السلوادي بضرورة وضع خطط تطويرية في كل المجالات التي يمكن الشروع فيها وتنفيذها بعيداً عن الاحتلال وهيمنته المباشرة سيما في القطاع الزراعي الذي " أهملناه منذ سنين وآن الأوان أن نرعاه باعتباره مدخلاً لتحقيق الأمن الغذائي الذي يدعم صمودنا في وجه الضغوط التي يمارسها الاحتلال الغاشم لضمان هيمنته واستمرار تحكمه في مقدراتنا ومقومات وجودنا" .
 
اقتصاد مثقوب ووهم التنمية!
أستاذ الإعلام في جامعة بيت لحم د. سعيد عياد يؤكد "أن مأساة شعبنا أن قيادته لم تبحث عن بدائل اقتصادية تعوضه عن الضغوط المالية والاقتصادية الخارجية، بل جرى استمراء التمول من الخارج فأصبح اقتصادنا الضعيف أصلا اقتصاد ريع، ومن ثم عدم التمكن من مواجهة أية ضغوطات تُفرض على هذا الاقتصاد. كما أن سوء الإدارة المالية وسوء إدارة مسارات الاقتصاد هي سبب في تعميق المأساة ".
ويقول د. عياد:" ثمة موانع خارجية ولكن مهما كانت هذه الموانع قوية فإنها عند إرادة التحدي والاعتماد على الذات لن تنجح، منوهاً إلى أن المطلوب يكمن في إعادة التفكير في أولوياتنا وإعادة النظر في تفكيرنا السياسي العقيم الذي لم ينتج لنا سوى واقع سياسي مؤلم وواقع اقتصادي مأساوي.. خياراتنا كثيرة وقدرتنا على الاعتماد على الذات ممكنة وسيكون ذلك إذا أعدنا النظر في قوالب التنميط التي أجبر شعبنا على الانحشار فيها سياسيا واقتصاديا".
الباحث محمد شلالدة يقول:"إن الحالة الفلسطينية متشابك فيها الداخل مع الخارج ومعقد لدرجة يصعب فيها التمايز والتحديد أيهما داخل وذاتي وأيهما خارجي، وهذا الوضع هو في المحصلة نتاج وضع استثنائي متمثل في الاحتلال وتداعياته، وبالتالي فإن مقولة الاكتفاء الذاتي لا تنطبق على الحالة الفلسطينية.
تؤكد الباحثة في التراث ربيحة علان أن لقضية الاكتفاء الذاتي أكثر من مستوى، كما وتختلف مقومات كل مستوى رغم ارتباطها معا، فهي تأتي على المستوى القومي، والدولة، والمؤسسات والجماعات المنظمة، و من ثم الأسرة، منوهة إلى أن الأسرة تأتي في الدرجة الأولى من حيث الأثر في تحقيق الاكتفاء الذاتي أو عدمه.
 
أين نحن من اقتصاد العجائز!
وتوضح علان:" كانت جداتنا وأمهاتنا يعشن ظروف أقسى من ظروفنا ولكن كان لديهن سلوك أفضل في هذا الأمر ألا وهو الاقتصاد المنزلي. لقد كن أكثر نشاطا وإنتاجية، وكانت ثقافة التخزين وحفظ ما يلزم للأيام القادمة موجودة بقوة، ولكن اليوم أصبحنا غالبا لا نقوم بالتخزين والتعامل كما يجب في مسألة الاقتصاد المنزلي".
 وتضيف:"هناك ضغوط اقتصادية ولكن السلوك السلبي يزيد الطين بلة.. لقد اختفت أو تكاد المساحات المزروعة حول المنازل.. لقد كان أجدادنا يزرعون في العلب الفارغة و" التنك الخربانة " وكل وعاء يمكن أن نراه الآن مجرد نفايات.. كانت أمهاتنا وجداتنا يمارسن التنمية البشرية الحقيقية واقعيا". وبشأن مستوى الجماعات والمؤسسات فترى علان أنها مؤسسات تقوم على ثقافة تستند إلى التمويل الخارجي، وأن كثير من نشاطاتها ما هي إلا مجرد صور لاحتفالات وتكريم وأبحاث سطحية ومشاريع تفشل في وقت قصير. وبخصوص السلطة فتذكر بأن الأمر أسوأ، حيث الفساد يمنع النجاح ويحارب الاكتفاء.
من جانبه يرى الكاتب ياسر عبد الله أن تعذر تحقيق اكتفاء ذاتي جاء من الكوابح والمعيقات الداخلية، مضيفاً:" نحن من ترك الأرض ونحن من هجرنا الزراعة والصناعة، وأن هروب الشباب للعمل في إسرائيل جعلهم يهجرون أراضيهم، وبالتالي تركها للمطامع الإسرائيلية. ولم يغفل عبد الله عن التأثيرات الخارجية المتمثل ( وفقه) في العولمة، ثورة التكنولوجيا، قدوم السلطة وفتح أبواب الاستيراد من الخارج على حساب المنتج الوطني.
الإعلامي خالد الكردي يشير إلى أن إسرائيل تسيطر سيطرة كاملة على الاقتصاد الفلسطيني، حيث أن الفلسطينيين يعتمدون اعتماداً كلياً على إسرائيل في قطاعات الكهرباء والماء البترول والغاز والاستيراد والتصدير وكل نواحي الحياة، مبيناً أن اتفاقية باريس لم تترك للفلسطينيين مجالاً للاعتماد على أنفسهم في الجانب الاقتصادي. ويذكر الكردي أن السلطة وضعت " بيضها في سلة واحدة" عندما وقعت اتفاقية أوسلو التي " جعلتنا أسرى ومقيدين بكل جوانب الحياة مما أدى إلى شلل في الاكتفاء أو الاعتماد على الذات". ويخلص الكردي للقول:"الاكتفاء الذاتي يعني أن تكون حراً، مستقلاً تعتمد على نفسك، لا الاعتماد على المساعدات الخارجية والقروض من البنك الدولي وسواه".
 
العودة إلى الأرض
الباحث أنور عبد العزيز يقول: لا أرى وجود إرادة حقيقية باتجاه الاكتفاء الذاتي، منوهاً إلى "أن هناك تحديات لذلك، وأن التحدي الحقيقي هو الإرادة والتصميم.. وهذا ما نفتقده.. وبهذا المعنى هناك تحديات يتم إيجادها وخلقها كمبرر فقط". ويضيف عبد العزيز:" التنمية البشرية قبل التنمية المعيشية. يجب الاستثمار في العقول قبل الاستثمار في البقول.  يتوجب العمل على خلق جيل جديد صادق، مخلص، مثابر و قادر على النهوض وحمل المسؤولية".
عبد الكريم زيادة مسؤول في وزارة التربية والتعليم يقول:"فلسطين بلد خير ولكنها دائماً مسلوبة الإرادة في التحكم في بعض مواردها كالموانئ والمعابر؛ ما يعيق الاستيراد والتصدير ويصعب التنمية". ويضيف:" هنالك عوامل ذاتية لا تساهم في الاكتفاء الذاتي وهي إهمال قطاع الزراعة منذ قيام السلطة وعدم تشجيع الصناعات الزراعية وعدم احترام الموروث الاقتصادي المقاوم، إلى جانب الإضرار بقواعد التنمية من خلال تهميش صغار التجار لصالح الشركات الاحتكارية، وهذا ما أدى إلى ضياع بوصلة الاكتفاء الذاتي".
المربي ياسر جوابرة يذكر "أن الكوابح الذاتية وليدة الموانع الخارجية، فالظرف الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الفلسطينيون من حجز الأموال والبطالة المتفشية، ولدت ميولاً نحو الاكتفاء الذاتي رغم قلة الإمكانات وعدم توفر الظروف المواتية". أما ظافر صباح فيرى أن الحيلولة دون تحقيق مثل هذا الاكتفاء ناجم من موانع خارجية " لأننا شعب مستهلك ونحتاج إلى الإذن للحصول على أي شيء، خصوصا إننا ألزمنا أنفسنا بقيود وقعنا عليها عند كل اتفاق".
الكاتب والمحلل السياسي طارق الشرطي يؤكد أن الحديث عن الاعتماد الذاتي للدول يختلف بطبيعته بين دولة وأخرى، سواء من حيث خيراتها وموادها الطبيعية أو عبر السياسات التي تتبعها خاصة الاقتصادية، وأن الكثير من الدول لها موارد طبيعية تجعلها قادرة على الحصول على نمو اقتصادي ورخاء ينعكس بدوره على المجتمع. ويرى أن الحالة في فلسطين بخصوص الاكتفاء الذاتي مرهونة بقضايا عديدة، فهي ليست من الدول التي بها وفرة إنتاجية طبيعية سواء من الناتج الزراعي أو الصناعي أو السياحي، وهذه القطاعات لا تشكل حجما يجعلها دولة قادرة على الاكتفاء ذاتيا لكونها دولة ترزح تحت الاحتلال، وما له من أثرٍ سلبي في الحد من قدرة الفلسطينيين من التقدم وإنجاح الخطط والسبل لتحقيق نمو ورخاء وصولاً للاكتفاء الذاتي.
 
الإرادة قبل السياسة!
ويشير الشرطي إلى أن الاكتفاء الذاتي للفلسطينيين يواجه صعوبة من حيث التنفيذ لسببين هامين، أولهما: معيقات ذاتية تتمثل في:عدم وجود موارد طبيعية ذات مستوى عالٍ كباقي الدول، عدم وجود سياسات وخطط اقتصادية قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، عدم وجود بيئة مشجعة للاستثمار سيما في قطاعات يمكنها إدخال عائدات للدولة، انشغال صناع القرار بقضايا أخرى عديدة داخلية وأخرى خارجية، وعدم وجود ثقافة ذاتية للمواطن بتقديم واجباته للدولة.  أما السبب الثاني ( حسب الشرطي)، فهو موانع خارجية، ممثلة في: قيود الاحتلال وممارساته وتشمل:السيطرة على المعابر وإعاقة التجارة، السيطرة على الموارد ومنها الأراضي والمياه الجوفية، وإلحاق الضرر بالقطاع الزراعي، علاوة على  طبيعة العلاقات الفلسطينية الخارجية والتي تتأثر بفعل الاحتلال من جهة، ومن كون السلطة لا زالت "دولة دون سيادة" من جهة أخرى، إلى جانب ضعف دعم الدول العربية  للفلسطينيين اقتصادياً وسياسيا.
بدوره يذكر الإعلامي رامي نوفل أن لكل من الكوابح الداخلية والمعيقات الخارجية أثراً كبيراً في عدم تحقيق مثل هذا الاكتفاء الذاتي للفلسطينيين، مضيفاً أن هناك من الاتفاقيات المجحفة بحق الشعب الفلسطيني التي لها التأثير السلبي في عجلة الاقتصاد، والمساهمة في عدم الاكتفاء الذاتي. ويرى نوفل أن اتفاقية باريس، التي مضى على توقيعها أكثر من 20 عاماً، ليست مفيدة للفلسطينيين واقتصادهم، وأنه من الواجب النظر فيها مجدداً والعمل على تطويرها لتخدم الاقتصاد والتنمية في فلسطين.
الكاتب والروائي رياض السلفيتي يقول:"الاكتفاء الذاتي كان يمكن تحقيقه لولا العوامل التي تؤثر عليه من الاحتلال، وأن المستهدف هو المزارع الذي ينتج من أرضه ما يسد الحاجة الفلسطينية، فـ" أرضنا خيرة وتنتج إلا أن أسعار ولوازم أدوات الأرض ذات تكاليف عالية، إضافة إلى أن الاحتلال دوما يحارب المحصول الفلسطيني بضرب الأسواق بالأسعار، وهذا ما يسبب الخسارة للمزارعين". وبخصوص الصناعة يتساءل السلفيتي:" ماذا لدينا من إمكانيات لننتج صناعة وكل شيء يمر عبر الاحتلال؛ فكثير من المعدات لا تسمح بها إسرائيل لئلا يحدث هذا الاكتفاء" ويخلص للقول:" مع الإرادة والدعم الذاتي والوعي يمكن تحقيق هذا الاكتفاء خاصة إذا اقتنعنا أننا نحتاج لبناء الذات وليس قتل الذات".
خلاصة القول: يجمع معظم من أدلى برأيه في هذا التقرير على ضرورة قيام صانعي السياسة الفلسطينية بالعمل من أجل إبقاء المزارعين في أرضهم، بدلاً من اعتماد سياسات تقود إلى العكس تماماً والعمل على وضع إستراتيجية اقتصادية يضع النضال من أجل السيادة والأرض فوق تصورات النمو الاقتصادي الزائفة. فالإذعان لإملاءات إسرائيل، أو وكالات المساعدات الدولية، لم يؤد إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي أو تحقيق أي اكتفاء ذاتي، أو إلى وضع حد للاحتلال، إذ يجب أن يُبنى كل من النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي على مقاومة الاحتلال.