الحدث - ثائر ثابت
هناك، وتحديداً أمام بوابة المحكمة العثمانية في بلدة رام الله القديمة، تجمع حوالي20 طفلاً وطفلة، حاملين أوراقهم وأقلامهم وحقائبهم الصغيرة، هذا التجمع لم يأتِ بغرض إنصافهم وتقديم شكوى لهذه المحكمة العريقة التي حُولت منذ زمن لمركز ثقافي، بل من أجل الانطلاق إلى أريحا، للمشاركة في رحلة ترفيهية استطاعت أن تُوحد الصغار الذين تجمعوا من مختلف مناطق محافظة رام الله والبيرة.
هؤلاء الصغار لم يشاركوا في هذه الرحلة على سبيل الترفيه فحسب، إنما استمكالاً لبرنامج "أبناء القمم" الذي انطلق؛ كمبادرة هادفة تنفذها هيئة شؤون الأسرى والمحررين ومؤسسة "تواصَل"، بهدف صقل مهارات عدد من أبناء الأسرى في رام الله والبيرة، وإذكاء خيالهم واستحضار الأفكار الملهمة وروح الإبداع لديهم؛ كوسيلة للتعبير عما يجول في خاطرهم من مشاعر ممزوجة بالفقد والحنين لآبائهم الذين يقضون ردحاً من العمر داخل معتقلات الاحتلال الاسرائيلي.
قراقع: إبداعات من قلب المعاناة
وفي هذا السياق، بين رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين عيسى قراقع، في حديث خاص مع "الحدث" أهمية هذا البرنامج قائلاً: "إن برنامجاً كهذا جاء لإخراج إبداعات أبناء الأسرى من قلب المعاناة وتعزيز ثقتهم بأنفسهم من خلال التأكيد على دورهم الفاعل داخل مجتمعاتهم وتقدير تضحيات ذويهم ونضالهم في سبيل قضيتهم العادلة".
ولفت قراقع إلى أن هذا البرنامج يعكس توجه هيئة شؤون الأسرى والمحررين نحو مد جسور من الشراكات وتفعيل آفاق التعاون مع الجهات المعنية والمهتمة بمواهب أبناء الأسرى لا سيما أن هذه المبادرة جسدت هذا التوجه بالشراكة مع مؤسسة "تواصَل" لتحقيق غايات تنسجم مع رؤى الهيئة وتطلعاتها.
أقصى: سأصبح طبيبة لكنني سأظل أكتب
المشاركة أقصى حسن (11 عاماً) اعتقل الاحتلال والدها عندما كانت أمها حبلى بها، تقول: "أعشق الكتابة كثيراً وأحب حصة التعبير في المدرسة وقبل فترة كتبت موضوعاً بعنوان: "الحرية" حاز على إعجاب معلمتي ونقلته كاملاً على السبورة. فرحت وقتها.. وسأفرح عندما أعانق والدي حين ينال حريته هو وباقى الأسرى..".
وعلى الرغم من أن أقصى تطمح بدراسة الطب في المستقبل؛ لتصبح طبيبة مشهورة إلا انها ستبقى تكتب؛ فهي ترى في الكتابة عالماً واسعاً تعبر من خلاله عن حياتها وأحلامها وأشياء كثيرة.
الأسطة: اختيار "أبناء القمم" وفق معايير واضحة
وحول آلية اختيار المشاركين في هذا البرنامج يوضح منسق مؤسسة "تواصَل" في فلسطين أنس الأسطة أنه تم اختيارهم ضمن معايير وأسس واضحة تم وضعها بالتنسيق والتشاور بين ممثلي هيئة شؤون الأسرى و"تواصَل" وعدد من مديري المدارس، حيث تم التركيز على أبناء الأسرى الذين يمتلكون مهارات وطاقات ملهمة وقدرات ورغبات للتعبير والكتابة.
وفي سؤال عن سر اهتمام "تواصَل" لإطلاق هذا البرنامج الإبداعي أجاب: "بالحقيقة تواصَل هي مؤسسة عربية إقليمية غير حكومية تُعنى بالتأهيل والتمكين المعرفي والعلمي والثقافي، وقد نَفذنا في فلسطين عدة مشاريع منها: "الأدباء الشباب" و"الإعلاميين الشباب" وهذا البرنامج الذي ننفذه اليوم بالشراكة مع هيئة شؤون الأسرى يبرهن على حرص "تواصَل" لابراز إبداعات أبناء الأسرى وإيصال صوتهم للعالم كله".
خداش: البرنامج هيج بحيرة الخيال في أعماق المشاركين
هذا البرنامج بالنسبة للكاتب زياد خداش، المشرف على تدريب المشاركين، عزز لديه جدوى الكتابة، وفي سؤال عن محاور الورش التدريبية التي تضمنها البرنامج يجيب: "الجوانب التي شملها التدريب "تهييج" بحيرة الخيال الراكدة في أعماق طلابنا عبر إطلاق خيول المخيلة المحبوسة بفعل واقعنا الإنساني الحزين والتربوي البائس، كذلك التعامل مع الطبيعة الفلسطينية بالحواس الخمس، وإحساس الطالب "ابن الأسير" كونه محشوراً في بوتقة واحدة وهي أنه ابن معتقل والتعامل معه على أساس أنه موهوب ومبدع مع عدم إغفال كونه ابن مناضل الأمر الذي عليه وعلينا أن نفخر به".
ويرى خداش أن التفاعل بينه وبين المشاركين كان عظيماً حيث شعر برغبة عارمة لديهم للخروج من الدوائر المغلقة وبإحساسهم بالحياة والتفكير الدائم بنضالات آبائهم وعدم إقفال باب السعادة في وجوههم.
وحول ماذا يمثل هذا البرنامج للمدرب خداش أردف قائلاً: "يعني لي هذا البرنامج كإنسان الكثير الكثير... فأنا لم أذق في طفولتي طعم غياب الأب وكنت دائماً أسمع عن غياب آباء أصدقائي داخل معتقلات الاحتلال ...لا أريد أن أبالغ وأقول أتمنى لو كان أبي أسيراً فلا أحد يتمنى ذلك ولو حدث ودخل والدي المعتقل سأكون فخوراً بحزن كما هو فخر أصدقائي الحزينين...".
عياش: البرنامج سينطلق إلى كافة محافظات الوطن
وتقول مديرة "أبناء القمم" أريج عياش: "هذا البرنامج الذي يستمر حتى نهاية العام الحالي استهدف أبناء أسرى محافظة رام الله والبيرة؛ لينطلق بعد ذلك إلى كافة محافظات الوطن وسيتم نقل التجارب والأفكار لزملائهم الجدد حيث يتشاركون جميعاً هذه الأفكار الملهمة والأهم اننا سنوثق هذه الأعمال الإبداعية بكتيب خاص وسنقوم بتكريم المبدعين أيضاً".
وأفادت أن البرنامج لا يقتصر على ورش الكتابة الإبداعية فحسب، إنما سيتضمن عديد المجالات، كالموسيقى والغناء والرسم والدراما والرحلات الرامية إلى إطلاع المشاركين على المعالم التاريخية والسياحية، بالإضافة إلى توسيع مداركهم وخيالهم ومعارفهم عبر هذه الجولات الترفيهية والتثقيفية.
وفيما يتعلق بتفاعل المشاركين في البرنامج، أردفت: "التفاعل لا يقتصر على أبناء المعتقلين وحدهم بل تفاعل أهلهم خاصة الأمهات اللواتي تحمسن بشدة لفكرة البرنامج وهذا ما لمسناه عند الحديث عن الانطباعات التي تركتها ورش الكتابة عند الصغار، فهنالك على سبيل المثال لا الحصر أصبح لدى البعض مقدرة على كتابة رسالة بلغة قوية وسليمة أو تخيل كيف يمكن للريح أن تناجي الشجر..".
والدة أحد المشاركين: البرنامج استثمار لطاقات أبنائنا
فتحية البرغوثي، والدة المشارك سائد، تحدثت عن دافع تسجيل ابنها في هذا البرنامج قائلة: "في البداية لم يرغب سائد في الانخراط في هذا البرنامج بسبب تعارض أوقاته مع موعد درس الكونفو إلا أنه بعد حضوره اللقاء الثاني من الورش التدريبية غير رأيه واعتقد أن مدربه أكثر ما حفزه للاستمرار في حضور الورش وتعلم أفكار جديدة في مجال الكتابة الابداعية وأشعر بسرور حين أراه يكتب عبارات ينشرها على صفحته عبر فيسبوك يعبر فيها عن اشتياقه لوالده المعتقل".
وتعتقد البرغوثي أن البرنامج يعد استثماراً حقيقياً لطاقة أبناء الأسرى خاصة في مرحلة المراهقة التي تتطلب اشغال هذه الفئة بأمور تعود عليها بالفائدة وتجنبها الكثير من المشكلات التي تتعلق بهذه المرحلة العمرية الحرجة.
مؤنس: رسالة برتقالية من المعتقل
المشارك مؤنس زيد (16 عاماً) يطمح أن يصبح كاتباً يوثق معاناة شعبه ويسلط الضوء على القضايا الاجتماعية|، تحدث عن تواصله من خلال الكتابة مع والده: "أحياناً كنت أرسل لأبي "نكت" وأذكر عندما كنت في الصف الرابع ارسل لي رسالة بلون برتقالي وصلتني عبر بريد مدرستي... وكنت أبعث له كتابات بلغة عامية أما الآن سأكتب له رسائل بلغة فصيحة...".
وعن الإضافة التي حققها له "أبناء القمم" تابع مؤنس: "تعرفت على الكثير من المصطلحات الأدبية، كذلك إذكاء مخيلتي من خلال الكتابة؛ فمثلاً يمكنني عبر الخيال أن أتحول إلى موج هائج في بحر غزة أو أن أتحول إلى غبار وأجتاز حاجزاً عسكرياً.. كذلك تعززت لديّ القناعة كي أعبر عن آرائي بحرية وعن حالتي النفسية أيضاً..".
قبيل انتهاء الرحلة، وداخل حقل زُرع بالقمح، اقتحم الصغار هذا الحقل الذي بدا لهم وكأنه بحيرة خضراء طفت فوقها قوارب بيضاء من رسائل خط عليها الأطفال حروفاً تركوها هناك تحرسها سنابل القمح، لكنهم سيعودون ذات يوم ليس بقصد التجمع باب محكمة أو مركز ثقافي؛ بل ليرفعوا حروفهم معانقين آباءهم الأسرى - القمم.