لو أمطرت الدنيا نقوداً كل ما رفع شعار من عشرات الشعارات التي ترفع في بلادنا لأصبحنا أغنى أغنياء الشعوب. نظرة سريعة على وسائل الاعلام بكل أنواعها تبين حجم الاعتماد على الشعارات الرنانة الجميلة التي تدغدغ الشعور وتملئ الأثير برامجاً والميدان يافطات دون أن تمس بجوهر الأمور أو تغير منها شيئاً. انها المفارقات وقد باتت تزاحم المفاهيم في حياتنا بحيث نقبل بتناقض بين الواقع والخطاب باعتباره جزءاً طبيعياً من الحياة... وبهذا، تصبح حياتنا مليئة بالمفارقات.
على سبيل المثال، نقول لأبنائنا "النظافة من الإيمان" ثم ما نلبث أن نحذرهم من المخاطر والمكاره المرتبطة باستعمال المرافق الصحية العامة لشدة اتساخها. الأول هو شعار وعنوان جميل يقرب للتمني أما الثاني فهو انعكاس لحقيقة وسخة مرة يتجاهلها الجميع لصالح الشعار.
ونتباهى بالعروبة والعرب رغم أننا لا نلبث أن نتحدث في مجالسنا المغلقة عن تواطؤ النظام هذا وعمالة النظام ذاك! وبهذا لا يتعلم أبناؤنا عن اخوتنا العرب سوى الحديث بالشعارات علناً والهجوم اللاذع سراً وتختزل العروبة بلقاءات القادة وخطاباتهم وتقتصر علاقتنا بالعربي الآخر على تواصلنا الافتراضي لأن الحصول على تأشيرة لزيارة دول العجم أسهل بكثير من الحصول على تأشيرة لدول العرب.
أما عن تسامح الأديان والتعايش بينها، فنحن نبدع في التباهي بتاريخنا الغني بالتعايش والتآخي، رغم أننا لا نذكر سوى العهدة العمرية مثالاً ونتجنب الحديث عن أمثلة كثيرة ومريرة في تاريخنا تخللها عنف ديني وطائفي لا تزال آثاره موجودة في جنبات ذاكرتنا الجمعية. في المقابل، تعج شبكات التواصل الاجتماعي والأحاديث الجانبية التي لا تزال في معظمها خجولة بعبارات ومصطلحات تنم عن انعدام التآخي وعن تجذر الصورة النمطية للآخر في ذهننا، مسقطين في الأثناء مفهوم المواطنة والهوية الوطنية التي يجب أن تجمع بيننا رغم اختلافنا.
وعن سماحة الإسلام نقول الكثير الكثير دون أن ندرك أننا تعودنا على هذه الأحاديث حتى حولناها إلى شعارات لا تعكس واقعنا ولا تعكس حقيقة تعاطينا الجبان مع قوى الظلام والتشدد المتلحفة بالدِّين. فترانا مندفعين غاضبين نستنكر ما أقدم عليه أعداء الإنسانية - "داعش" - من قتل وحرق وإعدامات اجرامية ونتوعد في ذات البيان المستنكر لمن يشوهون ديننا الحنيف بقطع يد كل من تسول له نفسه من أتباع هؤلاء الاعتداء علينا أو على إخوتنا! أي مفارقة هذه؟!
أما عن حقوق المرأة ومكانتها، فحدث ولا حرج! تتنافس القوى السياسية والأهلية في إصدار البيانات الجميلة والأوصاف الراقية حول مكانة المرأة وأهمية دورها في المجتمع والنضال الوطني وغيره من الأوصاف التي يعجز عن كتابتها من سبقونا بسنوات ضوئية فيما يخص احترام حقوق المرأة!
الواقع أننا لا زلنا نزرع في عقول أبنائنا ذات الأفكار البالية الرجعية التي ترى في المرأة إنساناً ناقصاً لا يقوى الا على عدد محدد ومحدود من المهام في الحياة وهي مهام يحددها المجتمع الذكوري طبعاً... هذا بالضبط ما يفسر درس "أبي يعمل وأمي تطبخ" وغيره من الدروس في مناهجنا التعليمية.
ويكبر أبناؤنا مع هذه المفارقة؛ كتب ترسخ مفاهيم مثقلة بالرجعية وشعارات تتحدث عن دور المرأة العظيم في حياتنا السياسية والنضالية والثقافية. والمفارقة لا تنتهي هنا، فواقع مشاركة المرأة الفعلي في هذه المجالات يجعل من الشعارات وصفة خيالية لحياة في كوكب آخر إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مشاركة المرأة في الحياة السياسية وتحديداً في دوائر صنع القرار لا تصل عشرة بالمائة. وفي هذا المجال، وجب استذكار تجربة الانتخابات المحلية القريبة والتي شاركت فيها المرأة ترشيحا وترشحاً. لكن هذه المشاركة كانت إشكالية بحيث تم استبدال صورة المرشحات في كثير من الدوائر بوردة وكأن صورة وجه المرأة عيب أو أن هذه المرأة التي من المفترض أن تنال ثقة المواطن في الانتخابات باعتبارها قادرة على تحقيق مصلحته موجودة على القائمة فقط لأغراض مصداقية الشعارات وليس لأنها جديرة بالتنافس على ثقة المواطن وخدمته. حصة المرأة في سوق العمل ليست أفضل بكثير، حيث تشير الدراسات أن نسبة المرأة في القوى العاملة لا تصل 20% وعادة ما تتقاضى راتباً أقل من ذلك الذي يتقاضاه زملاؤها من الرجال.
وأخيراً، نقول في الوحدة الوطنية شعراً بينما لا نزال نتمسك بالخطيئة والتناحر نهجاً وديناً سياسياً ليكون هذا الواقع المنفصم أبو المفارقات كلها في حياتنا!
يقال أن تشخيص المرض هو ثلثي العلاج. حري بنا إذاً الاعتراف أن جزءاً كبيراً من الاعوجاج في المنطق الجمعي كما في الحياة السياسية والاجتماعية ينبع من كثرة المفارقات والتناقضات التي نقبل التعايش معها. مر يوم المرأة العالمي مثقلاً بالشعارات والمفارقات وعيد الأم سيأتي قريباً... لكل نساء فلسطين الرائعات، كل عام وأنتن بخير وعنفوان.... أعياد منزوعة الشعارات أتمناها لكن!