الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"مظاهر ومخاطر الإنفصال عن الواقع في الفكر السِّياسي المعاصر لدَيْنا" / بقلم: رائد دحبور

2015-03-10 01:57:33 PM
صورة ارشيفية
 
في أيِّ مناخٍ يمكننا وضع أسباب ما يجري الآن في منطقتنا من احترابٍ وإزاحةٍ لمفاهيم الشَّراكة والتَّفاعل الإجتماعي والثَّقافي والحضاري الإيجابي، نحو مصائر قاتمة داميَةٍ مجهولَة، غير تلك المناخات الَّتي أفرزتها مظاهر الإنفصال عن الواقع المعاصر في بعضِ جذور وأنماط الفكر السِّياسي السَّائد لدينا.
 
يمكننا تعريف الفكر السياسي بأنَّهُ : القِيَمُ والأفكار والنظريات والضَّوابط التي تحدد السُّلوك السِّياسي، وفي نظر الفكر السِّياسي فإنَّ تلك القيم والأفكار والنَّظريات تُسْهِمُ الى حدٍّ كبير في خلق الدَّافعية لدى الأفراد والجماعات والحكومات باتِّجاهِ سلوكٍ سياسيٍّ ما، كما أنَّها تُعتَبَرُ وتمثِّلُ قاعدةً لتُحَرِّك وسلوك الحكومات الَّتي تضْطَّلِعُ بقيادة الدُّول.  

ويطرحُ الفكر السِّياسي ويُناقِشُ جملَةً من الأسئلةِ عن:
الدَّولة وطبيعتها ووظيفتها، وعن طبيعة النِّظام السِّياسي، وعن الحكومات وتركيبتها وأطُرِها التَّنظيميَّة وهياكلها وأدوار تلك الهياكل والتَّنظيمات الإداريَّة الحكوميَّة، ووصفها القانوني من حيث الواجبات والحقوق، وعن البُنى الإجتماعيَّة وخصائصها وأدوارها وطبيعة ومستوى العلائق بين مُكَوِّناتها.
 
إنَّهُ – أيْ الفكر السِّياسي – يُحاول كذلك تناول وتقديم تفسيراتٍ مُحدَّدة لمفهوم البلَدْ كمفهومٍ يدُلُّ على الوطن ضمن حدود الجغرافيا السِّياسيَّة وضمنَ حدود الكيان القومي أو الإجتماعي أو الثَّقافي، ولا شكَّ أنَّ جملة العوامل التَّاريخيَّة والثَّقافيَّة والإجتماعيَّة والعرقيَّة والجغرافيَّة قد أسهمتْ في رسم المعالم النَّظريَّة والواقعيَّة في سبيلِ تقديم الفكر السِّياسي لتعريف الوطن وعلاقته بمفهوم الدَّولة بأنماطها المختلفة، بين دولة قوميَّة أو إثْنيَّة أو دينيَّة أو وطنيَّة أو مدنيَّة.
 
واستناداً الى تطوُّر نظريات الفكر السِّياسي؛ فإنَّه يتمُّ تناول الإطار القانوني الحقوقي، النَّظري والواقعي والفعلي، لمفهوم السلوك السِّياسي للدُّول والكيانات السِّياسيَّة في نظر السِّياسة الدَّوليَّة ومرجعيَّاتها القانونيَّة وفق ما بات يُعرف بالقانون الدَّولي، والقانون الدَّولي الإنساني، الَّذان يُحددانِ القواعد والأطر النَّاظمة للعلاقات الدَّوليَّة؛ كما يحددان حدود مسؤوليَّات والتزامات الدُّول تجاه بعضها وتجاه مواطنيها.
 
ومعنى ذلك: أنَّ الفكر السِّياسي ووفق جملَةِ من التَّعريفات يتجاوز دور وصف الدَّولة أوالبلد أوالوطن على أسسٍ جغرافيَّة فقط؛ فهو يُحاول أنْ يمزج عوامل الجغرافيا والتَّاريخ والثَّقافة والبناء الإجتماعي، وما يمكننا تسميته بالقانون الطَّبيعي لتطوُّر المجتمعات، إضافةً الى القانون الإنساني ومفهوم حقوق الإنسان والمواطنة ضمن منظومة نظريَّة وواقعيَّة واحدة مُتداخِلَةٍ مترابطة.
 
ولم يكنْ من السَّهل اشتقاق تعريف مُحدَّد للفكر السِّياسي بعيداً الإطار الفلسفي لمفهومِ السِّياسة أو ما يُسمَّى بالفلسفة السِّياسية؛ وكذلك لا يُمكنُ اشتقاق ذلك التَّعريف بعيداً عن واقع نظام مُعتقدات الفرد أو الجماعة أو المجتمعات بشكلٍ عام؛ فقد ارتبط الفكر السِّياسي ومنذ عهد الفيلسوف اليوناني أفلاطون بإطار المفهوم الفلسفي للحياة بالإجمال؛ وبما تضَمَّنه ذلك من النَّظرة الى المفاهيم المتَّصلة بدورِ الفرد والجماعة في إطار المجتمع؛ وكذلك الى المفاهيم المتعلِّقة بتعريف الدَّولة والحكومة وقاعدة وصيرورة العلاقة بين الفكر السِّياسي والواقع.
فالفلسفة السِّياسية هي فرعٌ من فروع الفلسفة كما أنَّها فرعٌ من فروع العلوم السِّياسيَّة؛ وقد صَنَّفها الفيلسوف اليوناني أرِسْطو – على سبيل المثال – كفرعٍ من فروع العلوم التَّطبيقيَّة نظراً لارتباطها من حيث الدِّوافع والسُّلوك والأهداف بالممارسة العمليَّة للمجتمع.
 
ويُعدُّ الفيلسوف اليوناني أفلاطون 427ق.م من أهم رواد المدرسة الفلسفيَّة في السِّياسة وقد قدَّمَ الكثير من الرُّؤى في التنظيم السياسي والعدالة والتعليم والنظام الأجتماعي وقد كانت الرُّؤى التي قدَّمها ذات طابعٍفلسفي اتَّسَمَ بدرجة كبيرة من  العمق، لكن كان يُعابُ عليه وعلى الدَّوام بأنه كان يفصل الأفكار والرُّؤى التِّي قدَّمها عن الواقع, وله عدة كتبتحدث فيها عن شكل الحكومة وعن طبيعتها ومن هذه الكتب: كتاب الجمهورية،وكتاب القوانين. لذا فقد تمَّ تصنيف الرُّؤى الَّتي قدَّمها وبالإجمال، على أنَّها مفاهيم مثاليَّة يصعب تطبيقها، ومثال ذلك كتابه الشَّهير " المدينة الفاضلة ".
 
أمَّا في مجال الفكر السِّياسي المعاصر فقد اشتهرَ الفيلسوف السياسي الأمريكي – مايكل ساندل - بحواره عن مفهوم العدالة، وبتركيزه على ذلك المفهوم كإحدى أهم المفاهيم والمعايير الَّتي ينبغي تحقيقها كهدفٍ أساسي من أهداف صياغة وتطوير أداء الفكر السِّياسي المعاصر.
فيما نجد الفيلسوف السِّياسي الكندي المعاصر - تشارلز تيلور – قد ركَّز على معنى وأهميَّة واقع وجود الجماعة، أو الجماعاتيَّة.
فيما نجد أنَّ - كارل ماركس - قدْ أمعنَ في نقدهِ للفكرِ السِّياسي على قاعةِ فهمه الخاص  لطبيعة التكوين الطَّبقي الإجتماعي للمجتمعات الصِّناعيَّة في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وإنجلترا تحديداً، إبَّان الثورة الصناعية وفي المراحل الَّتي سبقتها. وقد قدَّم فهمه الخاص للمجتمع وللدولة وللحكومة على أساس معاييره النَّقديَّة لثقافة وحركة تطوُّر أدوات وعلاقات الإنتاج في تلك المجتمعات. وقدْ انكبَّ كارل ماركس على مناقشة كثيرٍ من مفاهيم الفكر السِّياسي ومنها على سبيل المثال تلك الأفكار السِّياسيَّة اللِّيبراليَّة الَّتي طرحها المفكر والفيلسوف الإنجليزي جون لوك، والَّتي حازت على شهرة عظيمة في أوروبا وأمريكا.
 
وإزاءَ ذلك فإنَّنا نجدُ أنَّ الأفكاراً الَّتي كان قد طرَحها المفكِّر الإنجليزي الشَّهير – جون لوك - في الأعوام مابين عام 1660م وعام 1680م قد أسهمت الى حدٍّ بعيدٍ في إعادة صياغة الفكر السِّياسي في إنجلترا، كما كان لها عظيم الأثر في صياغة الفكر السِّياسي في الولايات المتَّحدة الامريكيَّة مع مطلع القرن الثَّامن عشر، فقد جاءَت تلك الافكار في كتابين لجون لوك الأوَّل بعنوان " التَّسامح " ولاثَّاني بعنوان " رسالتان في الحكم ".
 
وقد كانَ لافكارِ جون لوك دوراً كبيراً غير مباشر في مجريات الثَّورة الأمريكيَّة؛ إذْ أنَّ كتابه " رسالتان في الحكم " وما تضمَّنه من أفكارٍ ومفاهيم كانَ مثار إهتمام وإعجاب الأمريكيين، بحيث آمنوا بتلك الأفكار واعتنقوها؛ وقدْ جاءَ في كتابه أنَّ الوظيفة العليا للدَّولة هي إدارة وحماية الثَّروة والحريَّة، وأنَّ على الشَّعب تغيير الحكومة في حالةِ عجزها عن حفظِ حقوق الشَّعب وحريَّته.
وقد كانَ من أشهر عباراته الفلسفية تلك الَّتي قال فيها: " إنَّ الأفكار الجديدة تبقى موضِعَ شكٍّ دائماً، وتتمُّ مقاومتها غالباً لسبَبِ أنَّها لم تُصبح شائعةً بعد".
 
إنَّ جذور وأنماط واتِّجاهات الفكر السِّياسي هي في الغالب من أنتَجَ هويَّة الدَّولة ونوعيَّتها؛ مابين دولة شوفينيَّة قوميَّة متعصِّبة كما جرى في ألمانيا وإيطاليا مطلع القرن المنصرم، أو دولة إقطاعيَّة دينيَّة كما جرى في أوروبا إبَّان تحالف الكنيسة مع سلطةِ الإقطاع، أو كما تجري اليوم المحاولات من قبل الجماعات الإسلاميَّة المتطرِّفة، أو دولة قُطْرِيَّة وطنيَّة بالمعنى المحدود كما جرى في لبلدان العربيَّة إبَّان نهاية عهد الإستعمار المباشر، أو دولة عقائديَّة آيديولوجيَّة كما جرى في روسيا إبَّان الثورة البلشفيَّة، أو دولة ليبراليَّة مدنيَّة فعَّالة وحيوية كما جرى في مختلف أنحاء أوروبا نهاية الحرب العالمية الثَّانية.
 
نجدُ اليوم – وعلى سبيل المثال – أنّ الفكر السِّياسي الإسلامي المعاصر، يُركِّزُ على أهميَّة صياغة الدَّولة على أساسٍ دينيٍّ مُطلَق، فيما نجد الفكر العروبي كان قد تبنَّى فكرة الدَّولة القوميَّة العروبية.
 وإزاء الفكر السياسي الإسلامي المعاصر فإنَّنا لو راجعنا سياق وتطوُّر تاريخ السلطة الَّتي نشأتْ منذ عهد الخلافة الأمويَّة في مطلع القرن الهجري الأوَّل وحتَّى تفكُّك الدَّولة العثمانيَّة في مطلع القرن العشرين؛ لوجَدْنا أنَّها كانت دولةٌ دينيَّة في جانبها الأوتوقراطي فقط – بمعنى مركزيَّة وتركيز السُّلطة - ودولةً مدنيَّة في الجانب الفعلي؛ وهو ما معناه أنَّ الفكر السياسي الإسلامي المعاصر يُحاول تجاوز عناصر التَّجربة التَّاريخيَّة ومفاعيلها ويركِّزُ على جانب الهياكل والمنظومات الثَّقافية والقِيَميَّة الإسلاميَّة الَّتي انطبعت وفقها أغلب مجتمعات المنطقة وليسَ كلَّها؛ لذا فإنَّنا نجده فكراً تعميميَّاً يتيهُ في فضاءَات التَّاريخ بعيداً عن الواقع المعاصر، وذات الشَّيء ينطبِقُ على جملة الأفكار القوميَّة العروبيَّة الَّتي تمّ تبنِّيها كروافع للنَّهضة والتنمية؛ ضمنَ مشتركٍ واحد بين الفكر السِّياسي العروبي والإسلامي وهو عدم فهم واقع المجتمعات الَّتي يتم طرح هذه الأفكار وتبنِّيها في أوساطها، وعدم مراعاة خصوصيَّاتها بدقَّة.
ذلك هو من وفَّر في الماضيَ ويُوفِّرُ الآن، مناخ القطيعة وبيئة التَّنافر والتَّناقض الى حدِّ التناحر بين مختلف اتِّجاهات ومكوِّنات الفكر السِّياسي في منطقتنا؛ وصولاً الى إنتاج ظواهر ومظاهر التَّطرف والإرهاب الفكري والمنهجي والفعلي ومناخات إنتاج واقع الحروب البينيَّة والأهليَّة؛ مِمَّا سيبعد أيَّ إمكانيَّة لتجواز واقع العجز والتَّخلف والإرتهان للخارج في واقع مجتمعات منطقتنا، والى آمادٍ بعيدةٍ قادِمَةٍ من الزَّمن !!.