الأمر الطبيعي أن تبدأ كل الدول العربية واحدةً تلو الأخرى بالانهيار نحو مستنقع التطبيع، ذلك لأنه من الطبيعي أن تتلاقى المصالح ما بين الأنظمة الدكتاتورية ونظام إستعماري استيطاني إحلالي وريث الدول الاستعمارية في المنطقة، فالرحم التي أنجبت الأنظمة العربية الحالية وأنجبت "إسرائيل" ككيان سياسي يرادُ له أن يكون "أصيلاً" في المنطقة هي واحدة. وما دامت كل الأمور ليست بأصيلة، وليست خارجة أو منبثقة عن إرادات الشعوب، وإنما تُسقطُ على رأسها إسقاطاً، سيظلُ إنحدارُ الأنظمة العربية لا سقفَ له أيضاً.
وبينما يظل الفلسطينيون في بطن الحوت، لا قدرةَ لهم إلا على الدعاء بأن يُرفعَ عنهم البلاء، دون أن يكون هناك إلا فعلٌ وحيدٌ من طرفهم هو فعلُ الانتظار، الانتظار العدمي: انتظار أن تتغير الإدارة الأمريكية، انتظار الانتخابات الإسرائيلية، انتظار فشل حماس في قطاع غزة، انتظار وصول المنح والمساعدات، انتظار تطوير لقاح كورونا، سيظلون واقفين في محطة الانتظار كالشحاذ الرَّث الذي ينتظر الصدقة التي تأتيه كمنة وكشراءٍ للذمة كي يظل واقفاً مكانهُ حتى تتآكل كل الأرضِ من حوله، فلا يبقى له إلا المساومة في النهاية على بقعة الانتظار التي يقفُ عليها.
وبينما "إسرائيل"، تتحرك بأسرع مما يتوقعُ الفلسطيني، نجدُ أن الدول العربية قد تعلمت الحركة منها، فأصبحت تتحرك مثلها، بل وعلى إيقاعها، لتترسم شبكة مصالح كبرى على شكل اتفاقيات الشراكات الاقتصادية، الاتفاقيات السياحية، الاتفاقيات التكنولوجية، المدن التكنوصناعية المشتركة، المبادرات الرياضية والثقافية الثنائية، وهي شبكة أكبر من أن تكون مجرد تطبيع للعلاقات، إنها شبكة حديدية، تربطُ المنطقة على أسس جديدة، بعيدة عن مفهوم العداوة التقليدية مع إسرائيل، هي إعادةٌ تصنيع لمفهوم العداوة، وإعادةُ اختراعٍ للعدو، ولمفهوم العدو؛ ليصبح سؤالُ: "من هو العدو؟"، هو السؤال الذي يحركُ قلب المرحلة.
إنه عالمٌ عربي، يتغيرُ برغبتهِ، وبطريقة أسرع من أن يستوعب الفلسطيني أنه لم يعدُ على مقاس انتظاره غير المفهومِ. وعندما يتحول الفلسطيني إلى كائن منتظرٍ غير مفهومٍ، يصبحُ شيئاً مجهولاً، والمجهولُ مطرودٌ من المألوفِ المعروفِ كأخٍ وكصديقٍ وكحليفٍ، فلا يكونِ داخلَ المنظومةِ التي تتشكلُ، بل يكونُ خارجها، وكل خارجٍ على هذه المنظومةِ هو العدو.
إنها مرحلةُ تحويلِ الفلسطيني إلى عدو. وعندما يتحول الفلسطيني إلى عدو فهذا يعني إنهاءَهُ بضميرٍ مرتاحٍ، وهذا لا يتم إلا بإعادة تشكيل كل البنية المحيطةِ به، كي يتم تفكيكه؛ أي تفكيك الفلسطيني عن ارتباطهِ بعروبته، وعن فلسطينيته، وبإعادةِ تعريفِ معنى العروبة، ومعنى الفلسطيني، ومعنى إسرائيل. إذ لم يعد العالم العربي يريدُ أن يتم تعريفهُ نسبةَ إلى عروبته، التي تنفي ضمنياً وتلقائياً إسرائيل، بل نسبة إلى جغرافيته: إنه الشرق الأوسط، الذي يعني اعترافاً بإسرائيل كجزء من تلك الجغرافيا. إنه إعادة تخيلٍ للمنطقة، وإعادة إنتاجٍ للعلاقات الجغرافية فيها، التي لا تقبلُ أن يظل الفلسطيني يتخيلُ فيها العروبة فكرةً ورابطةً أعلى من الجغرافيا، ولا أن يظل ينظرُ إلى إسرائيل كأكثر من عدو.
الجغرافيا تغيرت، وتغير معها العدو؛ لربما هذا هو مغزى الدروس الصعبة التي نتعلمها الآن والتي تأتي على شكل تطبيعٍ طبيعي.