بينما تعصف بالقضية الوطنية رياح عاتية من جميع الجهات، والاتجاهات تقريبا تحاول اقتلاعها، والاجهاز عليها، وفي كل مرة تدخل الى منحنى أكثر خطورة لا يمكن معها استمرار اخفاء أو التظاهر بمدى التأثير الذي أحدثته أو الاستهانة بإيقاعها المتسارع نظرا لاتساع حجم الانهيارات التي تحدث حولنا!! فالمكابرة أو التقليل من وقعها ستعود حتما بنتائج عكسية على الجميع مثلما يفعل التهويل بالانتصارات أيضا الأثر ذاته فمشاريع التطبيع العربي الجارف، والاعتراف، وإقامة العلاقات مع دولة الاحتلال ثم توقيع اتفاقيات التعاون المشترك معها، والتبادل التجاري، والصفقات الاستثمارية المختلفة نتاجا، وانعكاسا لحالة السقوط المدوي لمصفوفة التضامن العربي التي تتهاوى يوميا قبل ان يفوتها القطار لا يمكن لاحد ان يقلل من حجم هذا العامل، وينبغي رؤيته، والتمعن في سبل مواجهته، وعلى الطرف الاخر ما يجري على الارض بالمقابل ضمن مقولة شهيرة تتردد دائما على مسامع الجميع بأن فلسطين هي "قضية العرب الاولى" تناقض صارخ فالزحف العارم بالذهاب لما هو متضارب مع المقولة بجوهرها امام تكريس واقع الفصل العنصري، وباوسع تجلياته من نهب للارض فلا يكاد يمر يوم واحد دون الاعلان عن مشاريع الاستيطان، وبناء الوحدات الاستيطانية، ومصادرة الاراضي، وهدم البيوت، شوارع جديدة تلتهم الجبال، والتلال لتشوه منظر الطبيعة الخلاب في بلادنا تبنى على اساس قومي لا يجوز للفلسطيني سلوكها او المرور منها، سياسات القتل اليومي على الحواجز، واستهداف المدنيين العزل، حملات الاعتقالات بالجملة يوميا، وتضيق الخناق على الاسيرات والاسرى في السجون دون حسيب او رقيب تنفيذا لسياسة الموت البطيء بحقهم هذا باختصار جزء او كما يقال "غيض من فيض" من حياة الشعب الفلسطيني، وفوق هذا كله لا تزال الساحة الفلسطينية منقسمة تتقاذفها رياح قد تأخذ في طريقها كل شي- مصالحة - حوار للخلف در لقاءات تدخلات هنا وهناك من اطراف اقليمية، ودولية لا مجال لاستعراضها بالتفصيل لكنها لم تفضي الى انهاء صفحة الانقسام الذي يدرك الجميع انه بيت القصيد في اعادة الاعتبار للمشروع الوطني مثلما يدرك ايضا ان الوحدة ممر اجباري لعبور ما نحن فيه من توهان تقتضي الحكمة، والبصيرة معالجة ملف الانقسام الداخلي بكل ما يلزم من مسؤولية لترتيب البيت الداخلي، وطي صفحته الكارثية على الجميع دون استثناء.
التحولات الجارية بما فيها المتغير الذي طرأ بعد فوز بايدن، وعلى اعتاب دخوله البيت الابيض، وما اطلقه من اشارات جرى التقاطها هنا، ومحاولة البناء عليها، وهي توحي بامكانية احداث تغيير، ولو بسيط في السياسة الاميركية تجاه قضية الشرق الاوسط امام ما تواصل ادارة ترمب المنصرفة من خطوات في اطار سعيها الحثيث لتنفيذ اتفاقيات الشراكة ضمن حلف الرئيس المهزوم ترمب مع دولة الاحتلال تلك الاشارات حتى لو انها تبدو بسيطة الا انها تعكس موقفا مغايرا لما دأبت تلك الادارة عليه مثلا الحديث عن ارجاء صفقة القرن، واعادة فتح مكتب م. ت. ف في واشنطن او استئناف تقديم الدعم المالي والمساعدات للسلطة كل هذا مهم لكن باعتقادي هذا ايضا لا يغير حقائق ماثلة على الارض على مدار السنوات الماضية منها ان القدس المحتلة المعترف بها عاصمة لدولة الاحتلال اميركيا لن يكون تغيير في وضعها، وسفارة الولايات المتحدة ستبقى فيها، ثم ان الاستيطان الاستعماري الذي يقضم الارض الفلسطينية لم يعد شأنا تفاوضا من وجهة نظر اسرائيلية امام اطباق الخناق على معظم الارض، وتهويد القدس في اطار المشروع الاستيطاني الذي شارف على نهاتيه تقريبا.
بالمقابل ايضا على ذات الصعيد عناقيد العمل العربي المشترك التي يبدو انها (استوت وحان قطافها) بدأت تتساقط تباعا، بل تتسابق نحو تقديم اوراق اعتمادها في تل ابيب باعتبارها المنقذ والمنجي، وهي تدرك انها تقدم بذلك خدمة للاحتلال، ولا احد يغره الشعارات الجميلة التي تترافق مع ابرام الاتفافيات من "انها لن تؤثر على موقفها من ايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية" او "التمسك بالمبادرة العربية" لحل القضية الفلسطينية على الاطلاق فهذا الانزلاق الخطير المريع الذي تتضح اثاره تباعا سيكون اشد وطأة في المدى المنظور، وما يحقق من نتائج (مبهرة) تفاجيء حتى الاسرائيليين انفسهم لم يحلم بها بن غوريون، ولا غولدا مائير في سحب الفلسطيني للنحر المجاني بأيدي اخوته بهذا الشكل، وبيعه في سوق النخاسة لصالح الاعلان عن علاقات كانت سرية تخرج الان للعلن فاسرائيل اليوم مزهوة بما تحقق، وهذه العناقيد التي بدت خائرة لا تقوى على الصمود مع اول لمسة تساهم في رسم واقع خارطة جديدة للمنطقة العربية لصالحها لن يكون فيها العالم العربي هو نفسه الذي عرفناه، ولو حتى الادعاء الشكلي باننا نملك التضامن، والظهير، والنصير القومي ليس هذا فحسب بل معها سقطت كل الشعارات والكليشيهات، والجمل الرنانة التي تبين انها لا تسمن، ولا تغنى من جوع.
في الحال الداخلي الذي لا يسر مع انتشار وباء كوفيد 19 كورونا من جهة، واستمرار تراجع الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وحالة الحريات العامة، والسلم الاهلي الذي يرتفع فيه مسلسل العنف يوميا بصورة مقلقة مع حالة التشتت التي تعيشها "النخبة السياسية"، وغياب او تغيب دور القوى والاحزاب في المشهد، وانكفاء دورها وسط حالة الانقسام التي تضعف كلها امكانية النهوض التي لطالما اعتدنا عليها في المحطات، والمنعطفات الخطيرة بان يكون الشعب دوما جاهزا لحماية الحقوق، والاهداف الوطنية، ومعها يحمي النخب السياسية اما اليوم فالحالة تستدعي التدقيق في هذه الفرضية ان كانت ما زالت صالحة لبناء المقاربات بناء عليها حيث يصعب الجزم بها مع استمرار حالة التشظي التي تضرب عصب القرار الداخلي، وفقدان او تراجع الامل مع تعمق الانقسام، وعدم التوافق الداخلي على رؤية جامعة، ووسط تخبط واضح امام الجمهور الواعي، والمراقب لما يجري، ويعي بشكل جلي ان المصالح الفئوية الضيقة هي التي يجري تغلبيها على مصلحة الوطن، وهي حالة يمكن استمرار الحديث فيها، وتشخيص سلبياتها مطولا لن يكون المخرج منها الا باستعادة الثقة بين النخبة، والقاعدة الشعبية وعن طريق خطوات تحدث التغيير المأمول لدى المواطن، ومن بين اهمها حماية منظمة التحرير المظلة الجامعة للشعب الفلسطيني في كل اماكن تواجده، وممثله الشرعي والوحيد، واعادة الولاية لها باعتبارها صاحبة القرار في الشأن الفلسطيني بمشاركة، ودخول الجميع فيها، والعمل فورا على وقف التأكل الحاصل في هيئاتها، ومؤسساتها مترافقا مع استعادة الروح، والقيم الراسخة لتاريخها الطويل بضمان حق الاختلاف، والتباين في اطار البيت الداخلي - مطلوب اليوم اكثر من اي وقت مضى الذهاب لتحقيق الوحدة الوطنية، واستعادة العمل الداخلي المشترك باي ثمن كان على اسس واضحة تنهض بالوضع الداخلي من بين ركام التطبيع، والعواصف الهوجاء باتجاه القوة، وتمتين الوضع بمقومات صمود وطني تعيد عجلة التلاقي على سكة الفعل، وليس ردات الفعل، وبشراكة وطنية مطلوب ايضا خارطة طريق داخلية تعطي جيل الشباب حقهم من مقومات المشاركة، وتوفر لهم امل البقاء، والصمود بدلا من طرق ابواب الهجرة او تركهم فريسة للضياع في وطنهم.
الشعوب المقهورة يراهن عليها حتى في ذروة الازمات، والهزات الداخلية تلتقط الفرصة لاعادة تصليب بناها الداخلية تزيد من تلاحمها تجذر من وحدتها بحيث تكون هي الضمان في تصليب حصانتها الوطنية التي هي حجر الاساس لمواجهة سياسات الاعداء المتربصين بها، ويريدون لها السقوط، ولا يبيع مواقف انه بدون تصليب عرى المناعة الوطنية الداخلية المتطابقة بالضرورة مع الارادة السياسية الحية التي يجب ان لا تبقى في صف الانتظار او تراقب عن بعد يمكن حل هذه الازمة بل ربما ستكون مستفحلة اكثر واكثر علينا العمل على طريق الممكن، وليس "الرغبويات" لانتزاع زمام المبادرة، وهو طرف الخيط لاستعادة العمل سواء في المقاومة الشعبية، وتوسيعها او بالبرنامج السياسي او المعالجات للقضايا الداخلية تلك المقاربة يبنى عليها بعد توحيد الخطاب السياسي بكل ما فيه من تفاصيل، ومن منطلق الايمان بقوة، ومنعة، وعنفوان الشعب الفلسطيني صاحب الباع الطويل المجرب طوال عقود، والمراهن عليه دوما في المحكات، والليالي الحالكات بانه وفي، وشجاع، ومعطاء ولكن عندما يرى الشعب التغيير الجدي سيكون في المقدمة مثلما كان دوما للدفاع عن الحقوق، وحمايتها بكل الثمن المطلوب دفعه، وهو لم يبخل به يوما.
هي ليست ينبغيات او امنيات جالت بها ساحة الفكر، والعقل على ابواب العام الجديد بعد عام زاخر بالوجع، والالم عام ثقيل بكل ما فيه يذهب تاركا الموت، والمرض، والقهر تاركا العالم مع الوباء اللعين مخلفا لنا في فلسطين معاناة من نوع اخر هي الاحتلال، وبالنسبة لنا المأسي لها مذاق اخر خاص مليء بالمرارة، والظلم، والاسئلة الكبيرة التي لا تنتهي وهذه القضايا لا تندرج في اطار العصف الفكري، وانما هي مرتكزات للعمل لتحويلها لبرامج، وانشطة لشعب لا يحيد عن تلك الاهداف التي صانها بحدقات العيون، ولن يكون القادم افضل الا اذا قررنا نحن التغيير من اجل الاجيال، ومن اجل حماية النسيج الوطني، والسلم الاهلي كي تنعم الاجيال بالمستقبل الذي تريد مناعتنا الوطنية، والداخلية اليوم هي كلمة السر، والمفتاح الاساس رغم كل ما يجري بالامكان استعادة الروح والنبض، واعادة دورة الحياة رغم السواد الذي يكسو المكان.