قبل أن تدبَّ الآلةُ الصهيونيةُ على الأرض الفلسطينية، وقبل أن تتحرَّكَ الجيوشُ العربيةُ بقضِّها وقضيضِها لالتهامِ تلك الدابَّةِ التي التهمت الأخضر واليابس، كانت الفلاحاتُ الفلسطينياتُ يغنّين للمواسم، وكان الفلاحون بسراويلهم الواسعة، يوسِّعون على كلِّ شيءٍ، ويتوسَّعون في أحلامهم، ويكتبون الأرضَ شعرًا كلاسيكيًّا دون أن يسيلوا ماء أقلامهم، فالكتابةُ عادةٌ سيئةٌ، والمشافهة ملائمة لتوثيق التاريخ تواترًا، فالشيخُ فلانٌ قال، والحاج فلانٌ لم يقُل، وضاعت الأرضُ قبل أن تكتبَ النائحةُ سيرتها، وهي تنوحُ وتجوحُ على المروجِ التي هَرَسَتها حوافرُ الدبابات الصهيونية، بعد أن قاءتْ مدافعها الثقيلة والخفيفةُ كلَّ ما في أحشائها، وبالت على النائحات والنائحين من الشرق إلى الغرب، وفرضت أغانيها الجديدة على الجمهور، وراحت تستحدث ألحانًا جديدةً، بدأ العربُ يطربون لها شيئًا فشيئًا.
لقد كانت حملات التطهير العرقي التي مارستها الصهيونية الاحتلاليةُ تفوقُ التصوّر والخيال، بل إنها بفنتازيتها تخرجُ عن كلِّ مألوف، ولا يستوعبها الحلم، ولا حتى أوسع سروالٍ تُرِكَ في فيافي البلاد الضائعة، فقد كانت الدماء تسيلُ بسخاء، والجثثُ المتفحمة تزكم الأنوف، والرسائلُ من راديو العربِ تبثُّ خطابات الانتصار، وتتحدثُ عن جيوبٍ هنا وهناك، سيتمُّ التعامل معها على كلِّ حال، وإذا بالجيوب تكبر، وما من جيبٍ إلا جيبُ الصهاينةِ فوقه، ولَم تمضِ سُويعاتٌ إلا والسمك المُتَجوِّع يشبعُ ويرقصُ فرحًا على مراكبِ الراحلين قسرًا وذلًّا، وهم يَسّاقطون رفوفًا في عُرْضِ البحر، ويستحيلون أعلافًا لأسماكٍ تجوَّعت امتثالًا لأوامر مَن طلبَ منها ذلك.
وقد ظلَّ صوتُ النائحةِ يتهاوى إلى أن صعد الفلسطينيُّ إلى الهاوية، وأصبحت الخيمةُ حَيفاهُ الجديدة، وصارَتْ عكّاهُ عكّازة الذاكرة العرجاء، وغدا البحرُ أغنية النائحات تحتَ سقوف الزينكو، وصارَ الولدُ الفلسطينيُّ أغنيةً وحكايةً وقصةً تُروى آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار.
لكلِّ جائحة نائحة، ولنا جوائحُ كثيرة، ونوائحُ مثيرة، إلا أنَّ جائحة النكبة لها ألف نائحة، ومنذ تلك الولادة العسيرة، ونائحةُ البحر تغني حزنًا، دون أن تبحث عن سروالِ ذلك الهارب بسلاحه المكشوف، تاركًا الثغور والجيوب، ليعيش ميِّتًا على قيد الحياة.
وها نحنُ اليوم، وبعد أكثر من نصف قرنٍ على الجريمة، وبعد أن طافت النائحاتُ كلَّ أزقةِ المخيمات، وبعد أن شاخَ الحلم العربيُّ وهرم، يعودُ الأبناءُ البررةُ إلى الأرضِ بحثًا عن سراويلهم الواسعة بسراويل أكثر اتساعًا، وبأسلحةٍ أكثر استعدادًا هذه المرة، إنّهم يعودون ضيوفًا على الأرض التي هُجِّرَ منها إخوة الزيتون، ومعهم نائحاتٌ بِأزياء عصريةٍ تتماشى وثقافة الانبطاح، ليجوحوا وينوحوا، ويهلِّلوا في صلواتٍ مشتركة لله الذي لا شريك له، فالشركُ كبيرةٌ من الكبائر، والكبيرُ لا يُحبُّ الصغائر، فليكن الذنبُ لائقًا بحجم الخازوق، مساويًا له في الوزن، معاكسًا له في الاتجاه، وليكن اللقاءُ ساخنًا، فالبرودةُ لم تكن يومًا من طباعِ أبناءِ الأرومةِ النقية.
إنَّ أبشعَ ما يمكن أن يُجابهَ به المرءُ في حياته هو الغدر، وأن ينكشف ظهره الذي اعتقد أنَّ أخاهُ يستره، وإذا بأخيه يقدُّ قميصه من دُبر، ويبكي بعد ذلك عند أبيه، حتى تبيَضَّ عيناه من الحزن. وليخرج من شاء عن الصف والإجماع، فالخروجُ منذ زمن الخوارج سُنَّةٌ مألوفة، والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، طالما أنَّ (إسرائيل) باتت على رأيِ أحد أبناء الصحراء العربية" دولة استثمار لا دولة استعمار" وأنَّه ليس للمهجَّرين سوى أن يكتبوا عن فردوسهم المفقود، وعنبِهم المعقود، وأن يحلموا كيفما ما يحلو لهم، وأن يعاقروا آمالهم، وأن يُؤجِّلوا آجالَهم، وأن تظلَّ الهجرةُ ضربًا من الدروس التي يقدمها رسامو الكاريكاتير وصنّاع الأدب الثوري، أما في الواقع، فلا يحقُّ لمهاجرٍ تَرَكَ أرض السمن والعسل، والثوم والبصل، أن يطالبَ بالعودة إلى مكانٍ لم يعد له. هكذا بدأت النائحاتُ بالغناء، وأصبحت مياتمنا بيوت فرَحٍ وسمَرٍ تغرِّدُ فيها أطيارٌ بألحانٍ نشاز، لتكتبَ بالحبرِ السريِّ عَلَنًا: لم يعد البكاء مجديًا، وليس لكم إلا أنْ تُصلُّوا صلواتٍ مشتركة، فالدينُ لله، والأرضُ للجميع، ولتشربوا دموعكم إن جفَّ ماءَ الحياء.