الحدث المحلي
عقد كل من مكتب التواصل للمجلس العربي- فلسطين، ومعهد دراسات المرأة يوم الاثنين بتاريخ 14/12/2020، لقاءً موسعاً يناقش الدراسات النسوية تحت الشرط الاستعماري، وقد ضم اللقاء مجموعة متنوعة من الباحثين/ات، والمهتمين/ات في هذا الشأن، شكلت فيها منصة زووم حيزاً تدارسياً جاداً لسؤال المنهج والكيفية لإنتاج المعرفة التي تدرس حياة النساء الفلسطينيات وكيفية الاشتباك مع السياق الأوسع من القمع الاستعماري والرأسمالي، انطلاقاً من تفكيك علاقات القوى والقمع والاستغلال غير القابلة للتجزأة، وتأكيداً على بديهية بأن الحديث عن الداخلي لا يتم بمعزل عن السياقات الأعم.
هدف اللقاء إلى مناقشة الدراسات النسوية والاستعمار، كحقل معرفي يتعامل مع النساء بوصفهنّ فئة للتحليل، في ظل حالة الفرادة التي تخضع لها فلسطين باعتبارها تحيا في ظل استعمارين، ذلك المباشر، وذلك المتمثل في استمرار السيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية التي يفرضها نظام رأسمالي عالمي يقوم على استثمار علاقات الهيمنة التي ينتجها، إلى جانب وجود حكم ذاتي فلسطيني في بعض أجزاء فلسطين، بحيث بقيت تخضع لشكل جديد من التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية التي تطلق عليها بعض النظريات الاستعمار الجديد، وبعضها الآخر يسمي هذه الحالة ما بعد الاستعمار، فتناول اللقاء تمثلات النساء الفلسطينيات في سياق الاستعمار الصهيوني، كمحدد لأوضاع النساء -كنساء مستعمَرات، ولأوضاع المجتمع المستعمَر ككل، بمناقشة أطراف المثلّث الثّلاثة: المرأة الفلسطينيّة، والقانون، والحكم الذاتي في ظل السّياق الاستيطانيّ الاستعماريّ، لتفكيك خطاب الدراسات التي تناولت أوضاع النّساء في هذا المثلّث، وتأثير هذه العلاقة عليهنّ من خلال التّركيز على الخطاب المتعلق بالبعد الجندريّ لنوعية هذه العلاقة، والتمييز الواقع على النّساء من قبل المؤسّسات المهيمنة من جهة، ومن قبل المجتمع الذكوريّ الفلسطينيّ، في ظل محدد استعماري.
أدار اللقاء فراس جابر مقدماً عرضاً لبرامج وأبحاث وأنشطة المجلس العربي ومكتب التواصل، ذات العلاقة بدراسة وتحليل الاستعمار في فلسطين، ومساهماته في خلق مساحة مشتركة تجمع بين الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية في الجامعات والمراكز البحثية، بالتركيز على الباحثين الشباب تحديداً، والفرص البحثية المتاحة لهم.
وتم في اللقاء التعريف بمعهد دراسات المرأة على صعيد رؤيته وأهدافه، وبرامجه وأنشطته، وإسهاماته في تطوير حقل دراسات المرأة والنوع الاجتماعي بما يتلاءم مع الحاجات المعرفية في سياق البنى الاجتماعية والاقتصادية والاستعمارية المميزة للحالة الفلسطينية، قدمتها د. لينا ميعاري- الأستاذة المساعدة في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية وفي معهد دراسات المرأة، وقد سلطت الضوء من خلال مداخلتها التعريفية بما وصفته "بمأزق" الدراسات النسوية في الشرط الاستعماري، كأحد القضايا التي تعتبر محط اهتمام من قبل معهد دراسات المرأة وعضواته، وتمارس أثرها وانعكاسها تباعاً على أدوات التدريس والبحث والنقاش، باعتبارها قضية إشكالية لا تعتبر حصراً على الدراسات والممارسات النسوية بل تنطبق على المهتمين/ات بكثير من القضايا المعرفية، وهذا المأزق يأخذ تشابكاته من خلال طرح السؤال المتعلق بـ: كيف بالإمكان الحديث عن قضايا قطاعية معينة بخصوصيتها، وفي ذات الوقت ربطها بالسياق الأوسع، دون تهميش أو تغيب أحداهما على الأخر، وإدراك العلاقة المتداخلة في ذات الآن؟
فأشارت ميعاري إلى أن :"مأزق الدراسات النسوية في الشرط الفلسطيني الاستعماري، والمنطقة العربية بصورة مماثلة، يتكثف في القضية النسوية، كون السلطات والأنظمة الاستعمارية لديها هوس بالمرأة المستعمرَّة، وقضايا المرأة تحولت بصورة انعكاسية لهوس في الخطابات الوطنية الذكورية، وفي الخطاب الديني أيضاً"، وبذلك تلخص ميعاري واحدة من الإشكاليات المركزية المتعلقة بالموقع المتاح للارتكاز عليه، والانطلاق منه لنقاش قضايا المرأة في العالم العربي، وفي خصوصية السياق الفلسطيني، في ظل خطابات ومؤسسات وممارسات مادية مهيمنة تحدد أطر التوجه لقضايا المرأة العربية، والمرأة الفلسطينية، ليصبح من الصعب الخوض في قضايا المرأة دون التورط في حقل هذه الخطابات المختلفة: أي الاستعماري، والوطني، الذكوري، والديني، والذي يفرض على النسويات الفلسطينيات أسئلة لم تختارها، ومجالات اهتمام ليست بالضرورة نابعة من السياق المادي الاستعماري والاقتصادي الذي تعيشه النساء الفلسطينيات بخلفياتهنّ المختلفة، والذي يعتبر تكثيفاً لعلاقات القوة المتشابكة والناتجة عن السياق الاستعماري والطبقي في واقع رأسمالي ذكوري. فالتحدي المركزي يتمثل في بناء مشروع تحرري شامل يضمن العدالة لكافة فئات المجتمع وتحديداً الفئات الأكثر تهميشاً وقمعاً واستغلالاً، في ظل هيمنة وخطاب وممارسة ليبرالية ترتكز على الفرد، وخطاب يقوم على احتواء كافة المفاهيم الجذرية للتحرر، بنموذج يفصل بين قضايا التحرر الوطني والتحرر الطبقي، والتحرر النسوي، لتغدو قضايا العدالة الاجتماعية كقضايا معزولة ومتفرقة، مؤدياً بالمحصلة إلى اختزال وقوقعة الخطاب النسوي في خطاب يقوم الحقوق الفردية والتمكين الفرداني، وفي قضايا محددة وكأنها هي قضايا واهتمام الفئات المختلفة من النساء.
وتطرح ميعاري أنه "وفي ظل هذا الواقع تصبح الحاجة لاشتقاق رؤية نسوية أصلانية نابعة من السياق المادي الذي يشكل حيوات النساء الفلسطينيات على اختلافاتهنّ، ضرورة لا يمكن إنجازها بدون التحرر من الخطابات المهيمنة، وعليه فإن تفكيك الخطابات والممارسات السائدة المهيمنة، بحيث يتم وفقها رسم أطر التحليل.
وفي نقاش متمم تناولت د. أميرة سلمي –الأستاذة المساعدة في معهد دراسات المرأة مداخلة حول تمثلات النساء الفلسطينيات في الخطاب الاستعماري، مشيرة إلى أن "المرأة الفلسطينية تمت مصادرتها كموضوع، تم ترويجها في العالم من خلال صورة واحدة، وكسر هذه الصورة بحاجة إلى كسر العلاقة والبنية الاستعمارية التي قام عليها، وتقوم عليها ابتداءً عملية انتاج المعرفة، مما يتطلب دخول المعرفة في حالة من المقاومة والثورة لتكسير البنى الخطابية المهيمنة، التي مشكَلت تمثلات المرأة الفلسطينية في الكتابات الغربية للأكاديميين والباحثين، بمنظور أيديولوجي مهيمن، نابع من الشعور بالتفوق".
كما أشارت سلمي أن هذا الشرك ليس حصراً على الباحثين الغربين، إنما أيضا يَطال المثقفين والباحثين المحليين، في سياق فهم علاقة الاقتصاد السياسي للتمويل، ومراكمة رأس المال، والتي تدفع الأخير إلى انتاج معرفة معينة، مقبولة تتم وفق نسق إعادة انتاج ما كتبة المستعمِرين في سياق سبقهم العلمي والأكاديمي، وفي امتداد لعلاقات الهيمنة الاستعمارية الجديدة والقديمة، فتشير سلمي "أي توجه يعطي قيمة للفكر الليبرالي الغربي وللفكر الاستعماري، ويساهم في ترويجه هو مقبول، فيمكن الحديث عن نساء قويات، نساء قويات ولكن كأفراد، ولسنّ كنساء متضامنات وطنيات ثوريات بالمعنى المعادي للرأسمالية أو المعادي للاستعمار سواء الصهيوني أو الغربي". كما أن المؤسسات العاملة في الشأن النسوي، توضع في ذات الموقع عند التعامل مع المشاريع البحثية الممولة، فيُطلب من المؤسسات المحلية الترويج لقضايا النساء، ضمن القوالب المحكي عنها، وأي خطاب يحيد عما هو محكي يصور على أنه متحيز سياساً، غير مستند على مقولات أكاديمية ونظرية سابقة. وعليه يتم قولبة القضايا في حدود المنظور المتعلق بـ: قانون الأمن، أو سيداو، أو العنف ضد الأسرة، وضمن التوجهات الغربية المرغوب فيها فكرياً.
كما ناقشت سلمي الخطاب الوطني، وخطاب التحرُّرِين في قضية انتاج المعرفة المستعمَرة، بالفهم القائم على أن الخطاب الوطني، والقومي هو انعكاس، مشتق، وامتداد لما هو استعماري، ففضلاً عن القمع الاستعماري تتعرض المرأة لقمع الوطني في الوقت الذي يتم فيه رفض شرعية مطالبها، ونضالاتها، وحصر دورها في مواقع محددة، مما يجعل من المشروع الوطني ذاته حكماً مشروع اقصائي باعتباره يستند على ذات المقولات للفكر الرأسمالي الاستعماري الذي يحاول أن يحل موقعه، ولن يتم تجاوز هذه السمة الاقصائية، إلا باعتناق حالة النضال الثوري التحرري، القائم على التضامن، والمتجاوز لأي شكل من أشكال الهرميات، فتشير سلمي "يكمن المأزق الحالي بأن وضعية المرأة تحولت لمكانة محل للمفاوضة، ورقة يتم التلاعب فيها لتمرير مشاريع التبعية، فالمسألة لا تتعلق فقط بالإنتاج المعرفي، فكيف من الممكن أن تتحدث المرأة المستعمرة عن نفسها، هو موضوع لا زال بمثابة علامة سؤال كبيرة". وبالتالي فإن المعرفة التي يجب أن تنتج في حقل الدراسات النسوية فلسطينياً، يجب أن تكون معرفة مشتبكة، ومواجِهة، أي المعرفة التي تتصارع مع المنظور الاستعماري وليست معرفة تمثيلية عن النساء الفلسطينيات وواقعهنّ، بمعزل عن الواقع الاستعماريّ.
واختتم اللقاء بمجموعة من التساؤلات من قبل الباحثين والمهتمين حول أهمية اللغة في تشكيل الخطاب، ومسائل تتعلق بتغييب الذكورية عند استحضار الوطنية، وإشكاليات وهم الدولة وتبنى الخطابات الدولية، ومساءلة دور الأكاديميين في هذا السياق، وقضايا لا زالت تمثل مأزق فكري للباحثين/ات في هذا المجال حول التفكير في إشكاليات تتعلق بكل مفهوم النسوية. واختتم النقاش بأن انتاج المعرفة النسوية لا زال بحاجة لنقاش جدي، حول علامات البدء والارتكاز، والفصل، ولكن هذا النقاش يبدأ من السياق الفلسطيني، ويبدأ من النساء الفلسطينيات، والاشتباك البحثي مع رؤاهنّ واحتياجاتهنّ وقضاياهنّ. لم يتضمن اللقاء أجوبة قطعية يمكن تقديمها، ولكنه شكل محاولة جادة لتفكيك الخطاب المهيمن، وللكيفية التي يتم فيها تناول قضايا النساء، فالتدارس الجدي الرصين هو بمثابة البادئة أو البداية لشق مشروع جمعي بديل.