لا شك أن نشر كتاب أرض الميعاد قد استقطب اهتمام الملايين حول العالم من السياسيين والباحثين والقراء العاديين. كتاب كبير، غزير بالمعلومات المتعلقة بأوباما وتحركاته في جهات الريح الأربع، والملفات الداخلية والخارجية الشائكة التي تعامل معها. الكتاب بحاجة لوقت كاف لقراءته وهضم ما جاء فيه لتكوين صورة كلية عن هذا الرجل وفترة حكمه، إلا أنه من المفيد لنا كفلسطينيين التطرق للجزء الخاص بنا في الكتاب، لما ورد به من معلومات مهمة حول فترة قصيرة من حكمه قبل بدء ما سُميَ بالربيع العربي الذي تقدم؛ إلى جانب تحديات أخرى، كثيراً على المسألة الفلسطينية في أجندة عمل أوباما.
بشكل عام الكتاب يوَّرّخ لفترة مهمة في العمل السياسي والدبلوماسي الدولي، على كل المهتمين والعاملين في هذا الحقل قراءته، وقراءة ما كُتب حوله أيضاً، ففي ذلك دروس وعِبر للسياسيين العرب، لأنه يُرينا بوضوح وبطريقة مباشرة كيف يُفكر السياسي الأمريكي ونظرته إلى الشرق الأوسط، والمبادئ والمصالح التي تحكم علاقاته بحلفائه، وأثر جماعات الضغط داخل الولايات المتحدة في توجيه سياستها الخارجية، وكيف تعمل هذه الجماعات. في الكتاب أيضا الكثير من المعلومات والأحداث التي يسردها خطيب مفوه ومتمكن كأوباما، يستغل كل ذكائِه لإيصال أفكاره ومعتقداته، وبين السطور هناك الكثير مما يمكن الجدل حوله، جدل ومساجلات بالتأكيد ستصبغها وجهات نظر الكُتاب والمحللين.
تطرق أوباما للقضية الفلسطينية في عدة مواقع من الكتاب، ولكنه أفرد الجزء الأول من الفصل 25 للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكتب فيه انطباعاته ومذكراته ومحاولاته لإحراز تقدم في هذا الصدد، وفي هذا الاستعراض، أحاول أن أضع تحليلي لما خطه فيما يتعلق بنا، وأود التنويه إلى أن قراءتي هذه تظل غير كافية نظراً لأنها اختصت بجزء من الكتاب فيما الأصل أن تتم ضمن تقييم وتحليل شامل له حتى نتمكن من الخروج باستخلاصات سياسية شاملة وأكثر دقة، كذلك تظل هذه القراءة قاصرة لأنها تحلل معاني الكلمات ولا تستعرض بشمولية كافية، وضمن معرفة واسعة بأفكار الكاتب فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، وذلك لأن الغالبية العظمى من الأربعين مليون الذين يتوقع أن يقتنوا الكتاب سيكونون انطباعاتهم وتقييمهم بناء على الكلمات التي كتبها.
أوباما الدقيق المُنظم، خريج هارفارد، أعرق الجامعات الأمريكية، لا بد وأن يكون دقق وراجع بشكل ممتاز كل كلمة خطها في هذا الكتاب، سيما أنه يعلم أن كلماته سيتم توزينها وتفسيرها من قبل أصحاب المصالح والصحافة والمهتمين، "كان الخط الفاصل بين حياتي الخاصة والعامة يتلاشى، كل فكرة أو إيماءة هي جزء من الاهتمام العالمي، فقلت لنفسي يجب أن تعتاد على ذلك" وعليه فهو يتحمل بالتأكيد عبء تفسير وتحليل ما كَتَبَ.
مذكرات أوباما هي إضافة جديدة ومهمة لمكتبة السياسيين والدارسين والمحللين لمعرفة طرق وآليات عمل؛ ودوافع السياسة الأمريكية الخارجية والتي نحن؛ الفلسطينيين، أحوج ما نكون لمعرفتها وسبر أغوارها بطرق علمية قائمة على القراءة والتحليل، في ظل صراع غير متكافئ بالمطلق بيننا وبين دولة الاحتلال، إسرائيل. ترجمة ونقد هذه المذكرات واجب أصيل علينا دفاعاً عن روايتنا وشرعيتنا التي ما انفكت دولة المحتلين التشكيك فيها تاريخاً، وأشخاصا.
(1)
يتحدث أوباما عن يومين قضاهما ما بين إسرائيل وأراضي الضفة الغربية، بالإضافة إلى الاجتماعات الرسمية التي التقى خلالها مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، وزار فيهما بلدة سديروت المحاذية لقطاع غزة ويقول "في سديروت استمعت للأهالي الذي وصفوا رعب القذائف الصاروخية التي تطلق من غزة وتسقط على بعد أمتار قليلة من غرف أطفالهم، وفي رام الله سمعت الفلسطينيين يتحدثون عن الإهانات اليومية التي يتعرضون لها على نقاط التفتيش الأمنية الإسرائيلية". في هذا الوصف محاباة واضحة للجانب الإسرائيلي، وتقديم صورة مشوهة غير متكافئة، فقد لخص الاحتلال بكل تبعاته بمجرد إهانات يتعرض لها الفلسطينيون على الحواجز الإسرائيلية، الأمر الذي لا يمكن مقارنته بحجم الرعب الذي يعيشة الأهالي عندما يتعرض أطفالهم للقصف الصاروخي. الفرق في المعاناة كبير جداً ويبرر للمتابعين والمهتمين بهذا الشأن ما تقوم به الآلة العسكرية الإسرائيلية في غزة.
في حديثه عن زيارته لحائط البراق في القدس المحتلة ينحاز تماماً للرواية التوراتية فيقول: "عندما وصلت إلى حائط المبكى في القدس الذي بُني قبل ألفي عام لحماية جبل الهيكل المقدس، ويعتبر بوابة إلى الألوهية، ومكانا يقبل فيه الله صلوات الجميع"، إنه يتطابق مع الادعاءات الإسرائيلية في حائط البراق. في نفس السياق، فقد سُرقت الورقة التي كَتبها ودسها في شق في حائط البراق، ونُشرت في اليوم التالي في الصحف الإسرائيلية، ويقول "من الواضح أن أحد المارة سحب الورقة من الشق العميق عقب مغادرتنا"، فيما هو يعرف ويُقر أن "كل فكرة أو إيماءة هي جزء من الاهتمام العالمي"، وأنه مراقب وكل حرف أو همسة ينطق بها محسوبة عليه، ومع معرفته بذلك، وربما يقينه ويقين فريقة الأمني المرافق له أيضا، فإنه لا يجرؤ على القول إن الورقة سُحبت بشكل متعمد ومقصود ومُخطط له من قبل دولة مهووسة بالأمن.
في سرده لتاريخ القضية الفلسطينية، قدم الكثير من المغالطات التاريخية التي يجب التوقف عندها، "إن الصراع بين العرب واليهود كان قرحاً مفتوحاً في المنطقة منذ قرن، ويعود تاريخه إلى عام 1917"، أوباما يقدم الصراع على أنه بين العرب واليهود أي بين عرقين، ويغالط بتاريخ نشوء هذا الصراع، والحقيقة أن اليهود كانوا حتى تاريخ إنشاء إسرائيل جزءا أصيلا من مكونات المجتمع العربي على امتداد الوطن العربي، وأما الصراع فقد بدأ مع نشوء الحركة الصهيونية ومؤتمر بازل تحديداً 1897، المؤتمر الذي أقر إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وعليه فإن وعد بلفور جاء (مدماك) آخر في الجهد الصهيوني لتحقيق مقررات بازل. "حينما كان البريطانيون يحتلون فلسطين، والتزموا بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي، في منطقة ذات أغلبية ساحقة من العرب"، هنا أنا لا أناقش وجود البريطانيين في كونه احتلال أو انتداب فهذا مبحث آخر تماماً، لكن أوباما ينسخ نفس الفكرة التي بررَ بها مناحيم بيجن والعصابات المسلحة الصهيونية قتالهم وإرهابهم ضد الانتداب البريطاني قبل العام 48، حين اعتبروه صراحة احتلالا. لم يقل في منطقة وأرض عربية كما هي بالفعل، وفي هذا نفي لملكية الفلسطينيين لأرضهم، ليدعم فكرة لاحقة في كتابه تقول إن فلسطين هي أرض اليهود، ويرى أن القادة الصهاينة "نظموا قوات مسلحة عالية التدريب للدفاع عن المستوطنات"، علماً أن الحقيقة الراسخة والثابتة التي أبرزها المؤرخون الإسرائيليون الجدد أنفسهم، هي أن هذه القوات كانت تستعد ولديها الخطط الجاهزة لليوم التالي لانتهاء الانتداب البريطاني، كي تحتل البلدات والقرى العربية، وهذا ما كان بالفعل، إلى هذا فإنه يقول إن العرب رفضوا خطة التقسيم فيما قبلها الصهاينة "القادة الصهاينة احتضنوا الخطة، ولكن الفلسطينيين العرب، والعالم العربي المحيط الذي خرج للتو من تحت الاستعمار رفضوها بشدة " وهذا صحيح، ولكنه لم يضعه في سياقه الطبيعي ويُعلل سبب الرفض المنطقي والمعقول والصحيح في حينه من قبل الفلسطينيين والعرب لقرار التقسيم.
"بالنسبة للشعب اليهودي فإن هذا حلم قد تحقق، دولة لهم على أرضهم التاريخية بعد قرون من المنفى والاضطهاد الديني وأهوال الهولوكوست الأخيرة". أوباما يرى أن قيام دولة إسرائيل حلم تحقق للشعب اليهودي على أرضهم التاريخية، نفس الرواية الصهيونية ينسخها وينقلها في مذكراته، لا نقول يتبناها ولكنه على الأقل يقبلها كما هي، ويتبعها مباشرة باستعطاف القارئ من خلال تذكيره بالاضطهاد الديني لليهود والهولوكوست، وكلها حقائق لا جدال فيها، ثابتة تاريخياً، ارتَكَبَها بعض الأوروبيين ولا علاقة للعرب بها، عبارة شديدة التعاطف مع دولة الاحتلال في ظل حدث كارثي، أي النكبة.
أوباما يرى أن هزيمة 1967 هي سبب الدعم العربي للفلسطينيين "ذكرى هذه الخسائر والذُل الذي صاحبها أصبح وجهاً مُحدداً للقومية العربية، وأصبح دعم القضية الفلسطينية ركيزة أساسية في السياسة العربية الخارجية". فبالإضافة إلى أنه لا يعود لجذور الصراع، ألا وهو قيام دولة إسرائيل نفسها؛ فإنه ومتعمداً يرتكب مغالطة تاريخية، فالدعم العربي والإسلامي للفلسطينيين سابق وواضح في السياسة العربية الخارجية قبل هزيمة 67، وحتى قبل قيام دولة إسرائيل.
مغالطة تاريخية أُخرى تمثلت بادعائه أن قيام منظمة التحرير الفلسطينية هو نتاج هزيمة 67، "حين وجد الفلسطينيون أنفسهم يُحكمون من قبل الجيش الإسرائيلي الذي يقيد حركتهم واقتصادهم بشدة، الأمر الذي أثار الدعوات للمقاومة المسلحة وأنتج قيام منظمة التحرير الفلسطينية". كيف يمكن لرجل كهذا ألا يدقق بتاريخ ولادة المنظمة في العام 1964، والتي جاءت نتيجة للنكبة والضياع الذي حل بالشعب الفلسطيني، وليس كما ادعى نتيجة لتقييد الجيش الإسرائيلي حركة واقتصاد الفلسطينيين، وكيف له أن لا يُشير صراحة للاحتلال ويستبدله بكلمة يُحكمون؟
يرى أوباما أن "الحكومات العربية احتضنت ياسر عرفات كمقاتل من أجل الحرية على الرغم من تورطه واتباعه في هجمات إرهابية دموية ضد المدنيين العزل"، تعبير منحاز تماماً للرواية الصهيوينة، وبشكل غير مباشر يسخر من احتضان الحكومات العربية لياسر عرفات باعتباره (ضالع في هجمات إرهابية)، ناهيك عن أن المنظمة مُعترف بها من قبل الأمم المتحدة مُنذ العام 1974، أي أنَّ الاحتضان والدعم كوني وليس إقليمي عربي، وإلى جانب هذا فكأنه يريد أن يقول إن الشعوب العربية كانت بعيدة أو غير مهتمة، وأن من ساند ياسر عرفات هي الرسمية العربية، وهذا بالتأكيد يتنافي مع الواقع، فالجماهير العربية هي التي كان لها الثقل الأكبر في مساندة ياسر عرفات وم ت ف، والدليل سيل المتطوعين الذين انضموا لفصائل العمل المسلح الفلسطيني عقب إنشاء المنظمة وتحديداً عقب حرب الكرامة.
يتعاطف أوباما مع اليهود الأمريكيين الذين هاجروا إلى إسرائيل والذين عانوا التمييز في مجتمعهم الأمريكي لعقود، وهذا بحد ذاته إنساني ومقبول ومُرحب به بشدة، سيما أنه وكأمريكي إفريقي عانى أيضاً من هذا التمييز وإن كان بدرجات أقل من غيره من الأمريكان الأفارقة، نظراً لأنه ابن إمرأة بيضاء وينتمي لطبقة ميسورة مالياً، ويرى في الوقت عينه أنهم يتمتعون بتعاطف كبير من قبل العامة الأمريكيين ذلك لأنهم يتشاركون اللغة والعادات والمظهر مع إخوتهم المسيحيين البيض، حديث قد تكون فيه مسحة من عقدة نقص بسبب أصوله المسلمة، وحمله لاسم مسلم "باراك حسين أوباما" ولونه، عُقدة لم يستطع إخفاءها في أكثر من موقع في الكتاب.
أوباما يلقي باللوم كاملاً على كاهل الفلسطيني في انهيار محادثات إيهود باراك – عرفات عام 2000، "إيهود باراك بذل جهودا لإقامة سلام أوسع في الشرق الأوسط بما في ذلك تحديد الخطوط العريضة لحل الدولتين، مقترح إسرائيلي لم يسبق من قبل. عرفات طالب بمزيد من التنازلات وانهارت المحادثات" تَجَنّي لا يمكن قبوله، لأنه يَعتبر أن مطالبة الفلسطينيين بحقوقهم المشروعة في القدس؛ هو مطالبة بمزيد من التنازلات والتي كانت السبب في انهيار السلام الذي كان قاب قوسين أو أدنى كما يُفهم ضمنياً من كلامه.
أوباما لا يُفرق بين المسجد الأقصى وجبل الهيكل المزعوم، بل ولا يذهب لاستخدام الاسم الرسمي وهو المسجد الأقصى ويستبدله بجبل الهيكل، وفي تناقض صارخ يقول إنه، أي جبل الهيكل، مُقدس للمسلمين، وذلك عندما يتعرض لزيارة شارون للمسجد الأقصى "قاد زعيم حزب الليكود أرئيل شارون مجموعة من المشرعين الإسرائيليين في زيارة استفزازية مُتعمدة وبتغطية إعلامية واسعة إلى أحد أقدس الأماكن الإسلامية جبل الهيكل في القدس".
انحياز أوباما يتضح بشكل جلي في وصفه الانتفاضة الثانية "أربع سنوات من العنف بين الجانبين اتسمت بقنابل الغاز والأعيرة المطاطية الموجهة إلى المتظاهرين الذين يلقون حجارة، انتحاريون فلسطينيون فجروا أنفسهم خارج ملاهي ليلية، وفي حافلات تُقل كبار السن وتلاميذ المدارس، غارات انتقامية قاتلة للجيش الإسرائيلي واعتقال عشوائي لآلاف الفلسطينيين، حماس أطلقت صواريخ من غزة على البلدات الحدودية الإسرائيلية، وردت طائرات هيلوكوبتر أباتشي كانت قد زودتها الولايات المتحدة لإسرائيل بتسوية أحياء كاملة بالأرض". نعلم تماما أن التسلسل في سرد الأحداث له أهميته الكبيرة، وأن أي خلط لهذا التسلسل يُخل بالتأكيد بالتركيبة الصحيحة للرواية. بشكل مُتعمد، يُعيد أوباما ترتيب أحداث الانتفاضة الثانية، صحيح أنه يذكر حقائق ولكنه يوظفها غالباً بطرق متحيزة للاحتلال، وصحيح أيضاً أنه يستَهِلهُا بزيارة شارون للمسجد الأقصى والتي أسماها بنفسه استفزازية؛ وهي كذلك بالفعل، ولكنه مباشرة يُعيد ترتيب الأحداث بطريقة تخدم الرواية الإسرائيلية. بِوُضوح، يدعي أن العنف الأكبر والأخطر هو من جانب الفلسطينيين؛ فالأعيرة المطاطية وقنابل الغاز من قبل إسرائيل، قابلها الفلسطينيون بالانتحاريين الذين فجروا أنفسهم برواد الملاهي الليلية، وفي حافلات تُقل كبار السن وتلاميذ المدارس، أي الفئات العمرية الأكثر ضَعفاً وهذا توظيف مقصود جداً، كذلك يُرتبْ الأحداث بحيث يبين الغارات الإسرائيلية والاعتقالات كنتيجة لما يقوم به الفلسطينيون. بشكل متعمد يبرز اسم حماس كمطلقة للصواريخ من غزة، الأمر الذي استدعى رداً من طائرات الأباتشي التي يُذكر ناخبيه اليهود إلى جانب الإسرائيليين أنفسهم، بأن بلاده هي التي زودت إسرائيل بها.
يتبع...