لم يدر بخُلد أحد أن يصل الفجور والهرولة التطبيعية لدول النظام الرسمي العربي حد العشق والغرام والهيام… فنحن عرفنا تطبيعا عربيا نتج عن اتفاقيات سياسية وقعتها مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية "كامب ديفيد" 17/أيلول/1978 وإتفاقية أوسلو الإنتفالية أيلول/1994 ووادي عربة 26/تشرين أول/1994، ولكن تلك الاتفاقيات نشأ عنها تطبيع في الإطار السياسي الرسمي ولم يجر نقله إلى المستوى الشعبي الجماهيري، وكل من كان يخترق الموقف الشعبي والجماهيري والمؤسساتي الرافض للتطبيع، كانت تجري مساءلته ومحاكمته والحكم عليه بالطرد والمقاطعة ووقف التعامل معه من قبل المؤسسة التي ينتمي إليها حدث ذلك مع فنانين وممثلين وصحفيين وغيرهم..
ولكن من بعد توقيع اتفاقيات التطبيع بين دولة الإمارات العربية والبحرين مع دولة الإحتلال الإسرائيلي في واشنطن 15//أيلول/2020 ومع السودان في 23/10/2020 والمغرب في 10/12/2020، وجدنا مظاهر تطبيعية تكشف عن "عهر" وابتذال تطبيعي غير مسبوق، حيث لم تكتف الإمارات بالترويج لمنتوجات المستوطنات واستيرادها، بل عملت على إقامة معارض لها في دبي، في تحدٍ لقرار حركة المقاطعة الوطنية "BDS "، التي تنشط عالمياً على صعيد مقاطعة دولة الاحتلال ومنتوجات مستوطناتها وتدعو لسحب الاستثمارات منها على خلفية كونها دولة فصل عنصري وتطرف واحتلال وتطهير عرقي وكذلك مارست نفس الفعل مملكة البحرين، وليس هذا فقط، بل وجدنا المشاركة للعديد من المواطنين الإماراتيين والبحرينيين في طقوس إضاءة شموع ما يسمى بعيد الأنوار اليهودي "الحانوكاه" في منطقة حائط البراق التي تعتبر جزءا من المسجد الأقصى، وكذلك التسلل لزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه من خلال بوابة باب المغاربة الخاضعة للسيطرة المباشرة من قبل الاحتلال، تحت حراسة جيش وشرطة الاحتلال، وفي زي تنكري، مما أدى إلى حالة واسعة من الغضب بين صفوف المقدسيين على هذه الوفود التطبيعية التي تستخدم نفس أسلوب الجماعات التلمودية والتوراتية في اقتحام الأقصى… ولا ننسى هنا إقامة المدارس لتعليم اليهودية في أبو ظبي وكذلك المطاعم التي تقدم الطعام اليهودي… في حين وجدنا السودان سيعمل على منح إسرائيل قواعد عسكرية في موانئه والتي تمكنها من مراقبة الحركة التجارية وحتى العسكرية في البحر الأحمر وطرق تهريب السلاح التي تلجأ إليها ايران في تهريبها للسلاح إلى قطاع غزة وحتى اليمن، أما إعادة العلاقة التطبيعية بشكل علني مع المغرب، والتي قدم ملكها الأسبق الحسن الثاني خدمات جليلة لدولة الاحتلال، جعلتها عند وفاته تصدر طابعاً بريدياً باسمه، وتقيم له نصباً تذكارياً وتسمي حديقة وشارعا وممر مشاه في أماكن مختلفة من دولة الاحتلال على اسمه.
في حين بعد إعادة العلاقات التطبيعية في عهد الملك محمد السادس والذي يترأس ما يعرف بلجنة "القدس" سيتم إدراج تاريخ الجالية اليهودية وثقافتها في المنهاج الدراسي المغربي… والتطبيع العربي بشكله الفجوري والعشقي والغرامي، ليس فقط يستهدف شرعنة العلاقات والتبادل الدبلوماسي وفتح السفارات وعقد الاتفاقيات في المجالات التجارية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والزراعية والاستثمار والطيران المدني والابتكار والبورصة...الخ، بل الأمور تتعدى ذلك إلى إقامة تحالفات استراتيجية بأبعاد أمنية وعسكرية، تجعل من التعاون والمشاركة العسكرية بين تلك الأطراف واقعاً وحقيقة.
أما على الصعيد الفلسطيني، فما زالت المصالحة غير متوفرة شروط تحقيقها، وما زال الانقسام يتكرس ويتجه نحو الانفصال، رغم حالة التفاؤل التي وفرتها لقاءات الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في مطلع أيلول الماضي وما تبعها من حوارات ثنائية ما بين فتح وحماس في أسطنبول، ومن ثم حوارات فتح مع الفصائل الفلسطينية في دمشق الجبهتان الشعبية والديمقراطية والقيادة العامة والصاعقة ومن ثم حوارات فتح حماس في القاهرة، تلك الحوارات التي أصابتها انتكاسة كبيرة بسبب إعلان السلطة الفلسطينية عن قبول أخذ أموال المقاصة بعد توقف دام ستة شهور عن استلامها، والعودة إلى التنسيق الأمني.
ولعل العام المنصرم كان عام الهدايا التي قدمها ترامب لحليفه نتنياهو، والعام الأسوأ لشعبنا وقضيتنا الفلسطينية، حيث الإدارة الأمريكية اعتبرت الاستيطان في الضفة الغربية شرعيا ولا يتناقض مع قرارات الشرعية الدولية، وكذلك تم شرعنة منتوجات المستوطنات عبر زيارة وزير الخارجية الأمريكي عراب التطبيع العربي مايك بومبيو لمستوطنة "بساغوت" المقامة على أراضي جبل الطويل /البيرة، واعتبر مقاطعة منتوجات المستوطنات، شكلا من أشكال اللاسامية، وتوعد حركة المقاطعة الوطنية "BDS " بالعقاب، ونتنياهو استغل هذا التفويض الأمريكي، لكي يعلن شرعنة البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية حتى المعزولة منها، وليقيم دولة للمستوطنين في الضفة الغربية، بحيث يصبح عددهم حوالي مليون مستوطن.
ولعل الأخطر ما يجري في القدس، حيث الحرب الشمولية التي يشنها الاحتلال على المقدسيين من تهويد وأسرلة، فالمشاريع الاستيطانية في القدس تسير بلا توقف، وتزرع المستوطنات في قلب القرى والبلدات المقدسية، في بيت صفافا ومستوطنة "جفعات همتوس" 1257" وحدة استيطانية، صورباهر " 450" وحدة استيطانية، جبل المكبر "306 " وحدات استيطانية إضافية، شعفاط وبيت حنينا "108" وحدات استيطانية لتوسيع مستوطنة "رمات شلومو"، منطقة عطاروت والمطار "9000" وحدة استيطانية، ومستوطنة ستقام في المنطقة المسماة (ُE1) على حساب أراضي الطور وعناتا والعيساوية، وغيرها من المستوطنات التي ستقام على حساب أراضي قرية الولجة والشيخ جراح وسلوان. والحرب ليست وقفاً على الاستيطان، بل نشهد عمليات طرد وترحيل قسري، في إطار سياسة التطهير العرقي، حيث الاستيلاء على أحياء عربية كاملة، كما يحصل في حي بطن الهوى في سلوان، حيث خطر الطرد والتهجير يتهدد 80 عائلة مقدسية هناك، طردت منها حتى الآن 14 عائلة مقدسية، تحت حجج وذرائع ملكية الأرض المقامة عليها بيوتهم لليهود اليمنيين منذ عام 1881، نفس الحجج والذرائع تستخدم عبر خداع وتضليل وتزوير في قضية أراض الشيخ جراح، وخطر ترحيل وطرد 26 عائلة مقدسية، طردت منها حتى الآن سبع عائلات، والبقية مرفوع عليها قضايا في المحاكم، وجزء منها صدر بحقها أوامر إخلاء .
وليس هذا فقط فالقدس تتعرض لعملية تهويد غير مسبوقة عبر المشاريع التهويدية المستهدفة تغيير واقعها الجغرافي والديمغرافي، وقلب هذا الواقع لصالح المستوطنين، بحيث يبدو المشهد الكلي يهودياً، وبما يطمس هوية المدينة العربية – الإسلامية، ويُزور تاريخها ويقصي روايتها العربية – الإسلامية، ويطمس كل معالم حضارتها وتراثها وآثارها، حيث المشاريع التهويدية مثل مركز القدس شرق، مشروع وادي السيلكون، مشروع إزالة الورش الصناعية والتجارية في واد الجوز (200) ورشة تجارية وصناعية، مشروع الشارع الأمريكي ومشروع شارع الطوق، وما يجري من عبرنة للشوارع والمكان في المدينة، كما يحصل من تغيير اسم شارع السلطان سليمان وبوابة باب العامود الى اسمي مجندتين مستوطنتين قتلتا في عمليات نفذها مقاومين فلسطينيين عامي 2016 و2017 ، ليصبح اسميهما شارع "هداس ملكا" ومدخل "هدار فهداس".
وكذلك ما يجري من تهويد لقلعة باب الخليل وأسوار مدينة القدس.
ناهيك عن الحرب على الوجود الفلسطيني في المدينة وكل مكوناته وتعبيراته السياسة، الثقافية، الفكرية، الدينية، التربوية والتعليمية، حيث المرجعيات الفلسطينية المرتبطة بالسلطة، تمنع من العمل في المدينة، والمؤسسات المقدسية يجري العمل على إغلاقها ومنع أنشطتها وفعالياتها واعتقال القائمين عليها، وتمنع الأنشطة والفعاليات في المدينة، حتى لو كانت إغاثية، اجتماعية أو على شكل نشاط ترفيهي للأطفال.
الاحتلال يعمل على " تجريف" و"كي" و"تقزيم" و"تطويع" و"صهر" وعي شعبنا الفلسطيني في مدينة القدس عبر اختراق جدار نسيجيه الوطني والمجتمعي من خلال أسرلة المنهاج التعليمي، وإحلال المراكز والشرطة الجماهيرية بدل المؤسسات المقدسية من اندية وغيرها، وكذلك إحلال لجان الإصلاح المرتبطة ببلدية الاحتلال وشرطته الجماهيرية، بدل لجان الإصلاح الفلسطينية، والتدخل في أدق الشؤون الأسرية والعائلية وخلافاتها الداخلية، بما يمكنه من النفاذ إلى أدق أسرارها.
نعم هو حصاد عام مُر عربي وفلسطيني، وولوج لعام جديد تتعاظم فيه المخاطر، مما يتطلب منا أن تكون قياداتنا على قدر وحجم المخاطر والمسؤوليات، فبقاء الوضع على ما هو عليه من شرذمة وانقسام والركون إلى السياسة الانتظارية، ورهن حقوق شعبنا إلى ما يحدث وما يجري من تغيرات في الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية حتماً سيقودنا نحو كارثة حقيقية.