ونحن نذهب إلى ورَشِ العمل؛ لتصليح أعطال سياراتنا، أو صيانة جهازٍ كهربائي ما، قد لا تستوقِفُنا كثيرًا صورُ تلك الأيدي العاملة الطرية التي يتناوشها الفقرُ والذل والمهانة.
أطفالٌ يصنعون مستقبلهم الملبَّد بالغيوم والضباب، يسابقون أعمارهم، ويضعون طفولتهم على رِفافِ الحياة، يُعاقرون شَظَفَ العيش، ويتحسَّسون أحلامهم على إيقاعاتِ الشتائم والإهانات التي يُغَنِّيها أربابُ العمل، فأيُّ طفولةٍ تلك التي تنمو تحت محركات السيارات؟! وأيّ نموٍّ ذلك الذي سيمارسه الأطفال وهم يرفعون أثقالًا أثقلَ من أعمارهم وأجسادهم الغضّة؟
هذه المَشاهد تتكرر وتكثر، خاصةً في أوقات العُطَلِ المدرسية، ففي الإجازة الصيفية ترى أمواجًا طفولية تقتحم الشوارع ومحلات البيع على اختلافها، وورش العمل، والمصانع وكراجات السيارات، وتحت الإشارات الضوئية؛ هذا بنّاءٌ، وذاك ماسحُ غبار السيارات، وآخرُ بائع مناديل ورقية، وفِي وُرَشِ صيانة السيارات، تجدُ القصةَ مختلفةً تمامًا، فمهندسو الميكانيك الأطفال، تجدهم بلا شك في كلِّ ورشة، بملابس العمل الرسمية التي يجب أن تكون متشحة بِبُقع الزيت، وشحمة المحركات، وإطارات السيارات، وما أن توقف سيارتك على باب الورشة، حتى يسرع إليك طفلٌ بقلب رجل، ووجهِ مهندسٍ ميكانيكيٍّ خبير: "تْفضَّلْ يا حجّ، افتح غطا الماتور". وما عليك سوى تنفيذ الأوامر على مَضَض، فأنتَ ترغبُ بأنْ يفحصَ سيارتك ذلك المعلّم الكبير الذي بدا يتكرَّش خلفَ مقعدٍ متسخ، وإن سألته عن خللٍ ما في سيارتك، لن يغادر مكانه، ولن يحرك عضلاته، بل إنه سرعان ما يستعين بعمّاله الصغار الذين غالبًا ما يكون قد منحهم هُوياتٍ وألقابًا جديدة، وجرَّدهم من أسمائهم الحقيقية: "شوف بريكّات سيارة الحج يا بُرْغي" و"غيِّرْ زيت الماتور يا رَطّة". ومن هذه العبارات وما شابه، تُبنى شخصيات أولئك الأطفال الذين يبنون مداميك قواميسهم اللغوية بالقسوة، ويصقلون أرواحهم بالإهانات، ثم تنتهي العطلة، ويحملون معهم إلى مدارسهم- إن عادوا- ألفاظًا وسلوكياتٍ ليست عادية، وغالبًا ما لا يعودون إلى مدارسهم، فبعضُ الآباء يشجعون أبناءهم على ذلك، بحجةِ أنَّ التعليم هذه الأيام ( بِطَعْميش خبز) وعلى الأبناء أن يجدوا خُبْزَهُم في الحياة الصعبة، وأن يتعلموا صنعةً تُطعمهم خبزًا طريًّا.
أحد أرباب تلك الوُرَش الذي أصبحَ صديقي بالصدفة، وكثرة المرات التي ترددتُ فيها على ( كراجه) لتصليح السيارة، كان لطيفًا جدًا مع صَبيِّه الذي بدا أنَّهُ ( فَلتة) في تفكيك أحشاء السيارات، وإذا ما أخطأ في شيء، كان المعلم يعايره مازحًا أمام الزبائن: "مِخِوِل ابن هالعرص". وإذا بالعرص هو صاحب الورشة، فالولد على رأي والده ( العرص) مِخوِل؛ لأنه أحيانًا يُتَيِّس، ويقول والده الذي تخرجَ في المدرسة بعد أن أنهى الفصل الأول من الصف السادس الابتدائي راسبًا، وبالكاد يفكُّ الحرف: "أنا مش عارف لمين طالع هالطَّنجير؟!" وربما نسيَ الأبُ العبقري أنَّ من شابه أباه ما ظلم.
وكان رأيُ الوالد دائمًا مُصيبًا كلما نَعَتَ ابنَهُ بأنه مِخْوِل؛ (فالطَّنجرَة والغَلْظَنة، والدَّلْخَمة) التي ينسبها إلى ابنه على أنها صفات وراثية من أخواله، لم تكن فيهم بقدر ما كانت كلها ماثلة فيه. وعلى أيةِ حال، فإنَّ الأبَ راغبٌ بأن يتعلم ابنه ( الدَّلخوم) مهنةً يَحملُ من خلالها اسم أبيه، ويحافظ على سيرته، "ومش كل شي شهادات ومدارس، اليوم الصنعة أحسن بكثير من الشهادات، وأولاد الجامعة وبناتها مايعين وبقلوش بيضة" هكذا كان الأب يرددُ، أما ابنه آخر العنقود، فهو السُّكر المعقود، والأمل عليه معقود، وأمثاله من الصنايعية الصِّغار كُثُرٌ، وَيَا ما صنايعي صغير أصبح كبيرًا بفعل القسوة والشتائم والإهانات التي تُعدُّ من المساقات الأساسية الإجبارية لتعلُّمِ أية صنعة، بالإضافة طبعًا إلى اعتماد ربِّ العمل كُليًّا على صغيره في تجهيز وجبة الفطور، والشاي والقهوة، وشراء بعض متطلبات البيت، و"يالله يا ولد، اخطُف رجلَك عالحسبة وجيب كذا وكذا، وابعثهم لخالتك عالسريع"، وإذا عارض الطفل الاستعباد، يواجَهُ فورًا بالاستبعاد.
الإحصائيات الرسمية التي تتناول عمالة الأطفال لا تبشر بخير، فالأرقام بازدياد، والنِّسَبُ بارتفاع، والطفولةُ لا نصير لها، وعلى الأطفال أن يكبروا قبل أوانهم، تمامًا كما تنضج خضراوات هذه الأيام في غير موعدها بفعل الهرمونات، فَعَلى الأطفال أن يكبروا في أحضان الورشات لا في أحضان الأمهات، و"إذا بدّك ابنك يصير زلمة، فَخَلّيه كل يوم يْقوم من الفرشة إلى الورشة، هيك بِنْدَعَكْ وبصير". هكذا أصبحت الحكمة في أفواهِ بعضِنا!