قصة: عبير عليان
"في الستين أو تجاوز المائة أو في عمر نوح، بلغ تسعمائة عام، حمل عمره على كتفه أو على متن حمار و تمكن مما أراد. لا الدولة و لا عسكرها و لا الأسلاك الشائكة عند الحدود كسرت إرادته، أعود مثله". أغلق ساجي الكتاب و هو يتمتم: نعم بالطبع سنعود مثله، و سيعود كل فلسطيني إلى أرضه، سيُصلي المسلمون في المسجد الأقصى و النصارى في كنيسة القيامة و ...
رنَّ هاتفه:
- السلام عليكم.
- الله الله الله ع رام الله عالبيرة و على أم الفحم و ...
- عمران، قلت لك مئة مرة يخوي لا تغني أرجوك، رفقاً بي.
- يا أخي أنا موهبة، لكنّك لم تكتشف بعد.
- اتركنا من مواهبك الآن، قل لي أين كنت بالأمس؟ اتصلت بكَ عدّة مرات.
- لقد كنت في سجون الاحتلال، زيارتي الأسبوعية كما تعلم لا يستطيعون التخلي عني.
- يا رجل لقد خفت عليك! اعتقدتُ أنّه أصابك مكروه، أمّا إن كان الأمر كما قلت فهذه بسيطة، لقد تعوّدنا على الوضع. المهم هل يؤلمكَ شيء؟
- لقد اعتدتُ الأمر، لم أعُد أراه مؤلماً أو مضايقاً لقد أصبح جزءاً من حياتي؛ فأنا ابن البلدة القديمة. صحيح ألا تأتِ لزيارتنا؟
- لقد قدمت طلب تصريح مرة جديدة و أخشى أن يكون الرّد هو الرفض كالعادة.
- لا عليك، حتى تُتاح لك الفرصة للقدوم إلينا، سآتي إليك. صحيح ما رأيك أن نُشاهد مباراة برشلونة القادمة معاً في رام الله؟
- لِمَ لا؟ نشاهدها في بيتي. أتعلم شيئاً أُحبّ "التيكي تاكا"و أستمتع بها، لكن أُحبّ "برشلونة" أيضاً لسبب آخر؛ فهي تواسيني قليلاً، أقصد عندما أرى معاناتهم تهون عليَّ مُصيبتنا فلسنا وحدنا من نُعاني في هذا العالم.
- هاي هِي، كما يُقال: "عندما ترى مصيبة غيرك تهون عليك مصيبتك".
- الله يكون معنا و معهم.
- آمين. صحيح! قالبها أبو الإنسانيّة و دائمأ تضربي في المباريات!!!
- قلت لك ألف مرّة لا تجلي بجانبي، أنا لا أتحكم بنفسي.
- شوف، سأُسامحك عندما تدفع لي ضريبة على كل ضربة، و المطلوب على الواحدة نصف مليون شيقل. لا تَقُل شيئاً، فإسرائيل تجمع هذا المبلغ من أهل البلدة القديمة بأيّام.
- آخ بس الله يعيننا، بالمناسبة عزيزي عمران سوف أقتلك.
- هاهاهاها، بالأول خلي أولاد عمنا يطلعولك التصريح.
- آه بس، أنت محق. هيّا اغرب عن وجهي قال نصف مليون قال!!
في الصباح، جاء عمران إلى رام الله، و كالعادة جعل ساجي يدعوه لتناول بوظة "رُكب". ثمَّ توجّها إلى منزل والد ساجي. كانت والدته قد حضّرت لهم سفرة مليئة بالأطعِمة الفلسطينية الشهيّة كالتبولة، وورق العنب، و الكبّة... أُم ساجي كانت تُحب عمران كثيراً، فضلاً عن أنّه صديق ابنها؛ فقد كانت ترى في وجهه صمود القدس، و في أخلاقه أخلاق من يُصلي في المسجد الأقصى، و سماحة من يُصلي في كنيسة القيامة. كانت ترى في عينيه جمال أزِّقة البلدة القديمة، ترى فيه المكان الذي حُرمت من زيارته لسنوات. وعمران كان يُحبّها أيضاً، و يناديها بـ"أُمّي" ويُحاول دائماً أن يجعل من بيتها قُدساً صغيرة؛ فيُحضر لها البخور، و السمسمية، و الفواكه المجففة... كما يُحضر لها تراب من القدس، و صوراً للمسجد، و الكنيسة، و القبّة.
أُم عمران تتردد إلى بيت والد ساجي أيضاً، و كانت تبادل ساجي المحبة؛ فقد رأت في الأخرى في نبضه نبض الضفة، و في روحه روح الانتفاضة، و في ابتسامته جمال الحرّية.
حان موعد المباراة...
صرخ ساجي: عمران، هيّا تعال.
كالعادة بدأ الصراخ و الضحك و الجنون، عند انتهاء المباراة، ذهب ساجي مع عمران إلى "حاجز قلنديا"؛ كي يوصله، وهناك شعر ساجي بمرارة؛ كم تمنى مرافقة صديقه إلى البلدة القديمة، لم يتكلم أمام صديقه بشيء. عانقه وعاد إلى البيت يحمل هماً كبيراً قد أنساه الفرح الذي خيّم على يومه.
عندما ذهب عمران إلى نقاط التفتيش كان وحده هناك، تنهّد قائلاً: الواضح أنني سأنام هنا!
قال له الجندي: ما الذي أتى بك بهذا الوقت المتأخر؟ ما الذي أخّرك؟ مع من كنت؟ و لِمَ لم تنم في بيت صديقك؟ ...
عمران يعلم أنَّ هدف الجندي هو جعله يندم على الساعة التي فكّر فيها بالذهاب إلى رام الله. فبدأ يبتسم و يُجاوب بهدوء، لكن في الحقيقة كان في داخله بركان يشتعل. بالنهاية يئس الجندي من محاولة استفزازه و جعله يمر.
في هذه الليلة لم ينم ساجي حتى تأكد أنّ عمران وصل بخير.
في اليوم التالي، بعدما عاد ساجي من الجامعة ، أراد أن يتحدّث مع عمران؛ لكي يُقررا ما هي الرواية التي سيقرؤها هذه المرة، لكن عمران لم يجب على هاتفه. ساجي بدأ يشعر بالقلق، أين ذهب الولد؟ هل ما زال في المدرسة؟ مستحيل! و أخيراً قرر أن يتصل بوالدة صديقه:
- مرحباً أُمي
لم تُجب الوالدة، كانت تبكي بشدّة. و أخيراً قالت:
- أخذوا عمران يا ساجي!
- ما الجديد يا أمّاه؟ ككل مرة سيعود.
- هو عاد، لكنّه متعرض لضرب مُبرح.
جنّ جنون ساجي و لم يستطع إتمام مكالمته، و بدأ يتخبط و يكسّر كل ما يقع أمامه. لحسن الحظ وافقت سُلطات الاحتلال على التصريح الذي قدمه ساجي بعد معاناة و انتظار قد طال. ما لبثَ أن استلم تصريحه حتى ذهب إلى الحاجز، عند نقطة التفتيش لاقاه جندي مزاجه سيء، فبدأ يتسلى بساجي.
تذكّر ساجي ما كان يقوله عمران" اهزم عدوك بابتسامة"، بالفعل انتصر ساجي و دخل القدس بعد أن هزم الجندي بابتسامته.
بعد الاستفسار و الاتصالات استطاع ساجي أن يصل بيت صديقه. عندما وصل رأى عمران لأول مرة يبكي بشكل هستيري.
عانقه ساجي قائلاً:
- فضحتني يا زلمة! هل تبكي من كم ضربة؟
- حكموا على أولاد جيراني بالمؤبد يا ساجي! قالها و هو يتنهد ثم تابع: قالوا "مؤبد عشان الأقصى" قالوها وهم يبتسمون، مؤبد!! لكنهم لم يفعلوا شيئاً.
لم يعلم ساجي ما الذي سيفعله، لم يقوَ على تحمل انهيار صديقه. فجأة توقف عمران عن البكاء و قال: هذا ما يريدونه.
نظر ساجي إلى والدة عمران بتعجب...
تابع عمران: يجعلون حياتنا جحيم و يلزمونا بدفع ضرائب باهظة، و يسجنونا ثم يضربونا، و يختلقوا لنا التهم الكاذبة، و يريدون أن تكون النتيجة هزيمتنا! لا و ألف لا.حتى إن منعونا من الصلاة في المسجد أو منعوا أخوتنا النصارى من دخول الكنيسة في "سبت النور" أو غيره، سنبقى هنا إن جعنا و تعذبنا لا يهم.
نحن أصحاب الحق و سنهزمهم بابتسامة، بقلم، بالكرة، بحجر، بأي شيء نملكه سنهزمهم. بدأ ساجي يشجع صديقه و يقوّيه، أخيراً قال ساجي: ماذا يا عمران، هل سأصل القدس و أرجع إلى البيت دون أن أرى المسجد و لا الجامع و لا الكنيسة! يخوي كلها كم ساعة و بتخلص مدة التصريح يلا قوم. قام عمران مستجيباً لصديقه، بدّل ثيابه و خرجا سوياً. تناولا الفلافل و الكعك المقدسي الذي لا مثيل له، و اشتروا كل شيء موجود في أسواق القدس.
أخيراً وصلا إلى ساحات المسجد الأقصى، لم يستطع ساجي الوقوف على قدميه من شدّة انبهاره بالمكان. صمت لحظة ثم قال: آه، و أخيرا رأيتها! يا إلهي كم هي جميلة ورائعة! و ظلَّ يتكلم ويصف بها حتى قاطعه عمران و بدأ يُغنّي: "موطني موطني ... الجلال و الجمال و السناء و البهاء في رباك في رباك... و الحياة و النجاة و الهناء و الرجاء في هواك في هواك ... هل أراك هل أراك ... سالماً منعماً و غانماً مكرّماً ... هل أراك في عُلاك ... تبلغ السًماك تبلغ السِّماك موطني موطني"
ابتسم ساجي لعمران، ثم قال:
- صوتك حليان، في أمل.
- لا بس من جمال المكان بطلت تجمّع!
ضحكا ثمَّ تعانقا. و ذهبا ليصليا المغرب. في طريقهما للمسجد قال عمران:
- ساجي
- هل يؤلمك شيء؟
- "لن نكون للعدا كالعبيد".