تقوم سيرورة التربية والتعليم الراهنة كونياً على الإخضاع والتطويع والترويض والمجانسة. ويبدو أن الفاعلية والحفاظ على الأوضاع القائمة هما الهدفان الرئيسيان لاستراتيجية التربية المعادية للعقل اليقظ الناقد والحرية التي لا تشوبها الضغوط الداخلية والخارجية على السواء. سنحاول فيما يلي أن نعالج السياق الاقتصادي/السياسي للعقل الأداتي والفردانية السلبية في "شمال العالم" في مقابل العقل التسليمي الإيماني العاجز عن أي شكل من التفكير أو الممارسة الحرة في بلادنا.
لاحظ مفكر مدرسة فرانكفورت إريك فروم أن الرأسمالية تنتج شخصية اجتماعية تتناسب مع احتياجاتها. وأوضح الرجل أن السياق الرأسمالي المعاصر يستدعي تسليع كل شيء ومواءمته مع احتياجات السوق. وفي هذا الوضع يصبح كل ما هنالك سلعا مطروحة للتداول، تخضع لقانون العرض والطلب دون أن تكون هناك قيم جوهرية تنتمي إلى ماهية الكائن/السلعة حتى لو كانت السلعة هي الكائن البشري ذاته. من هنا أطلق فروم على الشخصية النمطية السائدة في العالم المعاصر تعبير "شخصية السوق" التي "يتعلم" الفرد في سياقها قصدا وسهوا، وتقوم المؤسسات المختلفة بتدريبه لكي يصبح قادرا على تلبية متطلبات السوق ضمن شعار واضح لا لبس فيه: "أنا جاهز لأن أكون كما تريدني" أو أنا جاهز للتلون بحسب رغبات السوق واحتياجاته. وهذا ما ينفي عني التمتع بأية نواة صلبة تسمح بأن أعرف نفسي على أي نحو "متين" أو "جامع/مانع" على حد تعبير أرسطو.
غني عن البيان أن التدريب التعليمي في هذا السياق الاجتماعي/الاقتصادي يركز على تعويد الفرد "الشاطر" والمتفوق والذي يتمتع بترتيب عال بعد تنافس ضار مع أقرانه/أعدائه، على المرونة الكاملة التي تستبعد أية ثوابت من أي نوع على الإطلاق. ولا بد أن من يتمسكون بالثوابت هم التجسيد الأكيد للجمود والتخلف والتحجر والتطرف، وهم النقيض الموضوعي للتطور والانفتاح والاعتدال ...الخ.
قبل أسابيع هدد ماكرون بحظر التعليم في البيت الذي يبيحه النظام الفرنسي حتى اللحظة. وكما تعلمون فإن فرنسا تميل إلى حظر أي شكل من أشكال التعليم خارج نطاق الدولة وإشرافها المباشر. الدولة تنفق على التعليم في مراحله المختلفة بغرض احتكار حق تحديد الممارسة التعليمية التي يجب أن "يخضع" لها التلاميذ. ولا بد أن للدولة أهدافاً تتصل بإنتاج نوع معين من البشر، مثلما أن لديها أهداف تتصل بإنتاج أنواع معينة من العلماء أو من العلم أو من الممارسات العلمية. هل تستقيم رغبات الدولة الفرنسية مع إنتاج مواطن منعتق من القيود المختلفة، أم أن المقصود هو صياغة الناس والمعرفة بما يتلاءم مع احتياجات القوى الاقتصادية/السياسية/المعرفية التي تهيمن على المجتمع الفرنسي وتحتكر أشكال القوة بما فيها الشكل المعرفي ذاته مثلما أوضح فيلسوفهم فوكو على نحو محكم ودقيق؟
عند الانتقال الذي تقتضيه أغراض هذا المقال إلى "جنوب" العالم الذي ننتمي إليه تسقط الفاعلية والأداتية فوراً من استراتيجية التعليم، وتتراجع القدرات التضبيطية الهائلة التي نواجهها في أنظمة مثل الولايات المتحدة. هنا سنجد أنظمة سياسية وأبنية اقتصادية لا تحتاج إلى العقل المنتج للصناعة والتقنية وما تدره من أرباح. كما نجد أنفسنا في "أوطان" الاستقرار/الركود السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي والديني الذي لا يرغب في سماع أية أصوات ناقدة أو معارضة تعكر صفو المياه الاسنة التي تحيا فيها كائناتنا السياسية والاقتصادية محققة الثراء والازدهار دون أن تبذل جهدا في الحصول على شيء، خصوصا بعد أن ظفرت بنعمة النفط الذي يستخرجه الأجانب من باطن الأرض ويبيعونه فنقبض ثمنه ونشتري كل ما نحتاجه من سلع نهائية بما في ذلك سجادة الصلاة ومنتجات الجنس والمشروبات والأطعمة والألبسة والسيارات الفارهة...الخ الخ.
يصعب أن نتخيل أن الجهات التي تنفق على التعليم في السعودية أو مناطق السلطة على سبيل المثال، تريد للتعليم أن يكون سياقا لممارسة الحرية ونمو الفرد الإنساني منفلتاً من أية ضغوط أو قيود. ولا بد أن الممارسة تشي بالأهداف على نحو كاف: تقوم فكرة التعليم في البلاد العربية على حشو المحتوى في عقل التلميذ الذي يعتاد دور المستقبل الذي يسلم بصحة الرسائل بدون تردد، ثم يقوم بالاستظهار المحكم لكل ما يتم حشوه في رأسه. هناك "حاجة" ماسة إلى عدم ارتقاء قدرات المتعلمين في مجالات التحليل والنقد في مجتمع يضج بالمقدسات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية من كل لون وشكل. وهذا يعني أن لدينا مدارس "مقدسة" تدرب الأطفال، ولا تستطيع أن تفعل خلاف ذلك، على التسليم المبني على الخوف والإيمان بجملة من عناصر الخطاب الموروثة والمكيفة في نطاق البنية الاجتماعية المعاصرة. غني عن القول إن صانع القرار السياسي ليس في حاجة إلى مواطن يتمتع بالمسؤولية الأخلاقية والحرية وتلقائية التصرف والذكاء ...الخ، بما يجعله قادرا على فك طلاسم المصالح التي تحكم البلاد والتوجه نحو قلبها لبناء واقع مختلف يخدم مصلحة غالبية المواطنين. ولسنا في حاجة إلى ذكاء مفرط لنقرر أن محمد بن سلمان أو عبدالفتاح السيسي يبذلان الوسع والغاية لكي ينتج نظاميهما التعليميين "رعايا" لا مواطنين، بشرا قادرين على الطاعة العمياء لا عقل لهم ولا حول ولا قوة. ترى هل يسعد "جوال" على سبيل المثال أن يكون الإنسان حرا مسؤولا شجاعا وذكيا بمقدار يمكنه من مقارنة أدائها بأداء زميلاتها في سوق الاتصالات الكوني بما يردعها عن فرض خدمات وأسعار غير عادلة بمقاييس السوق الرأسمالي ذاته وليس بمقاييس طوباوية/ مثالية ما من قبيل المقاييس الاشتراكية أو الاشتراكية الديمقراطي… الخ؟ الجواب بين بذاته بطبيعة الحال.
لا بد إذن من طرح السؤال على نحو مباشر لا التواء فيه: من هي الجهة/ات المفترض أن تسعى إلى بناء التعليم الانعتاقي؟ ولماذا تفعل ذلك؟ نقصد ما هي "مصلحة" هذه الجهات في بناء المدرسة التي تهدف إلى سعادة الطفل ونمو عقله المتكامل المستقل وأخلاقه الإنسانية الرفيعة وإرادته الحرة؟
بالطبع يبدو ترفاً أن نحلم بالتعليم الانعتاقي في سياق مجتمعنا الذي ينوء بأحمال سياسية واقتصادية وتراثية لا قبل للبشر بها. لكننا لغايات "الجدل" الافتراضي نسأل أنفسنا: من هي القوى المحلية المحتملة لرفع راية التعليم الانعتاقي هنا والآن في رام الله أو غزة أو نابلس أو الخليل...؟
-وزارة التربية والتعليم الفلسطينية نزعم أن الوزارة عاجزة تماما عن اجتراح أي شيء يتصل بالتعليم سواء من ناحية تحويله إلى تعليم فاعل إبداعي ومنتج، أو من ناحية الحلم الأصعب بتحويله إلى تعليم انعتاقي ملتزم بسعادة الإنسان وتفتح ملكاته وإمكاناته على نحو تام. بالطبع لا يغيب عن بالنا الشروط السياسية التي تحكم الوزارة ناهيك عن الإمكانيات المادية والاستباقات الأيديولوجية التي تتحكم في بنية الفكر والممارسة على السواء.
- الأذرع الفكرية والأيديولوجية لحركة حماس: يمكن لحماس أن تسعى بإخلاص نحو فاعلية التعليم، خصوصا فيما يتصل بالفرع "العلمي" الذي يعني العلوم الطبيعية والتقنية. لكنها ترى بالطبع، وانسجاما مع موقف جوهري أسسه مفكرون لهم صفة الإرشاد، من قبيل المودودي وقطب والقرضاوي، أن "العلوم" الإنسانية أو الاجتماعية موجودة في القرأن على أكمل وجه، وأننا لسنا في حاجة إلى علم الغرب أو الشرق لكي يفسر لنا سلوك الإنسان. بالطبع هنا يمكن القول إن باب "الاجتهاد" الإنساني مغلق تماما، وأن الحظر التام هو القانون الذي يحكم هذا اللون من المعرفة وصولا إلى تكفير جزء وافر من منتجات الإنسانيات وعلمائها من قبيل الاجتماع والاقتصاد السياسي والتاريخ والنفس...الخ.
- القوى الليبرالية واليسارية ومنظمات المجتمع المدني: تشير المعطيات المتاحة أن الإمكانيات التي تتوافر عليها هذه القوى أضعف بكثير من أن تنتج بذاتها أي شيء ذي بال، إن يكن في ميدان التعليم أو غيره. ومن ناحية أخرى ليس من السهل الافتراض بأن هذه الشريحة من المجتمع تتمتع بمؤهلات أو خبرات أو حتى مصالح تدفعها إلى "النضال" من أجل التعليم الانعتاقي، ونظن أنها على الأغلب منشغلة في أمور "حياتية" كثيرة يتصل معظمها بالمعادلة الصعبة للبقاء على قيد الحياة عن طريق الحصول على التمويل الدولي الذي أخذ يتناقص بفعل عوامل كثيرة.
نختم بالقول إن الأسئلة الزائفة، على رأي ماركس، لا إجابة لها. ونتوهم هنا أن التعليم الانعتاقي في سياق وضع مثل وضع فلسطين أو مصر أو الخليج ...الخ هو اقتراح يقفز منطقيا فوق تحرير المجتمع أولا من القوى التي تحول دون تحقيق إنجازات أصغر من الانعتاق في سياق التربية. بل إننا نتوهم أن المجتمعات الأكثر "تقدما" والمتمثلة في الرأسماليات الصناعية في شمال العالم أو عملاق الصين الصاعد لا تزال أبعد ما تكون عن التفكير في انعتاق الإنسان على النحو الذي أوضحته "مخطوطات باريس" وغيرها من الكتابات الإنسانوية التي فحصت عميقا جذور اغتراب الإنسان وأوجهه المختلفة. ما يزال هناك عمل كثير ينتظر البشرية قبل الانخراط في مشروع الانعتاق الجميل. ولا بد أن تجاوز المجتمع الطبقي هو شرط ضروري، وإن لم يكن كافياً، من أجل زراعة بذور ذلك الحلم.