نعم من يفشل في تحرير الإنسان لن ينجح في تحرير الأرض… ولا قيمة للأرض في ظل إنسان منخور، متعفن، فاسد ومحطم من الداخل، عوامل أزماتنا الداخلية تكمن فينا، فكل هذه العوامل متشابكة تخلق هذه الأزمة المستديمة والتي أضحت بنيوية جهل تخلف، فقر، جوع، سلطة فاسدة، ضعيفة عشائرية وزبائنية، تشويه للدين، انهيار للمنظومة القيمية والأخلاقية والسلوكية، عبادات لا تترجم في أرض الواقع، سلوك لا معياري، كذب، دجل، نصب، فساد، تزلف، واسطة، إزدراء للتعليم، ثقافة دروشة وجهل وتخلف، شيوخ وخطباء مساجد في أغلبهم فتنويين ومذهبيين… غياب لدور الفكر التنويري والحضاري، استلاب للعقول، احتلال يعمل وفق استراتيجية ومنهجية طويلة من أجل إسقاطنا وتفتيتنا وانهيارنا من الداخل… نشر كل الآفات والأمراض الاجتماعية في أوساطنا المخدرات الفردانية والأنانية جذب الشباب نحو الموبقات، اختراق النسيج الاجتماعي والأسري، نشر السلاح المشبوه في أوساطنا… ازدراء العلم والتعليم، المحتل لا يتعاطى ولا يتعامل بعواطف ولا بردات فعل ولا سياسة "عليهم عليهم" ولا " القدس خط أحمر" ولا "العاصمة الأبدية" ولا "سفينتنا ذاهبة للقدس اركبوا فيها"، الاحتلال يمتلك مراكز بحث وخبراء وعلماء نفس واجتماع ومحللين، وليس مجموعة من المشعوذين ولا بياعي الشعارات وممتهني الخطابات والخطب… وهو يدرك بأن هذا الصراع وجودي معه والعامل الديمغرافي واحد من العوامل المقررة فيه… ولذلك جاءت خططه وبرامجه لتدمير المجتمع الفلسطيني من داخله من خلال زرع تجار المخدرات والمافيات في أوساطه والسكوت على الجرائم والمساهمة في نشر السلاح والمتاجرة به مع المعرفة الدقيقة بمصادره واستخداماته… الحرب بدأت في الداخل الفلسطيني- 48 - مافيات وتجار مخدرات وعصابات منتشرة في المدن المختلطة، تمارس القتل والبلطجة وفرض الأتاوات والخاوات وتنشر فيها المخدرات وكل أنواع الموبقات من أجل تفريغها من سكانها العرب ،اللد، الرملة، يافا، عكا وغيرها ومن ثم جرى نقل حروب المافيات وعمليات القتل إلى الأطراف القرى والبلدات العربية الكبرى مثل أم الفحم الطيبة كفر قاسم الطيرة وغيرها… الهدف واضح هو عدم شعور الفرد بأمانه الفردي الشخصي.. والخيارات أمامه إما أن يتسلح ويدافع عن أمنه الشخصي والأسري أو يحتمي بالعشيرة والقبيلة أو الطائفة أو يلتحق بجيش وشرطه الاحتلال أو يهجر هذه البلاد. سياسة "الطحن" والقضم التدريجي والاختراق والتفتيت من الداخل مجتمعياً تدمير ممنهج للنسيج المجتمعي وطنياً نزع أي انتماء وطني وتفكيكه، خلق حالة من عدم الثقة في المؤسسة الوطنية أو الحزبية أو الجدوى من النضال والمقاومة وتحويل الشعب الفلسطيني هناك إلى مجموعات سكانية، وليس إلى شعب له حقوق وطنية وسياسية ويعبر عن هوية وقومية ووجود أصيل.
الضفة الغربية بقيت محصنة نوعاً ما من تلك الأمراض الاجتماعية، فالصراع والاشتباك مع المحتل محتدم على الأرض والحقوق وانتفاضة شعبية بقيادة وطنية موحدة، انتفاضة الحجر كانون أول/1987، لاجمة لكل التناقضات والخلافات المجتمعية الداخلية، ومغلبة الصراع مع المحتل على أية صراعات أخرى، قوى مجتمعية منخرطة وموحدة في الكفاح والنضال ضد المحتل، لديها هدف واحد وحيد نقل الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية الى الإمكانية الواقعية، ولكن بدلاً من تحقيق هذا الحلم، جاءت قيادة متنفذة تخشى على مصالحها ودورها ومكانتها وأفسدت هذا الحلم، ولتقوم بأسوأ عملية استثمار سياسي متسرع للانتفاضة ومفاعيلها، ولتدخلنا في كارثة اتفاق أوسلو والتي واحدة من نتائجها على الأرض تفكيك النسيجين الوطني والمجتمعي وتفريغ الكثير من المناضلين وأبناء شعبنا الفلسطيني من محتواهم الوطني والكفاحي وربط مصيرهم بسلطة بائسة ضعيفة لا تمتلك أي سيادة على الأرض، وليس هذا فحسب، بل جرى ربط مجمل حياتهم بمؤسسات النهب الدولية من صندوق نقد وبنك دوليين قروض تصل حد الرهن ليس فقط على ممتلكاتهم من أرض وبيوت، بل سيارات وعفش بيوت زوجية وغيرها… السلطة التي أتت لم تشكل انموذجا لا وطنيا ولا مجتمعيا، ولم تنجح في تطبيق أو جعل القانون هو المرجعية، بل كانت حلولها تجري خارج القضاء وعبر صفقات تعقدها أجهزتها الأمنية وكذلك إعلاء دور العشائر والقبائل فوق راية الوطن والمبنى الوطني وتغييب دور القضاء… انسداد الأفق السياسي وغياب الحلول والشرذمة والانقسام وتفشي الفساد والمحسوبيات من أعلى إلى أسفل وغياب الوعي الوطني وتراجع دور القوى الوطنية والحزبية، سواء لجهة العامل الذاتي تعمق أزماتها وتكلس وتنمط قياداتها أو لجهة دور السلطة في إضعاف دورها وضعف سيطرة السلطة أو سيادتها، كل ذلك شكل مرتعاً خصباً لكي تنتشر العصابات والمافيات سواء في القدس أو الضفة الغربية، وبالذات شكلت مناطق (سي) بفضل " نعم" أوسلو تربة خصبة لكي يمارس الزعران والهمل والمافيات والمليشيات دورهم في تفتيت بنية المجتمع ونشر كل انواع الرذائل والموبقات في تلك المناطق من سرقات وتعديات وتجاوزات على القانون والتعدي على ممتلكات الناس وكراماتهم ووضع اليد بالقوة على أراضيهم وتدفيعهم الخاوات والأتاوات، ونشر المخدرات والمتاجرة وتوزيع السلاح المشبوه والسلاح العشائري والقبلي. وطبعاً المحتل وأجهزة الشرطية والأمنية أيديها وبصماتها ليست بالبعيدة عن كل ما يحدث، فهي ترى في تفكيك المجتمع وتفتيت بنيته واختراقه مجتمعياً ووطنياً واحدة من استراتيجياتها الرامية الى السيطرة على الأرض الفلسطينية وتهويدها، وحشر الشعب الفلسطيني في "جيتوهات" و"معازل" في محيط إسرائيلي واسع تحت سيادة وسلطة العشائر والقبائل، مع العمل على شيطنة الشعب الفلسطيني، وتصويره على أنه شعب مجرم لا يستحق لا دولة ولا حرية ولا الاستقلال.
القوى والأحزاب تحجم عن القيام بدورها الوطني والمجتمعي، ويغيب الفكر الحداثي التنويري العلماني التقدمي، حيث شهدنا بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي 2011، عملية " تدعيش" للمجتمع، ولتجد نفسنا أمام أكبر عملية اختطاف للدين من قبل قوى خرجت وفرخت من رحم جماعات متأسلمة عهدت لها أمريكا وإسرائيل ومعها العديد من المشيخات الخليجية العربية بتدمير الوطن العربي عبر تفكيك وتفتيت وتذرير جغرافيته وإعادة تركيبها على أسس مذهبية وطائفية، وبما يلغي مكونات وحدة الأمة مصيراً وهدفاً وجغرافيا وسوق وتاريخ وهوية، وأصبحنا نشهد ظواهر ومظاهر مثل حرق البشر الأحياء وبيع النساء في أقفاص في سوق النخاسة والقتل بطريقة بوهيمية وحشية، من خلال سيادة ثقافة وفكر الكهوف" طوربورا" والسجون "غوانتو ناموا"، هذا الفكر وهذه الثقافة انتقلت إلى مجتمعنا الفلسطيني الذي لم يعد محصناً أمام تلك الظواهر، وجرت عملية اختطاف وتوظيف للدين من قبل جماعات فرخت وخرجت من رحم الجماعات المتأسلمة، تلك الجماعات التي لا تمتلك سوى قراءة أحادية للدين تقوم على القتل والسحل وشق الصدور وبقر البطون وجلد الظهور، وهي تكفر أتباع المذاهب الأخرى من نفس الديانة فكيف بأتباع الديانات الأخرى؟ ولذلك عندما نشاهد ونرى ما يحدث في مجتمعاتنا من تنامي الخطاب التكفيري الظلامي المشبع بالحقد والكراهية والفتنوية، وتضخيم أي حدث صغير فردي وإلباسه ثوب الطائفية أو العشائرية والقبلية، وفي سياق تفكيك وحدة ونسيج المجتمع شهدنا خطابات و"بوستات" تدعو على سبيل المثال الى عدم مشاركة أبناء الوطن من العرب المسيحيين للتهنئة بأعيادهم، وكذلك قيام البعض دون أن يلصق الاتهام بجهة معينة بحرق شجرة عيد الميلاد في سخنين مرتين، وبتزامن أعياد الميلاد وإقامة احتفال من قبل فرقة موسيقية في مقام النبي موسى، في إطار خلل واضح وانتهاك لحرمة وقدسية المكان تتحمل مسؤوليته الفرقة والقائمين عليها والجهات التي لها علاقة بالمسؤولية عن المقام والمكان من وزارتي الأوقاف والسياحة وغيرها، المهم هذه الحادثة جرى تضخيمها بشكل كبير جداً وجرى توظيفها ووجدنا أنفسنا أمام خطاب داعشي تكفيري، يراد منه أخذ وطننا ومجتمعنا إلى المجهول والتفكك المجتمعي… وفي قضية مقام النبي موسى وما حصل أود القول لمن يقرأون التاريخ جيداً بأن الكاتب والأديب الفلسطيني خليل بيدس أحد قادة الثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني عام 1920م، أذن لتلك الثورة من مقام النبي موسى، وجرى سجنه من قبل البريطانيين والحكم عليه بالإعدام ليجري تخفيض الحكم الى 15 عاماً، وتحت ضغط المظاهرات الشعبية أطلق سراحه بعد أربعة شهور، وما قام به الكاتب الفلسطيني العروبي بيدس، يذكر بالموقف القومي العروبي لرئيس الوزراء السوري فارس خوري عام 1944م والذي كان في نفس الوقت وزيراً للأوقاف الإسلامية، وعندما اعترض البعض، خرج النائب عن الكتلة الإسلامية في المجلس آنذاك عبد الحميد الطباع ليقول للمعترضين "إننا نؤمن فارس بيك الخوري (المسيحي) على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا".
إن حجم الاختراق الحاصل في مجتمعنا الآن، يجعلنا ندق ناقوس الخطر بأننا ذاهبون إلى الكارثة بأيدينا، وعلينا أن نتصدي بحزم وبأدوات جديدة وأساليب جديدة لكل الظواهر والمظاهر السلبية في مجتمعنا التي تهتك وتخترق جدار النسيجين الوطني والمجتمعي على طول وعرض جغرافيا فلسطين، قبل أن يتسع الفتق على الراتق ويصبح من الصعب رتق الفتق....علينا أن نقر أولاً بأننا أمام معضلة ومشاكل اجتماعية عميقة، وبأن المحتل نجح في تحقيق اختراق جدي في نسيجنا المجتمعي، وهذا الاختراق نحتاج أن نحاصره وأن نجابهه، ونواجه بشكل جدي القائمين عليه، وأن نعمل على اجتثاثهم ولفظهم من مجتمعنا، وهذا يحتاج إلى سواعد فعل حقيقية تقود فكر وثقافة قائمة على أساس أن شعبنا الفلسطيني واحد ومتساوي في الحقوق والواجبات أمام القانون.. وأن كل من يعبث بأمن مجتمعنا ونسيجه الأهلي والمجتمعي يجب فضحه وتعريته واجتثاثه من مجتمعنا، وكذلك من يزرعون الفتن ويبثون خطاب الكراهية والحقد والإقصائية يجب التوقف أمامهم… والعصابات والمافيات والزعران والهمل يجب أن يكون هناك موقف وطني وعشائري ومؤسساتي ومجتمعي بمجابتهم والتصدي لهم ولفظهم من بين ظهرانينا، بحيث يجري رفع الحماية والغطاء وطنياً وعشائرياً عن مثل تلك الجماعات والمافيات والمليشيات والزعران، وأيضاً يجب أن يكون هناك تجريم واضح وعقوبات رادعة من قبل السلطة وأجهزتها بحق كل العابثين بالسلاح أو المستخدمين له في الأعراس والجنازات والمناسبات المختلفة، وتحريم استخدام السلاح في قضايا الاحتراب القبلي والعشائري وتجريم كل من يقوم على استخدامه أو يحرض أو يأمر باستعماله في تهديد السلم الأهلي والمجتمعي، وكذلك نبذ ووقف الخطابات والخطب الفتنوية والمذهبية والتحريضية، والتركيز على خطاب التسامح والوحدة ونبذ الفرقة والفتن.