خيم صمت فلسطيني مطبق، حيال تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الراغبة بعلاقات أفضل مع دولة الكيان، والمؤكدة على استمرارية العلاقات الأمنية "الاستخبارات"، وذلك نقلاً عن بعض وكالات الأنباء الجمعة 26 كانون أول. فما سر هذا الصمت الفلسطيني، على النطاقين الشعبي والرسمي وخاصة في مدينة القدس التي فيها، ومن خلالها يقرأ المزاج الشعبي وتتضح البوصلة رغم كل محاولات سلطة الحكم الذاتي تغييبها وتحييدها كعاصمة للشعب والقضية. ولعل السؤال الحقيقي هو، ماذا قدمت تركيا لنا كفلسطينيين عامة؟ وكمقدسيين خاصة؟ لنغمض أعيننا عن علاقاتها المتينة والتاريخية مع المحتل؟؟
بداية يجب أن نعي تماماً كي لا يستهان بقدراتنا العقلية ووعينا الذاتي لما يدور من حولنا من أحداث، أن تركيا كدولة محورية بالإقليم، وما تملكه من قدرات عسكرية وجغرافية واقتصادية وتاريخية، تعتبر قوة إقليمية لا يستهان بها، وتتحرك برسم سياساتها الخارجية وفق ما تمليه مصلحتها الإثنية القومية، فهي تبحث كما يبحث الآخرون عن نصيبهم من كعكة العرب، وثرواتهم المنهوبة التي تتقاسمها دول الشرق والغرب بعد أن أغرقتهم بحروب مذهبية وأهلية داخلية وحدودية، بأدواتٍ وأيدٍ عربية، من أبناء البلاد ونظمهم الاستبدادية.
كما ترى تركيا نفسها راعياً للعرق التركي، وعلى استعداد للتعاون مع المخالفين لها مذهبياً وسياسياً، كما حدث في أذربيجان وأرمينيا، فالشعب الأذري بأغلبيته ينتمي للمذهب الشيعي، الذي تقف منه موقف المواجهة، والنظام الأذربيجاني جعل من باكو العاصمة، مقراً لأكبر قواعد الموساد بالشرق، وكذا الدولة الأذربيجانية تعتبر الزبون، الأول للصناعات العسكرية الصهيونية، في الوقت الذي يتغنى به الإعلام التركي، بمحاربة النفوذ الصهيوني بالعالم العربي كما في سوريا وليبيا مثلا، مما يدع محلاً للشك أن الباعث على التحرك التركي هو مصلحتها أولاً، وغير ذلك يأتي لاحقاً.
وبالنظر إلى القضية الفلسطينية، وما تحمله من معانٍ دينية وتاريخية وأخلاقية وسياسية، جعلها مصدراً للقوة والتأثير، فهي ورقة الضغط القوية، التي تهدد أمن واستقرار المنطقة والعالم دون مبالغة.
ولا ننسى أن فلسطين وتركيا تتشاركان عقيدة دينية وثقافية واحدة، فتركيا حكمت فلسطين قرابة أربعمائة عام، جعلت من التراث العثماني جزءاً لا يتجزأ من تاريخ فلسطين، بل ودفعت تركيا آلاف الشهداء دفاعاً عن فلسطين، أمام المستعمر البريطاني مطلع القرن الماضي، بالمقابل فقد دفعت شعوب المنطقة مئات آلاف الشهداء، في حروب الدولة العثمانية بالبلقان والقوقاز؛ هذا كله بالإضافة إلى الخلفية الدينية للرئيس التركي أردوغان وذكره لفلسطين وللمسجد الأقصى، في خطابه، مما جعل قبوله فلسطينياً ومقدسياً أمراً محتوماً.
كما أنه لا يخفى على أحد ما تمارسه كافة النظم العربية، من تضييق ومنع لأي نشاط فلسطيني مقاوم أو شبه مقاوم، باستثناء دمشق التي أنهكت واستنزفت جراء العدوان الأمريكي والصهيوني والعربي على وحدة ترابها واستقلال قرارها، وقد استغلت تركيا ذلك فقامت بالعمل على ثلاثة مسارات متزامنة ومحدودة بسقف لا تسمح لأحد بتجاوزه، والتي سنذكرها تباعاً، كما فعلت بطردها للشيخ صالح العاروري، عن أراضيها بعد أن اتهمه الاحتلال بالقيام بأعمال تهدد أمنه.
المسار الأول:
قامت بدعم وتمويل نشاطات ومؤتمرات احتضنتها تتعلق بالقضية الفلسطينية، عامة والمسجد الأقصى خاصة، واحتضان بعض الشخصيات الفلسطينية المرتبطة بمحور المقاومة على أراضيها وتوفير الحماية والمنابر الإعلامية لهم بسقف لا يتعداه أحد كما قصة الشيخ صالح.
المسار الثاني:
قامت بدعم لوجستي وإنساني للأرض المحتلة مثلها بذلك مثل دول الاتحاد الأوروبي كالسويد وألمانيا، وربما أقل منهم، ولكن دعمها لبعض الرموز الدينية في القدس، ولبعض المقربين منهم من مؤسسات ونشطاء تواصل اجتماعي ضخم وبالغ في تهويل وتعظيم حجم الدعم المقدم، وأشعر الآخرين بشيطنة أي تفكير سلبي حيال الأتراك.
المسار الثالث:
قامت بدعم وتمويل وإنشاء منابر إعلامية بالأرض المحتلة وخاصة القدس، ضمنت من خلاله عدم اقتراب أقلام الصحافة والكُتاب منها، وبذلك أرخت ستائر التضليل على حجم دورها بدعم القضية والشعب المغلوب على أمره.
وبهذا يمكننا القول إن تركيا تريد من القضية الفلسطينية حصانها الأسود، وورقه ضاغطة على الصعيد الإقليمي، والدولي لمصالح عرقها، وبحال تنتهي المصلحة سينتهي ذلك التقارب المصطنع.
وهنا يبرز السؤال الأكثر أهمية، كيف يكون الموقف الفلسطيني من تركيا بناءً على ما تقدم؟
إننا لا ننكر كفلسطينيين غياب الموقف السياسي الواحد والمتوازن، فنحن داخلياً نعيش أزمة الانقسام في الصف، والفُرقة في البيت الواحد، فكيف بأي موقف خارجي موحد، ولكن لا بد وأن نعي بأن لنا قدرة على تحصيل منافع حقيقية من تركيا لحاجتها الماسة لوجودنا ودعمنا، فيمكن لنا مثلا أن نضغط باتجاه تقدم تركي، قوي وفاعل ومثمر لإفشال مخطط تقسيم المسجد الاقصى المبارك، ويمكن أيضا أن نرفع صوتنا عالياً باتجاه وضع الثقل التركي لتخفيف الحصار عن قطاع غزة، أو تحسين الظروف المعيشية لأهلنا المحاصرين هناك، لكن ما نفع هذا التفكير في ظل قيادة رسمية جعلت من القضية الفلسطينية كرة يركلها لاعبون بين الشرق والغرب؟.