الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الجنس وموت العقل والذات/ بقلم: ناجح شاهين

​قراءة في دور التعليم المعاصر في إخضاع البشر

2021-01-06 10:17:41 AM
الجنس وموت العقل والذات/ بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

كانت زميلتي إليسون بادية الحزن محمرة العيون، "الحيوان، قطع علاقته بي ونحن على أبواب الامتحانات، لو أنه فقط انتظر حتى ننتهي من هذا الكابوس!" تقريباً أصبت بالدهشة. لم أكن في ذلك الوقت قد أدركت حجم الرعب الذي يتمتع به النظام التعليمي النخبوي. كما أنني لم أكن قد "اكتشفت" دور الجنس بصفته مخدرا يخفف من ضغوط الحياة مثله مثل سيجارة الماريجوانا. 

كانت إليسون زميلتي في برنامج دكتوراه العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا قد تلقت تعليمها السابق في بيركلي، وكان من البدهي أن تكون مهيأة لتلقي العلم في بنسلفانيا بشكل سلس باعتبار أن هذه الجامعات العظيمات/الشقيقات لا يختلفن في شيء تقريبا. في المقابل لا بد أن نتوقع أن شخصا مثلي تلقى تعليمه في الجامعة الأردنية وتعود ثقافته إلى "الضفة" سيواجه صعوبات جمة في قلعة عظيمة من قلاع العلم مثل بنسلفانيا، أما أن تأتي من كولومبيا أو بيركلي أو ستانفورد فلا بد أنك في أنسب وضع لكي تشعر أنك في بيتك، أو بلغتهم to feel at home.

 اكتشفت بسرعة أن أليسون وغيرها يخشون من الفشل في إثبات أنهم جزء من النخبة الأكاديمية في سياق "النورمال سينس" (العلم السائد) في الولايات المتحدة. يتطلب الأمر إثبات القدرة التنافسية العالية في مضمار القراءة وكتابة المقالات التلخيصية والمقالات النقدية والتحليلية والتركيبية ...الخ على نحو مرهق شبه يومي. ينبغي تحديدا أن يتمتع المرء بميزة متناقضة تتمثل في أن يكون مبدعا وذكيا ولديه مهارات عالية في القراءة والتحليل دون أن يصل الأمر به أن "ينشق" عن ثوابت البارادايم العلمي السائد لأن ذلك يمكن أن يكلفه مغادرة الجامعة. بالإضافة إلى ذلك يجب على الطالب أن "يظهر" في المحاضرة والندوة والورشة… الخ؛ لا بد من أن يقول شيئا منتميا إلى الموقف ويبدو لافتا وذكيا. قال  لي زميل ألماني كان مندهشا مثلي: إنهم يتصرفون بروح ممتثلة ومرعوبة على نحو يذكر بوصف فوكس نيوز لرعب المواطن في كوريا الشمالية. قلت له وأنا أبتسم محبطا: مع أننا نعيش هنا في بلاد حرة. 

شاهدت في أثناء دراستي هناك استبعاد طالبتين من برنامج الدكتوراه بسبب نقص الكفاءة أو الموهبة... وقد كان ذلك مرعبا بالفعل لدرجة أن يقود البقية إلى نوبات الهلع خوفا من مواجهة المصير ذاته. كان لا بد من تملق الأساتذة على نحو دائم بشكل "ذكي" ومدروس بإشعارهم بشكل غير مباشر ولا مبتذل بأنهم نعمة علمية كبيرة على مجتمع العلماء والبشرية كلها. في هذا السياق كنت أعجز عن الامتناع عن الضحك وأنا أرى زميلتي إليسون تتزلف لأستاذ نيوليبرالي من أنصار الحرب في العراق، ثم تنتقل لمكتب الأستاذ الماركسي الوحيد في الجامعة لتجامله بخصوص صدور بحثه عن تاريخ التمييز العنصري في الولايات المتحدة وأبعاده الطبقية، وصولا إلى مجاملة أستاذ نظرية العلوم السياسية الذي يعد تلميذا من تلاميذ جوديث بتلر الموهوبين. خلطة عجيبة: محافظ جديد، ماركسي، وما بعد حداثي/بنيوي. لكن مثلما أوضح اريك فروم في وصفه لشخصية السوق: أنا جاهز لأن أكون بأية صورة تضمن لي النجاح أو أن يستقبلني بها السوق. 

 

في المقابل في الجزء الآخر من العالم، الذي يسمى ناميا أو متخلفا بما في ذلك الوطن العربي كله، ينتشر نوع من التعليم الخفيف السهل الخالي من الفاعلية العلمية والأكاديمية. لكنه في الوقت ذاته تعليم أكثر ملاءمة للمارسات التحررية التي تمكن التلميذ من التفكير بمقدار من الاستقلالية عن النظام الأكاديمي بما يسمح ولو بمقدار صغير أن يكون له صوت شجاع في مواجهة عسف الأكاديميا وتضبيطها الناعم المريع. لكننا لا نتوهم أن التلميذ الفلسطيني على سبيل المثال يفكر لنفسه، أو أنه منعتق من أية قيود فكرية أو نفسية. الطالب الفلسطيني "محظوظ" من ناحية تحرره من الخوف أو القلق المتصل بالامتحان، أو أهمية الشهادة في تحديد مستقبله العلمي أو الوظيفي أو رتبته الاجتماعية...الخ، باعتبار أن الشهادة الجامعية لا قيمة لها تقريبا في تحديد أي شيء، وأن الوظيفة البائسة التي يمكن الحصول عليها بفضل هذه الشهادة تعتمد غالباً على العلاقات والواسطات السياسية والحزبية والعشائرية، وأنها في نهاية المطاف لا تسمن ولا تغني من جوع. 

 يختفي أي اهتمام للتلميذ بـ "العلم" لحظة تخرجه من الجامعة. ولا بد أن رعب القلق المتصل بمواصلة تطوير الذات من أجل المحافظة على فرص التنافس في سياق السوق الرأسمالي الصناعي الذي لا يشبع من التطور، لا مكان له في هذه الجهة "الفلسطينية" من العالم. ينام الخريج نوما طويلا مملاً بانتظار الوظيفة أو داخل الوظيفة. وعلى الرغم من المحاولات "الخبيثة" التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية الممولة من قبل الأمريكيين والأوروبيين لتدريب الخريجين، خصوصا من فئات العاطلين عن العمل على المهارات المختلفة من أجل تحسين فرصهم في الحصول على الوظيفة -وهو ما يشي بأن الوظيفة موجودة ولكن لا يوجد من هو مؤهل للحصول عليها-فإن معظم المتدربين يبصرون بعيونهم أن الوظائف تذهب بالفعل إلى أصحاب الواسطات والعلاقات. غني عن القول إن ذلك لا يساوي استهانة المتدرب بأنشطة التدريب المشار إليها لأنها تحتوي في نهاية المطاف على وجبة طعام وتزجية للوقت وبعض الوهم والأمل. 

هناك بالطبع الكثير من العناصر المشتركة بين التعليم "عندهم" والتعليم عندنا. ومن الأمور البارزة في هذا السياق غياب الفاعلية الإنسانية الحرة الجميلة العاقلة والواعية.

عندما يكون الإنسان في حالة فاعلية جادة معنية بالعمل المنتج أو الكفاحي أو الإبداعي… الخ، فإنه يكون مستغرقاً في متعة الممارسة ونشوة الإنجاز. أما عندما يكون في وضع المتفرج الذي ينتظر الوقائع أن تأتيه من خارج ذاته دون أن يكون مشاركاً في السيروة الحياتية، فإنه "يتخصص" في البحث عن الطرائف والمسليات والمشهيات التي تأتيه من صناع السعادة والفرح في العالم الرأسمالي المبدع في اختراع سلع التسلية التي لا نهاية لها. 

لكن هذه السلع تحيل الإنسان إلى متفرج كسول يقتله الملل والإحباط بعد أن يفقد اتجاه البوصلة ويتلبسه شيطان اللاتسيس الذي يحرمه من جمالية القيمة الذاتية وقيمة العمل الجماعي التفاعلي القائم على التواصل الحي بين الذوات التي تجمعها غايات واهتمامات مشتركة تؤسس للتواصل التلقائي والمثمر بين أبناء الحي والديرة والقرية والمخيم والمدينة. هكذا مثلاً غدت حياة الناس في مناطق السلطة عندما "آمنوا" أنه لا دور لهم فيما يحدث في بلادهم، وأن حياتهم يجب أن تتجه نحو اقتناص الفرص للمناصب والمنافع والثروات، بغرض الحصول على السلع ووسائل الترفيه والسفر للتمتع في أرجاء الدنيا من قبيل تركيا أو ماليزيا..الخ.

عندما يغدو الإنسان متفرجاً على حياته ومصيره، يموت الكائن الحر الفاعل والمنتج والمفكر، ويحل محله شبح بائس يبحث عن الفرح في الاستهلاك الفج لشهوات الفرج والبطن وما يرضي قشرة العقل الخارجية من أخبار ومعلومات تافهة تتصف بالغرابة المصطنعة التي تبهت مع الزمن والتكرار، وتفتح مثل الإدمان، الشهية للمزيد من جرعاتها.

فقط عندما يعود الإنسان إلى أخذ مصيره السياسي والاجتماعي والاقتصادي بين يديه بالتعاون والتشارك مع إخوته في الوطن والإنسانية، يغدو للحياة معنى وطعماً، وتصبح الأخبار الغريبة والطريفة بضاعة كاسدة لا تهم أحداً.

لكن العقل الأداتي "الغربي" "المتقدم" والفاعل، وتابعه العقل الأداتي المحدود الموهبة والتدريب في بلادنا، يخيمان على مدينة الإنسان كما لم يحدث في أي وقت سابق. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يفقد الإنسان قدرته على الاستبصار. تمتد التقنية الانضباطية إلى الحقول كلها. فالعقل المضبط هو الذي يسود في سياق التعليم في مراحله ومؤسساته المختلفة. وقد تمكن سحر المعلومة التي يوفرها هذا الزمن التكنولوجي الرهيب من تكريس دور العقل في استهلاك هذه التكنولوجيا وتطويرها إلى ما لا نهاية. لن نتمكن بطبيعة الحال -مهما فعلنا- أن نقيم خطاً فاصلاً بين رأس المال والتكنولوجيا. لقد جرف رأس المال السريع بطء الحياة التي كانت سمة مميزة لحضارة ما قبل الرأسمالية. لكن الطبعات الأخيرة من التكنولوجيا تسير في إيقاع مجنون لا مثيل له في التاريخ. وبسبب هذه السرعة المذهلة، تغدو الأشياء غير واقعية وغير حقيقية، وتنعدم القدرة -إذا استعرنا سارتر - التي يتمتع بها الإنسان العادي لفرض الأشكال على الأشياء. هكذا "تضيع الطاسة"، ويغدو الناس "مضروبين على رؤوسهم" تحسبهم سكارى وما هم بسكارى. لقد "ميعت" التكنولوجيا الواقع وأسئلته نازعة عنه إهابه الصلب، محيلة إياه إلى سيلان لا معالم له، فأصبح الحلم والكابوس والأغنية والحب والحرب تفاصيل لها نوع الحضور نفسه الذي هو بالطبع لمفردات المنتجات التكنولوجية من قصص وأبطال وبضائع.

وفي هذا السياق ضاعت الذات الفاعلة وقدرتها على التساؤل: كيف نغير العالم اليوم؟ يبحث الثوريون عبثاً في النظريات المختلفة عن مخرج من "واقع" يكتظ فيه البريد الإلكتروني والفيس بوك وتويتر..الخ بمئات بل آلاف وربما ملايين الرسائل التي تمتلئ دعوات من كل حدب وصوب: منظمات ومهرجانات وبيانات تتناقض وتتقاطع وتتباعد وتتقارب وتلمس طيفاً لا حد له من الاهتمامات، ولا تترك حيزاً أو نقطة مضيئة أو معتمة في حياة الإنسان إلا أتت على ذكرها وتحفيزها وإثارتها. وفي هذا الاتجاه، لا يبقى للمرء الذي يلهث طوال يومه من شاشة إلى شاشة من رغبة في التفكير في شيء، هذا على افتراض أن أحداً ما زال يمتلك القدرة للقبض على المعنى الذي تراجع إلى مستوى الجزئي/الوضعي الذي ينكر الكلي والشامل والرؤيوي، باعتباره محض إنشاء. 

من أين نأتي بالإنسان العاقل الحر ذي النواة الداخلية المتماسكة؟ لقد أزاحت التكنولوجيا العقل التركيبي والقيمي على السواء. وانتصرت للعقل التصنيفي، التكميمي، وانتصرت للسيطرة على الإنسان بالذات. لم تعد الغاية ضبط الطبيعة، ذلك كان الهدف المتواضع للعلم، أما التكنولوجيا الجديدة فقد سيطرت على الإنسان وعلى عقله محولة إياه أداة طيعة في يد "المؤسسة". ليس هنالك من قيمة وراء الفاعلية التقنية، وكل من يعرض بضاعة تتجاوز ذلك ينظر له بازدراء في السوق التكنولوجية/الرأسمالية المعاصرة. ولذلك، فقد غدا العقل "العملي" الأداتي هو العقل الشرعي الوحيد، المتاح والمطلوب. ولذلك أيضاً، فإن قيمة الوقائعية التفصيلية التي تنزع إلى تحسين التفاصيل قد قتلت "الرؤية" تماماً. ومن هنا أصبح كل رؤيوي متهم بأنه أيديولوجي. لكن "الأيديولوجي" الذي يحلم بولادة الإنسان الحر القادر على الفعل المنتج والأخلاقي والجميل هو الأمل الوحيد المتبقي من أجل بناء عالم يتجاوز "أداتية" الرأسمالية الهادفة إلى الربح حتى لو كان ذلك على حساب عقل الإنسان وحريته وانعتاقه.