شكلت فترة حكم دونالد ترامب فترة ذهبية في تاريخ الولايات المتحدة. فبعد أربع سنوات من العروض البهلوانية الجميلة والمسلية، ها هي الديمقراطية الأمريكية تستعيد وهجها وتألقها وحركتها وتنشحن بالحماسة والمتعة بعد أن كانت لعبة مملة متثائبة لا أحد ينتظر منها شيئا إن لم يكن مفرطا في البراءة والسذاجة على السواء.
لقد نجح ترامب في إشعال الدنيا من حوله على نحو يذكر بمعارك دون كيشوت. لكن الكثير من الأمريكيين بعقول ونوايا لا تختلف عن كيشوت نفسه رأوا في الرجل بطلا من أبطال الكاوبوي الرائعين. وفي هذ السياق تمكن ترامب من دغدغة مشاعر البطولة العلمانية والبطولة الدينية على السواء بمزيج من حروبه الكلامية ضد الصين وكورويا وروسيا وإيران إضافة إلى قراراته الجريئة في دعم إسرائيل من أجل تسريع مجيء مملكة الرب المقبلة دون شك بعد انتصار إسرائيل النهائي الذي يعد مقدمة لا غنى عنها لبناء تلك المملكة.
ولا شك أن الطبقة السياسية الأمريكية كلها بما فيها فئة الجمهوريين سعيدة بحالة الحماسة الشديدة التي تجتاح الجمهور الذي يزداد سذاجة وشعبوية يوما بعد يوم. أما حركة نانسي بيلوسي في مجلس النواب فلا بد من تقديمها على أنها تعبير رائع وشجاع عن نهضة أمريكا العظيمة دفاعا عن الديمقراطية وانتصارا لها. وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن "تتأسطر" مرحلة ترامب ليرى فيها البعض مرحلة البطل الذي راح ضحية مؤامرة من النظام والدولة العميقة، أو أنها "أم المعارك" التي أثبتت أمريكا فيها أنها قلعة الديمقراطية التي لا يمكن اختراقها لا من الداخل ولا من الخارج.
من جانبنا نظن أن المبالغة في تغطية ما جرى في الولايات المتحدة مؤخرا وما رافق ذلك من تهييج هو خدمة مجانية للنخب التي تحكم تلك الدولة. ولعل من المزعج بالفعل أن الاعلام العربي موحد تماما في وصفه لما يجري هناك باعتباره انشقاقا واضحا على حد وصف الخبراء جميعا بمن فيهم خبراء محطات المقاومة من قبيل الميادين والإخبارية السورية وفضائية القدس ...الخ. وقد أفرطت تلك الوسائط الإعلامية في تصوير الكارثة الأمريكية مدفوعة بمزيج من الرغبة في رؤية أمريكا تسير على طريق الانهيار إضافة إلى الخوف من خسارة المشاهدين إذا لم تقم بتغطية ما يجري من أمور تشد اهتمام المشاهد العربي مثل غيره في العالم باعتبار أن ما يحدث في الولايات المتحدة يهم الناس جميعا في حين لا يكلف معظمنا خاطره أن يستمع لأي شيء يجري في إفريقيا وأجزاء واسعة من آسيا. بالطبع يجد "الخبير" المستضاف في الفضائيات نفسه في وضع المضطر إلى أن يجاري الاتجاه العام فيشرع في تحليل قيام المؤسسة الأمريكية بردع الممارسات المنشقة عن الدولة العميقة، ويتوغل المحلل أحياناً في ذلك الاتجاه وصولا إلى الألقاء في روع المشاهدين أن ترامب شكل ثورة على الدولة "العميقة" أو الطبقة السياسية أو الاقتصادية الحاكمة.
نرغب في القول في هذا السياق إن ترامب لم يكن أول رئيس "معتوه" للولايات المتحدة. بل إن غالبية رؤساء أمريكا بعد الحرب الكبرى المنتهية سنة 1945 كانوا معتوهين بشكل أو بآخر. ومن هؤلاء جونسون ونيكسون وريغان وجورج بوش الابن من بين آخرين. قد يكون ترامب أكثر اضطرابا من بوش بقليل، ولكن من يتذكرون بوش وحقبته يعلمون أن "العته" ليس شيئا غريبا على الرؤساء الأمريكيين، وأن الولايات المتحدة ومسيرتها لا تتأثر كثيرا بشخصية الرئيس، ولا يتغير اتجاهها قليلا أو كثيرا. ولعل من أبرز الوقائع التي تشرح ما نقول مجيئ باراك اوباما بعد جورج بوش ليمثل وهمياً انتقالة نحو النقيض من ناحية الثقافة والوعي والانتماء العرقي والحزب الذي يمثل ...الخ لنجد فعليا أن سياسة أوباما لم تغير جوهريا اي شيء كان قد بدأه جورج بوش. من الصحيح أن ترامب أخذ خطوات "شجاعة" جديدة نسبيا من قبيل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولكن إذا وضعنا هذه الحركة جانبا باعتبار أن ذلك أمر كان سيحدث على يده أو على يد أي رئيس آخر بسبب "نضج الظروف لموضوعية" فإن باقي الأسس لم تتأثر أبدا. وإذا كان هناك من يظن أن ترامب اتبع سياسة معادية للصين أو ايران أكثر مما يجب فإنه واهم لأن مراكز البحث والجامعات وصناع الفكر والسياسة في أمريكا ينظرون إلى الصين منذ عقدين على الأقل على انها التهديد الأخطر للولايات المتحدة، أما ايران فهي موضوعة على رأس جدول أعمال "تنظيف الشرق الأوسط" منذ عقد ونصف من الزمن.
لكن هناك من يظن أن "اقتحام" الكونغرس كان حدثا رهيبا على نحو غير مسبوق؛ أو على الأقل هذا ما أقنعتنا به وسائل الإعلام الدولية والعربية المسيطرة. وهذا بالطبع نسب إلى تحدي ترامب للمؤسسة الحاكمة. للأسف لم يفكر الكثير منا في غرائبية أن يتمكن بضع مئات من الناس العزل من اقتحام حصن الديمقراطية الأمريكية. ولم نفكر بالتالي في أن ما حصل قد يكون منسقاً مع رجال الأمن بشكل أو بآخر.
لماذا حدثت تلك التمثيلية؟ يصعب بالطبع أن يكون هناك إجابات جاهزة وحاسمة على مثل هذا التساؤل الذي قد نحتاج سنوات قبل أن تكشف لنا وكالة المخابرات المركزية عنه. يمكن لنا أن نفكر أن ما حصل هو طريقة لتعزيز قسمة الولايات المتحدة بين حزبين كبيرين منقسمين بشكل "حاد" بعد أن مل المواطن الأمريكي من غياب الفروق بين الحزبين مما شكل تهديدا في الآونة الأخيرة بإمكان التفكير في بدائل أكثر جذرية. الآن يمكن للمجتمع أن ينقسم على طريقة انقسام الأردن مثلا بين المواطنين من أصل أردني وأولئك القاديمن من أصل فلسطيني، أو مثل الانقسام بين الشيعة والسنة في العراق أو سوريا ...الخ. ليست الولايات المتحدة إلا بلدا يخضع لنخبة استغلالية تلعب الألعاب كلها من أجل تأبيد الهيمنة في الداخل والخارج. وفي تقديرنا أن ترامب لم يفعل أي شيء ذي بال يؤهله لأن يكون شخصا ضد المؤسسة أو الدولة العميقة...الخ على نحو جوهري عميق.
في أثناء الهجوم العتيد على الكونغرس سجل داو جونز ارتفاعا بقيمة 438 نقطة. أليس ذلك غريباً كما الخيال؟ هل يمكن لحدث "مريع" ومخيف أن يؤدي إلى استجابة الأسواق بهذا الشكل الإيجابي ما لم يكن "صناع" الأسواق مطمئنين أن هذا الحدث تمثيلية أو أنه على الأقل شيء عابر تماما ولا قيمة له على الأطلاق؟ بعد مرور "العاصفة" أعلنت نانسي بيلوسي عن بدء اجراءات عزل الرئيس الذي لم يتبق له في الحكم إلا أيام قليلة لا تكفي لتنفيذ تلك العملية. ما الذي تريده نانسي من ذلك؟ فعليا التهييج هو الكلمة السحرية التي يجب أن نفكر بها. تسييس المواطن الأمريكي على نحو معتوه يجعله أقل وأقل قدرة على التركيز فيما يرى ويسمع. وأخيراً تحقيق المزيد من السيطرة للنخبة الحاكمة بحزبيها الديمقراطي والجمهوري.
طبعا هناك "إشاعات" اعلامية كثيرة فحواها أن ترامب ضد الدولة العميقة، وأنه أرسى دعائم رؤية جديدة، وأن هناك من يخشى هذه الرؤية ويريد العودة بالأمور إلى سابق عهدها.
في رأينا الذي نختم به هذه العجالة، أن التضخيم المتعمد لظاهرة ترامب هو في ذاته أساس اللعبة التي يلعبها الحزبان معا من أجل السيطرة على عقل الجمهور وإيهامه أن هناك معركة سياسية حقيقية، وأن هناك اختلافات بين الحزبين وبين الأشخاص ..الخ. لكن من الواجب القول إن هذا كله يفتقر إلى الأدلة الوقائعية التي تثبت أن ترامب فعلاً انتهج نهجاً مناقضاً ل "ثوابت" السياسة الأمريكية وأنه لم مثله مثل غيره في الالتزام بجوهر الاستراتيجية الأمريكية المعادية للصين وروسيا والقوى اليسارية في أمريكا اللاتنية إضافة إلى السياسة الثابتة في منطقتنا القائمة على دعم إسرائيل ودول النفط وتركيا ومعادة إيران وسوريا والمقاومة اللبنانية والفلسطينية. في ذلك كله لم يكن ترامب إلا تلميذاً جريئاً حد الوقاحة في المنافحة عن المصالح الأمريكية. وأما في الداخل الأمريكي فإنه لم يكن إلا ممثلاً صريحاً للتمييز العنصري المضمر في الحياة الأمريكية منذ ولادة هذه الدولة قبل قرنين من الزمان.