الانتخابات البرلمانية أو التشريعية هي الوسيلة الأفضل التي أجمع عليها فقهاء القانون الدستوري والقوى والأحزاب الفاعلة في الحياة السياسية في البلدان التي تختار الديمقراطية وسيلة لانتقال السلطة، ونهجا للحكم. إذا ما جرت هذه الانتخابات في جو من الحرية والنزاهة والشفافية وحافظت على دورية انعقادها في المدد المحددة دستوريا في الظروف الطبيعية وغير القاهرة .
ومنذ نشأة السلطة الوطنية وفق اتفاقيات أوسلو وعودة الرئيس ياسر عرفات إلى أرض الوطن عام 1994، جرت الانتخابات للمجلس التشريعي مرتين؛ الأولى في كانون الثاني 1996 والثانية عام 2006، رغم أن مدة المجلس محددة وفق القانون الأساسي (الدستور) بأربع سنوات. ويعتبر تأجيل عقد الانتخابات أول مرة عشر سنوات وثاني مرة 14 سنة خرقا للقانون الأساسي، لكن الفلسطينيين يجدون لأنفسهم العذر في عدم تمكنهم من إجراء الانتخابات بشكل دوري لتجديد شرعية السلطة وتداول الحكم، لأنهم ما زالوا تحت الاحتلال ولم تتحرر بلادهم رغم تحرر إرادتهم النسبي في إطار اتفاق أوسلو الذي أنشأ السلطة الوطنية بما فيها ركنها التشريعي.
جرت أول انتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية ولم تشارك فيها حركة حماس أو حركة الجهاد، وفازت بها حركة فتح وبعض المستقلين وترشح أبو عمار للرئاسة ونافسته المناضلة سميحة خليل التي أخذت حقها في عرض برنامجها السياسي عبر التلفزيون الرسمي، وهذا الأمر أكسب السلطة الفلسطينية احتراما وتقديرا أمام شعبنا وأمام العالم والمراقبين الأجانب وعلى رأسهم رئيس فريق المراقبين الدوليين جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة الأسبق.
كان ترشح السيدة سميحة خليل مفخرة للشعب الفلسطيني على حد قول الرئيس الرمز أبو عمار، لأنها أول امرأة في العالم العربي تترشح لمنصب رئاسة السلطة وفي منافسة شريفة لقيادة أبو عمار رمز الثورة ومفخرها وقائدها العائد إلى الوطن. وبروح عالية كانت سميحة خليل أول المهنئين للرئيس أبو عمار بفوزه في الانتخابات بنسبة 88% من الأصوات فيما فازت هي بنسبة 12% من الأصوات.
لعب النواب المنتخبون، دورا ملحوظا في استقلالية قراراتهم وتوجيهاتهم ومحاسبتهم للحكومة بوصفهم نواب الشعب المنتخبين مباشرة من على غير ما هو الحال في عضوية المجلس الوطني الفلسطيني التي تتم بالتوافق بين فضائل المنظمة وتحفظ تمثيلا لكل فصيل حسب حجمه وتواجده في الساحة السياسية والعسكرية الفلسطينية، لكن تمثيل المجلس التشريعي للشعب الفلسطيني يظل على أي حال منقوصا ومقتصرا على جزء من الشعب الفلسطيني المتواجد في الضفة والقطاع والقدس والذين يمثلون أكثر بقليل من ثلث الشعب الفلسطيني بكامله في الضفة والقطاع والقدس والداخل والشتات وبالتالي تظل الأهمية التمثيلية لكامل الشعب الفلسطيني للمجلس الوطني رغم ما يعتري اختيار أعضائه من نواقص لعدم انتخابهم مباشرة من الشعب الفلسطيني، ولكن تمثيله للشعب الفلسطيني تعزز بإضافة أعضاء المجلس التشريعي المنتخبين إلى عضوية المجلس الوطني، وهذه المشكلة في تمثيل الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده سواء على أرض فلسطين التاريخية أو في الشتات يمكن تجاوزها بإجراء الانتخابات حيثما أمكن ذلك والتوافق على أعضاء يمثلون الفلسطينيين حيث لا يمكن إجراء الانتخابات بشكل حر ونزيه وبعيد عن التدخلات وسياسة الإملاء والاحتواء، ونتيجة لتعقيدات الوضع الفلسطيني قرر أبو عمار أن يؤدي اليمين القانوني كرئيس منتخب للسلطة الوطنية أمام المجلس الوطني وليس أمام أي إطار قانوني للسلطة الوطنية سواء المحكمة العليا أو المجلس التشريعي.
ورغم أن السلطة الوطنية قد طغت في صلاحيتها على المنظمة وباتت المنظمة تبدو وكأنها دائرة أو وزارة ملحقة بالسلطة، فإن المنظمة هي التي وقعت اتفاق أوسلو الذي أنتج السلطة الوطنية وسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. ويظل هذا الأمر إشكالا تتحاجج به الفصائل الوطنية والقوى الإسلامية التي تدعو إلى تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية سواء كانت تعترف بالمنظمة أو تسعى لتكون بديلا عنها من خلال إجراء انتخابات للمجلس الوطني في الداخل وفي الشتات حيثما أمكن لتشكيل اللجنة التنفيذية للمنظمة وانتخاب رئيس للجنة مباشرة من المجلس، وانتخاب رئيس الدولة من الشعب مباشرة حيثما أمكن والتوافق على برنامج سياسي ملزم للسلطة الوطنية وتحركها السياسي ويضمن مشاركة جميع أبناء الشعب الفلسطيني في اتخاذ القرارات المصيرية التي تواجه القيادة في المرحلة القادمة.
تفاصيل كثيرة بحاجة إلى نقاش مستفيض بين الفصائل والقوى الوطنية يجب التوافق عليها قبل الانتخابات التي تقررت في الثاني والعشرين من حزيران القادم، ولا يتحدث أحد عن فصل الرئاسات الثلاث وهل أن رئيس السلطة الوطنية هو رئيس دولة فلسطين أو العكس أم أن هناك رئيسا للسلطة وآخر للدولة وهل رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة هو رئيس السلطة أم أن الأمر سيبقى على ما هو عليه. بحيث تجمع الرئاسات الثلاث في شخص واحد منتخب مباشرة من الشعب.
وهناك أمر آخر أكثر خطورة يتعلق باتفاق أوسلو والسلطة الوطنية، فثمة من يرى أن "بقاء السلطة الوطنية الفلسطينية هو حقيقة سياسية وكيانية من حقائق الشرق الأوسط وتشكل العائق الأكبر أمام إسرائيل دون أن تتجاهل دور السلطة في البناء الوطني، ومن الخطأ القول إن المنظمة الأم منظمة التحرير الفلسطينية هي الوطن المعنوي والممثل الشرعي والوحيد يمكنها أن تملأ الفراغ وتقوم بمهام السلطة الوطنية وفي حالتنا الراهنة في ضوء هذا الصراع المديد وهذا المأزق فإن المنظمة تبقى ضرورة وطنية والسلطة الوطنية ضرورة وطنية ودولية، فهي النواة المادية على الأرض للدولة الفلسطينية التي يدفع المجتمع الدولي باتجاه قيامها على أرض فلسطين وبحدود عام 1967 والقدس الشرقية عاصمتها"، وثمة من يقول "إن السلطة الفلسطينية لا ضرورة لها وزوالها خير من بقائها لاستمرار النضال لتحرير فلسطين"، هذه أمور قد تكون موضع نقاش في الحوار المرتقب بين القوى والمنظمات والحركات الفلسطينية وهي من الخطورة بمكان وقد تفجر الاتفاق على الذهاب إلى الانتخابات باجتماع وطني عام ويذهب قسم ولا يذهب آخر إذا ما أراد فصيل أن "يتلكك" لإعفاء نفسه من المشاركة في الانتخابات ودخول امتحان حضوره الشعبي عبر صناديق الاقتراع فقد كان التوافق الوطني الضامن لمشاركة جميع القوى والفصائل والمنظمات والمستقلين في عضوية المجلس الوطني وكانت الكوتا ترضي وتوحد هذه القوى مع المحافظة على موازين القوى الفعلية الشعبية والنضالية داخل المجلس الوطني والانتخابات القادمة التي ستجري وفق التمثيل النسبي والقائمة المغلقة بعد تعديل قانون الانتخابات الذي جرت بموجبه الانتخابات الثانية وهو النظام المختلط _ دوائر انتخابية للأفراد وقائمة نسبية على مستوى الوطن- قد يوفر تمثيلا منصفا لكل القوى إذا ما روعيت نسبة حسم معقولة تتيح المشاركة ولا تهدر أصوات ناخبين لصالح القوائم الكبرى التي ستحصد غالبية الأصوات والقائمة المغلقة وفق التعديل الجديد تتكون في حدها الأدنى من 16 مرشحا وفي حدها الأقصى 132 مرشحا".
وترددت أنباء أن فتح وحماس سوف تدخلان الانتخابات بقائمة واحدة، فإذا أغلقت هذه القائمة على 132 مرشحا من كلا الحركتين فقط ودون أن تضم مرشحين من قوى وفصائل ومستقلين عن فتح وحماس ولكن بالتوافق على برنامج سياسي، تكون الانتخابات قد حسمت لصالح الحركتين، وإذا كان هذا الأمر جائزا في النظم الديمقراطية والعمليات الانتخابية فإنه لا يجد ترحيبا من أوساط الشعب الفلسطيني الذي يضم فصائل وقوى مناضلة ومستقلين عن الحركتين رغم إدراك الجميع أن القائمة المشتركة لفتح وحماس قد تكون المدخل السليم لإنهاء الانقسام والعودة إلى الوحدة الوطنية الذي عانى منه الشعب الفلسطيني على مدى أربعة عشر عاما وكان سببا في تأخير عقد الانتخابات الثالثة لأكثر من 12 سنة.
لقد ضمن التعديل الجديد لقانون الانتخابات حق المرأة في التمثيل واشترط أن يكون ربع عدد أعضاء أي قائمة على الأقل من النساء وهذا يعني أن بعض القوائم قد تضم أكثر من الربع.
إن للمرأة الفلسطينية دورا هاما في الحياة الفلسطينية النضالية والمجتمعية، وهي نصف المجتمع ولا يمكن أن نقول إن قانون الانتخابات قد أنصفها ما لم تشكل نصف عدد أعضاء المجلس المنتخب ولا شك أن على المرأة أن تعمل بجد لانتزاع حقوقها ولا تنتظر أن يهبها الرجل هذه الحقوق التي قد تأخذ كثيرا قبل أن يصل بوعيه إلى مرحلة "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" وقد يكون من المناسب أن تجرب عدد من النساء أن يشكلن قائمة نسوية من أكثر من 16 امرأة تخوض الانتخابات في منافسة شريفة ومتكافئة مع القوائم الأخرى لانتزاع أكبر قدر من حقوقهن وإذا ما أحسنّ إدارة المعركة الانتخابية فقد تفوز قائمتهن بعدد إضافي من العضوات تعزز نسبة الربع في المجلس، كما أن هناك كثيرا من المستقلين لا ينتمون لحركتي فتح وحماس، وهم ذوو خبرة وعلم ووطنية وتأثير في المجتمع بشكل عام وفي مجتمعاتهم بشكل خاص يمكنهم أن يدخلوا إلى حلبة المنافسة الانتخابية في قائمة مستقلة وقد يكون النجاح حليفهم
نريدها معركة انتخابية حرة ونزيهة ومنافسة شريفة يصل من خلالها ممثلون للشعب قادرون على خدمته وحمل المسؤولية الوطنية والنضالية القادمة وهي مسؤولية ثقيلة وليست عضوية البرلمان وجاهية اجتماعية وخطابات في الجلسات ومن ثم "تسليك" بعض القضايا والتعينات والترخيصات للأحباب والأصحاب والأقرباء .
كما أن مشاركة المواطن فوق سن الثامنة عشر أمر في غاية الأهمية إذ أن أكثر من هم دون السادسة والثلاثين من العمر لم يشاركوا في أي انتخابات تشريعية، ويمثلون نسبة عالية من المواطنين ويطمحون إلى دور سياسي ومشاركة في صنع مستقبلهم الذي يتهدده الاحتلال والبطالة التي تدفعه إلى الهجرة عن أرض الوطن. إن تمثيل هذه الفئة في قوائم الترشيح أمر في غاية الأهمية لإضافة دم جديد شاب مليء بالحيوية والإبداع الذي تحتاجه المرحلة القادمة.
وتظل مسألة القدس ومشاركة أهلنا فيها في الانتخابات القائمة معضلة ومشكلة يتوجب حلها والتوافق عليها مهما كانت الظروف واختلفت الآراء والرؤى، ومن السهل حلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي إذا ما منع الاحتلال مشاركة أهل القدس وضواحيها في الانتخابات من خلال صناديق اقتراع يشرف عليها أهل القدس والمراقبون الدوليون.
وتكمن أهمية كبيرة في اعتراف القوى والأحزاب والفعاليات المشاركة في الانتخابات وغير المشاركة فيها بنتيجة الانتخابات فور إعلانها، والحق مضمون للطعن أمام القضاء في التجاوزات التي قد تحدث هنا أو هناك، وعلينا أن نستفيد من الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التي طعن في نزاهتها الرئيس السابق دونالد ترامب وغادر البيت الأبيض مدحورا وحيدا وهو يقول "الانتخابات سرقت مني" وقد كذبت ادعاءاته محاكم الولايات المتحدة ورفاقه أعضاء حزبه الجمهوري في مجلس الشيوخ والنواب وأقرت نتيجة الانتخابات بفوز خصمه جو بايدن.
ولا ينبغي أن يكون التمسك بالسلطة من أي طرف مدعاة لتخريب السلطة ومصالح البلاد والعباد كما يفعل بنيامين نتنياهو الذي ذهب أربع مرات إلى الانتخابات في أقل من عامين وتلاعب بالأحزاب والشعب وكورونا والاقتصاد ليبقى رئيسا للحكومة ويحمي نفسه من الملاحقة القضائية والسجن.
إن لنا ثقة كبيرة بوعي شعبنا وحرص المسؤولين عن هذا الشعب على السلم الاجتماعي والانتقال السلمي للسلطة وتجربة انتخابات عام 2006 كانت خير دليل على ذلك لكن الاحتلال لا يريد لأي تجربة ديمقراطية فلسطينية أن تنجح وقد حقق غرضه عام 2007 ولكنه لم ولن يتمكن مرة أخرى من ذلك وعلينا نحن أن لا نمكنه من أنفسنا ونسير بتجربتنا الديمقراطية إلى حيث يجب أن تكون وتكون مثالا لأنظمة عربية وغير عربية في مسيرة تداول السلطة والانتقال السلمي لها.