الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تونس عندما تذهب "السكرة" وتأتي "الفكرة"/ بقلم: ناجح شاهين

2021-01-29 10:15:11 AM
تونس عندما تذهب
ناجح شاهين

 

 

لا أحد فيما نحسب يجادل حالياً في أن "الربيع" العربي قد انتهى بكارثة في ليبيا، وسوريا، واليمن، ومصر، والسودان. لكن الأمل كان ما يزال منعقداً لدى بعضنا على الحالة التونسية التي بدا وكأنها قد نجحت في إرساء دعائم نظام سياسي ديمقراطي يكفل الحريات وحقوق الإنسان، وكل ما يتصل برطانة اللغة الديمقراطية مثلما تنتجها الأكاديميا ومنظمات حقوق الإنسان الأوروبية والأمريكية.

للأسف، يبدو أن ساعة الحقيقة قد دقت: الجياع في أرجاء البلاد نفد ما لديهم من خبز بعد سنوات "الثورة" العجاف . والناس اليوم يريدون ما ينقصهم فعلاً بعد أن تم تضليلهم بعض الوقت بأيديولوجيا الديمقراطية. لكن الرئيس قيس السعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي لا يمتلكان الكثير من الخبز، كما أنهما فيما نرجح يحوزان موارد قليلة. والأهم من ذلك في تقديرنا هو أنهما ليسا في وارد بناء دولة العدالة لأنهما يمثلان مصالح الطبقة ذاتها التي كانت في رعاية نظام بورقيبة ونظام زين الدين بن علي.

في ذكرى الثورة ( 14كانون الثاني 2011) اندلعت "أعمال الشغب" التي أطلق شرارتها مصرع الشاب هيكل الراشدي من مدينة سبيطلة. لكن الأحياء الفقيرة في العاصمة تونس تلقفت الأحداث ووسعتها. بالطبع حاولت الحكومة ومن يقف وراءها احتواء ما يجري، ومن هنا جاءت فكرة التعديل الوزراي ليقرها البرلمان قبل ثلاثة أيام وسط انتقاد من الرئيس السعيد الذي قال إن رئيس الوزراء لم يحترم الإجراءات الدستورية. إذن هناك صراع واضح وسط حضور كثيف للجهاز الإكراهي الذي يتواجد في كل مكان ليذكر من نسي بأن هذه الديمقراطية "سكر خفيف". في السياق ذاته تطل علينا الألعاب السياسية العديدة من حزب النهضة وحلفائه من ناحية، ومن الرئيس ذاته من ناحية ثانية، ومن بقية الأحزاب التي لا عد لها ولا حصر من ناحية ثالثة. في هذا السياق خرج علينا "القصر الرئاسي" بخبر فحواه أن الرئيس قد تعرض لمحاولة القتل عن طريق طرد بريد مسموم؛ لكن الله سلمه ونجاه.

في ظل هذه الأوضاع المتحركة على غير هدى، يصعب علينا أن نرسم للقارئ حالة الفوضى واختلاط الحابل بالنابل في عالم السياسة التونسية حيث يوجد في البرلمان نواب يمثلون عشرات الأحزاب. ولعل من المهم أن نشير هنا أن عدد الأحزاب التونسية قد وصل رقما كبيرا يزيد على 280 حزباً، وهو ما يزيد على عدد أعضاء البرلمان البالغ 217 نائباً، مما يجعل هذه المقاعد لا تكفي لترضية الأحزاب مقعدا مقعدا. ونورد في الجدول التالي الأحزاب ومقاعدها.

حركة النهضة: 52

الكتلة الديمقراطية: 38 مقاعد

كتلة حزب قلب تونس 27 مقعد

كتلة ائتلاف الكرامة 19 مقعد

كتلة الحزب الدستوري الحر 16 مقعد

كتلة الإصلاح: 16 مقعد

كتلة تحيا تونس: 11 مقعد

الكتلة الوطنية: 11 مقعد

كتلة المستقبل: 9 مقعد

بدون كتلة: 16 مقعد

هكذا مهدت انتخابات 2019 الطريق لما يجري حاليا. فقد تفرقت المقاعد بين الأحزاب على نحو لا مثيل له في "الديمقراطيات الليبرالية" المعروفة. كما أن الأحزاب "الحداثية" من قبيل أحزاب نداء تونس، ومشروع تونس، وبني وطني، وبدرجة أقل حزب آفاق تونس، والبديل التونسي، ذهبت أدراج الرياح، واندثرت أو فقدت معظم ثقلها. أما اليسار الذي يعول عليه عادة في تمثيل مصالح الجماهير الفقيرة والكادحة، فقد أصبح في خبر كان. جاءت هزيمة القوى اليسارية مدوية وصاعقة، خصوصا أن هذه القوى كانت حتى وقت قريب تمثّل الكثير بحكم أنها قدمت شهيدين كبيرين هما محمد البراهمي وشكري بلعيد، اللذين قُتلا في عمليات اغتيال قبل سنوات قليلة. لم تنجح أحزاب اليسار إذن في الحصول على أي مقعد. لذلك تبدو صورة محزنة ومثيرة للشفقة أن يصدر حزب العمال (العمال الشيوعي سابقاً) بياناً باسم الجماهير يحمل فيه الحكومة وأجهزتها القمعية المسؤولية عن دم الشهيد هيكل الراشدي ويدعوها إلى الرحيل فوراً.

تتعثر قوة العقل عند متابعة ذلك الخليط، خصوصاً عندما تدخل منظمات المجتمع المدني إلى المشهد فتعلن 26 منها عن وقفة احتجاجية أمام مقر البرلمان للتنديد بقمع الاحتجاجات. لكن رئيس الحكومة المشيشي والرئيس السعيد وكل من هب ودب يريدون الخير للشباب، أو هكذا يقولون. فالخلافات بين الفرقاء هي خلافات "إدارية" إن جاز القول، ولا أحد على الإطلاق بمن فيهم الكتلة البرلمانية الأكبر التي تمثل إخوان تونس يمكن أن "يتهور" إلى حد رفع شعار مصادرة أموال الفاسدين أو الإعلان عن العمل حقاً جمعياً تكفله الدولة، أو الاتجاه نحو التأميم أو أية تدابير اشتراكية يمكن أن تقدم مدخلاً لحل أزمة ما انفكت تتوسع وتتعمق منذ الاستقلال الذي قاده رئيس ليبرالي مخلص هو الراحل بورقيبة.

بالطبع يستطع رئيس الوزراء المشيشي أن يصف الأحداث الأخيرة بغير البريئة، وأن يندد بالدعوات التي تروج على صفحات التواصل الاجتماعي لبث الفوضى وأعمال الاعتداء على المؤسسات الدستورية، وأن يشك، محقاً فيما نحسب، بوجود أصابع إماراتية سواء عن طريق الحزب الدستوري أو غيره، ولكن ذلك كله ليس أساس الأزمة، أساسها معروف للقاصي والداني: إنه البؤس الاجتماعي والتفارق الطبقى الرهيب، وتوسع هامش البطالة إلى خمس القوى العاملة، وانتشار الفقر المدقع والجريمة الاجتماعية من بين ظواهر مريعة أخرى.

بالتضامن مع رئيس الوزراء نددت قلب تونس والنهضة بأعمال التخريب، ودعت النهضة المحتجين و"أصحاب القضايا العادلة" إلى عدم توفير الفرصة للمتاجرين بقضاياهم وجعلها مطية لبعض الأطراف لتخريب البلاد والإساءة لاستقرارها. وعلى الرغم من الخلاف الظاهر بين الرئيس السعيد ورئاسة الوزراء إلا أنه بدوره استخدم خطاباً شبيهاً بخطاب النهضة عندما حذر "ممن يسعى إلى المتاجرة بفقر المواطنين"، و"هو لا يتحرك إلا في الظلام" بهدف "بث الفوضى".

على الرغم من ذلك فإن السعيد لم يصل إلى مستوى حركة النهضة التي اتهمت المتظاهرين بتلقي الأموال من الخارج لتخريب البلاد، ويبدو أن الرئيس يدرك أن انكماشاً اقتصادياً بنسبة سبعة في المائة، عوضاً عن النمو، هو أمر كارثي بلغة الاقتصاد ورجاله، ولعل ذلك ما يفسر أن البطالة قد وصلت في بعض المناطق إلى أرقام فلكية تقترب من 40 في المئة. ومما يزيد من فرصة الغليان أن ثلث العاطلين من خريجي الجامعات القادرين على التنظيم والمبادرة.

على الرغم من ذلك كله، فإن ما يجري في تونس ينذر بدولة فاشلة. ولا مجال لأية أحلام أو أوهام بثورة اجتماعية جذرية تخرج البلاد نهائياً من حالة المراوحة في المكان المستمرة منذ سقوط بورقيبة حتى اليوم. لكن تونس حالة ممثلة للواقع العربي عموماً. ربما علينا أن نستثني دول النفط بدون شك. ليس الزمن في تونس ومصر وسوريا...الخ زمن الأوهام الليبرالية أبداً. إنما على أجندة الساعة التاريخية توفير العدالة وبناء الاقتصاد المنتج والعلم والصناعة، وفك الارتباط بالاستعمار العالمي وبناء التضامن العربي إن لم يكن الوحدة العربية. وذلك كله ليس ترفاً أيديولوجيا وانما ضرورات واقعية لا غنى عنها لحل الأزمة العميقة التي تعيشها الدولة العربية الإقليمية.

من هنا نأمل أن ينتهي حال الفوضى الهلامية الليبرالية الذي سمح لكثير من القوى والأفراد أن يبتلعوا الأوهام الأيديولوجية إلى حد التضامن مع ثورة مضادة قروسطية في سوريا. وقد ساهم "مجاهدو" تونس بالذات بقسط وافر في العمل "الثوري" من أجل إسقاط الدولة السورية.

دعونا نقول الأشياء بوضوح: لو كان الحراك في سوريا قد نحا باتجاه تعميق الاتجاه نحو الوحدة العربية، ودعم العدالة، وتحرير الأرض العربية، تصويباً لمسار القيادة السورية التي مارست شيئاً من اللبرلة بعد حافظ الأسد، لهللنا لذلك الحراك دون تردد. كما أن الكلام عن الحرية والديمقراطية وما أشبه فليس له معنى في رأينا إلا إذا جاء في ذيل قائمة "بيان الثورة" بحيث يسبقه بوضوح تام برنامج للبناء الاقتصادي والعلمي مع تصور لا لبس فيه للنضال ضد الاحتلال "الإسرائيلي" والاستعمار العالمي وفي ظل الإدراك التام أن أي إقليم عربي لا يستطيع أن يكون ناجحاً أو قوياً بمفرده.

آن الأوان فيما نرجح لكي يدرك أنصار الاستقلال والوحدة والبناء أن التصويت في الانتخابات لن يطعم ملايين الجياع ولن يحرر فلسطين ولا السعودية. ذلك أن المهم في النظام السياسي أن يبني الوطن بغض النظر عن أسطورة الديمقراطية والانتخابات. وفي وظننا أن الديمقراطية في اللحظة الراهنة لا تعني في الواقع العربي إلا الانفتاح على الغرب وتحرير السوق لمصلحة البضائع الأجنبية وتقويض استقلال البلاد بفتحها على غاربها أمام أدوات المستعمر البشرية والتقنية على السواء. هذا على وجه التحديد ما تعيشه تونس في هذه اللحظة "الديمقراطية": إنه الفوضى التي تكرس عودة الاستعمار عن طريق فشل الدولة وتمزق النسيج المجتمعي. ولا بد أن عكس اتجاه البوصلة نحو ثورة اجتماعية عميقة تتبنى مصالح الفقراء وترفع شعارات الأمة الواحدة هو الأمل الوحيد للنجاة.