الحدث فكر ونقد
تقديم: ولد مصطفى صفوان في الإسكندرية عام 1921، ثم غادر مصر وجهة باريس للدراسة، فترة نهاية الحرب العالمية الثانية. أحد تلامذة جاك لاكان، حيث بدأ تحت إشرافه تحليلا اختباريا سنة 1949، وكتب منذ تلك الفترة ما يقارب خمسة عشر كتابا اهتمت مضامينها بأسئلة نظرية- أوديب، الخصي، الوظيفة الأبوية- وأخرى تقنية انصبت على النقل والتحويل وكذا تأطير المحلِّلين النفسانيين.
نصادف، بين طيات هذا الإنتاج عناوين من قبيل: "الجنسانية الأنثوية في النظرية الفرويدية" (سوى، 1976)، "جاك لاكان ومسألة تكوين المحلِّلين النفسانيين" (سوي 1983)، "الكلام والموت" (سوي، 1996)، ثم أهم أعماله "لماذا العالم العربي ليس حرا: سياسة الكتابة والإرهاب الديني"، الذي كتبه باللغة الإنجليزية وصدر ضمن منشورات دينويل سنة 2008، مؤلَّف عَكَس بكيفية مثيرة صيرورة تقاطع اللغات:هكذا كتبت فقراته باللغة العربية (نصف بالعربية الكلاسيكية والنصف الثاني بالعربية المصرية)، ثم أعاد تناولها بترجمتها إلى الإنجليزية، واهتم آخرون بتحويل وجهة الكتاب إلى الفرنسية، ثم صدر ثانية وفق عتبات مقدمة جديدة. هذا يعطي فكرة عن النص باعتباره نتاجا غير قطعي تماما، بل يلزم استعادته باستمرار، لأنه دائم السفر، أفق يمدح حركية الفكر، عكس الفكر المعطَّل أو المنهجي. أيضا، الترجمة والاستعادة، بمثابة وسيلتين لمقاومة التسلط.
لأن مصطفى صفوان بدوره مترجما؛ فقد ترجم أساسا إلى العربية كتاب فرويد ''تأويل الأحلام''، وكذا باللهجة المحلية المصرية ''عطيل'' لشكسبير.
يمكننا القول بأن مصطفى صفوان، تصور قد يبدو اليوم مستهلكا إلى حد ما، مثقفا يمتلك قياسا لمرجعيات فكرية مختلفة، العربية الفرنسية والإنجليزية، ثقافة هائلة على مستوى التحليل النفسي والفلسفة.
سنطلع على جانب، من تفاصيل هذه القضايا، من خلال الحوار، الذي أجراه الصحفيان: ميشيل بلون وتيفاين سامويولت، مع المحلِّل النفساني مصطفى صفوان.
س-أود البدء بسؤال عام جدا. ما طبيعة الوضع الذي يشغله اليوم التحليل النفسي، سواء في العالم أو داخل فرنسا؟ يبدو بأنه قد اتجه تصوركم في نهاية كتابكم حول التحليل النفسي الصادر سنة 2013، إلى نهاية هذا التاريخ كنظرية.
مصطفى صفوان: التحليل النفسي، هو تاريخ عقدة أوديب، والأخيرة تعتبر تاريخا للعائلة. كان لدي مشروع كتاب عن تحولات عقدة أوديب، في ارتباط بالتطور التاريخي للأسرة. يمكننا القول، لم تمثل العائلة إشكالا بالنسبة للوسط المرتكز نشاطه على القنص والقطف: يرى الابن أمام أنظاره بأن أباه يجسد حقا دالا عن الرغبة الأمومية، متأهبا بالتالي كي يعيش وفق نفس المنهج.مع الثورة الزراعية، نشأت البطريركية، التي أدت تقريبا إلى ولادة ثانية للإنسان المنتصب: عوض الارتهان بما تعطيه الأرض، سيتم إنتاج هذه الأرض. مثلا، اكتفت العدالة الرومانية، بالوقوف عند باب المنزل. بينما يسود في الداخل قانون البطريركية. وإذا امتنعت البطريركية على أن تصير جنونا (ما دام جنون، تفويض أحدهم السلطة، والقانون)، فلأنها شيدت المعبد، بجوار المنزل. هكذا ألزمت الجميع بالتساوي أمام طرف ثالث. تبعا لهذا السياق، اشتغل أوديب على نحو ممتاز، بما أن الطفل، كيفما تجلى التوتر بينه وبين أبيه، يصبح حارسا للتاريخ واسم السلف، مع تحصينه أيضا للمساواة أمام الله. ثم تغيرت المعطيات جراء الثورة الصناعية: أولا، لم يعد للأب تقريبا شيء ما في حوزته لتبليغه، وتوقف المنزل على أن يكون ورشا، بدأت الأم تشتغل في المعامل، ثم تجزأت الأسرة إلى مجتمعات. انتقل إطار الأسرة من المجتمعي إلى الدولة، والحال أن الأخيرة تقيِّد السلطة الأبوية. أدى هذا الفراغ المطلق إلى ذيوع صيت المحلِّلين النفسانيين، بحيث انصبت وظيفتنا على ردم هوته. خلال تلك اللحظة، بدت العائلة منقسمة إلى أفراد لا شيء يجمع بينهم (لا اعتقاد مشترك، ولا إرث)، مما أوقد مفعول التوتر بين الأب والابن. حدث تاريخ إفلاس الآباء بكيفية لا تتخيل مع انهيارات القرن العشرين: المعسكرات، الإبادة: فقد عاين الأطفال وقائع لم يتخيلوا قط رؤيتها. عثرنا على عقدة أوديب- اكتشاف فرويدي- حيث كان الأب هنا، لكنه لن يستمر فعلا طويلا. انطلاقا من وجهة النظر هاته، نقف إذن عند نهاية التحليل النفسي.
س- بالنسبة إليكم، تمثل نهاية عقدة أوديب نهاية التحليل النفسي؟
مصطفى صفوان: في كل الأحوال، نهاية للقضية التي كان موضوعا للتحليل، غاية الآن، سواء من وجهة نظر علاجية وأيضا تعليمية: في كل الأحوال، عرفنا فشل مجموعة تحاليل أوديبية، وكذا حالات أخفقت معها التسوية الأوديبية، لأسباب جسيمة تقريبا...
س-في نهاية الكتاب، أكدتم بنوع من الريب الساخر بأن النظرية، ستظل، في عداد التراث الفكري، لكن فيما يتعلق بالممارسة فالمسألة تأخذ أبعادا أخرى.
مصطفى صفوان: آخر ما يتبقى، وسيتحقق ذلك حينما يمضي (تعبير جاك لاكان)، يكمن فعلا في النظرية ثم التي شددت على الكائن المتكلم. لقد غيَّر لاكان جذريا عقدة أوديب من خلال تعريفه للرغبة برغبة الآخر وجعل من الآخر مجالا للغة، حيث تشغل المكانة الأولى.
س-تقودنا أهمية الكائن المتكلم إلى سؤالي اللغة وكذا الترجمة. لقد ترجمتم إلى العربية الكلاسيكية "تأويل الأحلام" لفرويد. فكيف تنفتح اللغة على نموذج أفكار التحليل النفسي؟
مصطفى صفوان: تنطوي الوقائع، التي قادتني نحو ترجمة هذا العمل على المفاجئ واللامنتظر. ذهبت إلى قضاء عطلة في مصر شهر دجنبر 1953، تحديدا بعد الجلسة الأولى للجمعية الفرنسية للتحليل النفسي، لحظة انقسامها. وضع، عاينت قبل ذلك، كل الدراما المصاحبة لحيثياته، انتهاء بالانفصال صحبة فريق جمعية التحليل النفسي بباريس. نظَّم لاكان أولى حلقاته الدراسية في سانت-آن. سافرت إذن إلى مصر قصد الاشتغال ثانية ثم حدث الانقلاب العسكري بزعامة عبد الناصر، سياق جعل العمل مستحيلا تماما، فلم يكن في وسعنا شراء كتاب واحد، إضافة إلى انعدام أي إمكانية للحصول على تأشيرة قصد مغادرة البلاد. الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك، اقتضت العمل في الجامعة على امتداد خمس سنوات، مما يمنحني الحق في عطلة دراسية وبالتالي إمكانية الحصول على تأشيرة الخروج. هكذا انتهزت تلك المساحة الزمانية المتاحة أمامي قصد الانكباب على ترجمة فرويد. تواجد غريماس في مصر وتقاسم مع شارل سانجفان اهتماما حقيقيا بالتحليل النفسي وكذا كتابات لاكان حول اللغة. لذلك، أسسنا فريقا، انتسبت أيضا إلى مشروعه المؤرِّخة اليوغوسلافية هيلد زالوشير، المتخصصة في الفن المصري المسيحي، لاسيما رسومات منطقة الفيوم. تابعت دراساتها في جامعة فيينا، وذهبت عند فرويد، وقد ساعدتني كثيرا على مستوى اللغة، لاسيما كي أفهم بعض مصطلحات فرويد المتداولة كثيرا. ثم، بفضلها، استوعبتُ إيقاعا، أقصد اللغة الألمانية المنسابة كالماء من النبع. شرعتُ في الترجمة ساعيا إلى بلوغ نفس الانسياب على مستوى اللغة العربية. لذلك اختبرتُ في الصالون الذي يشرف عليه أبي، الحكايات التي رواها فرويد، بحيث استعرضتُ مثلا حكاية الإنسان الذي يقدم لك قنينات تحدث تسمما، وحينما أرى أصدقاء أبي يبتسمون قائلين: ''بالضبط مثلما يحدث عندنا''، لحظتها أدرك بأني بلغت هدفي. تعتبر هذه الترجمة لـ''تفسير الأحلام''، أكثر أعمالي تسويقا في العربية، من بيروت إلى المغرب. مع ذلك لم يصلني من إيراداته فلس واحد. أصدرته دار المعارف، التي أسسها مسيحيون موارنة في لبنان، الذين أنجزوا أولى المعاجم الحديثة الكبيرة. بعثت رسالة إلى آنا فرويد كي أخبرها بأن النص أصبح أخيرا متوفرا في اللغة العربية. تفاعلها الوحيد بهذا الخصوص، التماسها من هوغارث برس الحصول على حقوق المؤلف.
س-ألم تتلقون أي جواب، من طرف آنا فرويد؟
مصطفى صفوان: لا، والصدى الوحيد الذي وصلني منها، ما أشرت إليه؟ بالعودة إلى ظروف تلك الترجمة، أقول بأني لم أصادف إشكالية على مستوى الأسلوب أو المعجم، بل بدا كل شيء متعلقا بالنبر، ما دامت كل حكاية في كتاب "تأويل الأحلام" ميزتها نبرة معينة. تقوم العديد من العناصر الملموسة التي يلزمنا الاستناد عليها. قفزت فقط إلى السطح، صعوبة وحيدة تمثلت في الترجمة المناسبة لمصطلح "التمييز": اقتضى السياق إبداع الكلمة على مستوى اللغة العربية. منذ ترجمة هذا الكتاب، بادر كثير من المختصين النفسانيين إلى إنجاز قاموس عربي حول التحليل النفسي. بينما، انعدم أي شيء بهذا الخصوص، حينما شرعت في ترجمة هذا العمل. كلمة ''وعي'' غير موجودة في العربية، ولا أيضا ''اللاوعي". بل تداولنا كلمة تتوخى بالأحرى الإشارة إلى ''شعور". لذلك وثقت هوامش تشرح المفاهيم الجديدة على العربية. لكن يتجلى خاصة وقع الغياب مع مفهومي ''وعي'' و ''لا وعي"، وكذا مختلف تشكيلة المصطلحات المتبلورة انطلاقا من مفهوم ''الوعي": الوعي بالذات، اللاوعي… للحقيقة، وجبت الإشارة إلى أن كلمة ''ذات'' نفسها غير موجودة في العربية، اللهم ما يتعلق بمعنى الفاعل عند التأويل النحوي، لكننا نستعمل كلمة تتوخى الدلالة عن ''أول الجملة''. غير أن''الأول'' لا يعني ''الفاعل"، وقد وظفتُ الكلمة التي تشير إلى "مثل هذا" أو "نفسه".
س-هل قرأتم فرويدا إبان فترة دراستكم؟ بأيِّ لغة؟
مصطفى صفوان: لقد عشتُ دائما في خضم أجواء وسط أدبي جدا:غمرتنا الحروف. كان محيط أبي روحيا للغاية، وأظهر أصدقاؤه على شاكلته شغفا بالنصوص العظيمة للأدب العربي الكلاسيكي، بالتأكيد بناء على محددات ردة فعل صوب الاستعمار الإنجليزي. لكنهم انفتحوا على العلوم الأوروبية، لا سيما الجديدة. أيضا، ميزتهم أكثر من الموسوعية، تلك الإبداعية المنسابة عبر كلماتهم الجيدة. لقد وسمت تلك الحقبة لفظة يصعب جدا ترجمتها (عصر الظرفاء) التي تضم دلالتي ''المثقف" وكذا "الشيطان''. ذات يوم (كنت في سن يتراوح بين العاشرة والثانية عشر)، فتح أحد أصدقاء أبي مظلته والشمس في عزها. لحظتها أبدى شخص ثان استحسانه بكلمة أثارت قهقهات صاخبة. لم أفهم علة ذلك سوى عندما أدركت بأن اللفظة تحيل إلى أصل ثلاث صوامت، تجمع في العربية المحلية، بين معاني الظل والخطأ. وقال شكرا بطريقة ملتبسة: كي يوفر لنا الظل ثم يضلِّلنا في نفس الوقت. إذن، تأثرت تربيتي كثيرا بكلمة الفكر ثم البعد الثنائي للمعنى. كان لدينا خلال تلك الحقبة مترجمين موهوبين. فيما بعد، قوض النظام الناصري وجود هذه الطبقة الفكرية والروحية.
س-بخصوص تطرقكم لسؤال غياب الحرية في العالم العربي، وصفتم ميكانيزمات الهيمنة. وأوضحتم بأن العالم العربي ليس حرا، جراء إرغام مضاعف: نتيجة الانفصام بين اللغة الكلاسيكية، والكتابة، ثم اللغة العامية، الوضع الذي استعصى معه بل استحال، نفاذ غير المثقفين إلى الثقافة الدينية والعالِمة؛ ثم بسبب هيمنة الغرب، مثلما فسرتم ذلك جيدا في التقديم المعنون بـ''أسباب الهيمنة الغربية'' لترجمة كتاب إيتيان دو لابويسيه ''خطاب في العبودية الطوعية''، نص استُثمر مرة أخرى كفصل أول لكتاب "لماذا العالم العربي ليس حرا". هل ترصدون بحسبكم الاضطهاد في قلب اللغة أو أن الاستعباد ناتج عن استعمالات اللغة؟
لا أرى سببا يجعل اللغة متعسفة في ذاتها. بل يتأتى ذلك لحظات اعتمادها اعتمادها. كتب الفراعنة، باللغة التي تكلموها. أما خلال فترة الإسلام، فقد تفاقمت قطيعة الكتابة، بحيث شرعنا في كتابة لغة القرآن على حساب لغة الكلام المتداولة. هكذا، تقدست اللغة. اليوم، لا يقبل أيّ نظام عربي (من العربية السعودية إلى المغرب) تدريس اللغة المتكلَّمة: وحدها لغة الإله تحظى بقواعد. في نفس الوقت، يضمن هذا الوضع السلطة السياسية، مما يلائم الغرب حقا. بالنسبة لنا في مصر، أقلية ضمن صفوف الشعب من تستطيع قراءة الجريدة، في ظل هيمنة خيلاء الفكر الديني. قال أحد الليبيين: "كم الوضع رائع، فقد صنع الله كل هذا (الطائرات، آلات التنظيف، المنازل) حتى نستمتع…".
س-ترجمتم أيضا عطيل إلى العربية المحلية المصرية. ما الذي يضمره هذا العبور عبر اللغات إلى عملك التحليلي؟ لماذا عطيل؟ هل بوسع اختيار من هذا القبيل الاهتداء بنا صوب سؤال المرأة وكذا الأنوثة: فيما يتعلق بالرافد الثقافي، وضع المرأة في العالم العربي، ثم رافد التحليل النفسي، حين استحضار إشكالية الجنسانية النسائية وأبعد من ذلك.
مصطفى صفوان: وقع بالتأكيد اختياري على عطيل لأن الشخصية عربية وتحمل اسما عربيا. فضلا عن ذلك، بدا لي من السهل اقتفاء آثار الموضوع مقارنة مع المسرحيات التاريخية لشكسبير. استحضر هاملت عالما ثقافيا مختلفا جدا. أردت ترجمة عطيل إلى لغة مألوفة، كي أقدم الدليل على أنه بوسعنا إبداع أدب من جوف هذه اللغة،التي تبلورت فقط بهدف شتم الجيران! كانت النتيجة كارثية لأنه لا شخص يقرأ في هذا البلد، وبالتالي لم يروج الكتاب تجاريا. تم تقديم العرض المسرحي، لكن مشهد الزواج جسدته رقصات البطن، إلخ، بكيفية مثيرة للسخرية تماما. جذب اهتمامي في هذا المسرحية، وضعية المرأة، وكذا إشكالية الغيرة. في مصر، يعود تاريخ خروج المرأة من البيت (المرأة البورجوازية) إلى سنوات 1920 تبنت نوال السعداوي قضية الحركة النسائية، لكنها اصطدمت بعراقيل كي تشكل حركة حقيقية ما دام المصريون يفتقدون إلى تقاليد العمل المشترك. تمنع الدولانيَّة العمل الجماعي. لكن على أية مارست السعداوي كثيرا من التأثير. نلاحظ، حاليا وجود نساء في مختلف القطاعات. هناك تحرر، لكنه لا يلمس سوى طبقة واحدة، الأكثر تشبعا بالغرب. في الأرياف، وإن اشتغلت المرأة دائما، فقد توطد الانفصال بين النساء والرجال. وضع اشتد وقعه مع ارتفاع نسبة البطالة. أما بخصوص المعطى الجنسي، فبالتأكيد يظل المجتمع المصري نرجسيا، يعرف انتشارا واسعا للتحرش الجنسي. يتجلى في هذا الإطار اختلاف هائل بين مصر ولبنان. فلبنان أكثر ازدهارا، بطالة أقل وتعليم أكبر، يسود داخله فكر الحاضرة. بينما تأخذ الحقائق في مصر، منحى أكثر عنفا، ويعود حتما مصدر ذلك إلى الجهل الثقافي والبطالة.
س-لكن ماذا عن فرنسا؟ والتحديات التي تطرحها تحولات العائلة؟ كيف يتموقع اليوم التحليل النفسي اليوم قياسا لهذه التحولات المجتمعية، ثم إشكالية زواج المثليين، وتطلعهم إلى تبني أطفال؟ تعرفون مثلما أعرف إلى أي حد يخلق هذا السؤال سجالا في وسط التحليل النفسي، لكنه، في نفس الوقت، يعتبر سجالا مغلقا ومنتهيا.
مصطفى صفوان :المتغير، ما يسمى بيد السوق اللامرئية التي ضمت الطفل. أصبح الأخير مجرد شيء ميركنتيليي. يشترون الحيوان المنوي، البويضات، ثم الأم الحاملة…هذه الصناعة، التي أضحت سلفا ذات أهمية بالنسبة للسوق العالمية، غيرت مجرى رهانات التحليل (والعدالة أيضا)، وكذا مختلف ما أنجزته الثقافة. بوسعنا التأكيد على وجود أمر معين لاعلاقة له بالثقافة: انحدار الطفل من بطن أمه. إقرار الأب، يشكل فكر الثقافة نفسه. حينما يصبح الأب قابلا للإثبات البيولوجي، نغادر دائرة الاعتراف، إذن نحوِّل الثقافة بعمق. القاضي نفسه لا يعرف هوية الأب: هل الذي اعترف بالطفل أو الذي أثبت ذلك بيولوجيا؟
س-هل يأخذ الأطباء النفسانيون بعين الاعتبار هذا التحول؟
مصطفى صفوان: بالعكس، يلتزمون بالصمت. ويواصلون كما لو أن العالم الخارجي لم يتغير منذ فرويد. هناك سجال صامت جدا بين القائلين بضرورة الالتفات للتحولات الاجتماعية ثم فريق ثان يجزم بأنه لا شيء تغير. أندري غرين، يبقى الوحيد الذي انتبه أساسا إلى ظواهر تلك التحولات المطروحة على عمل المختصين النفسانيين. بحيث لم يعد الخطاب مكتفيا فقط بالتوجه إلى المصابين بالعُصاب، والرهاب، والوسواس، والهستيريا، لكن أيضا حالات مغايرة، مثل الإنسان الذئب، بمعنى محللين ومحللات، قد تنتابهم أزمة اضطرابية إبان عملهم. لدي بهذا الخصوص تصور مفاده: ينتفي مع الحالة المرضية المغايرة، كل استئثار باسم الأب، بل يتجلى ذلك على مستوى المجاز الأبوي، مما يعني حضور الاندماج ضمن النظام الرمزي. في عصر أوديب، اتسم أب الرجل الذئب بكونه سوداويا، غائبا؛ بحيث لا يمكنه التبلور كدال عن عن الرغبة الأمومية. هكذا، محددات نظريتي حول الحالات المرضية المغايرة. صائبة تماما، إشارتكم إلى لامبالاة بعض المحللين النفسانيين. بدعوى أن البنيات لاتتغير قط وبأن مرضى العُصاب والذهان أو الانحرافات لن يتغيروا بدورهم، بالتالي ليس من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار تحولات العالم. بما أننا نحن جميعا أطفال نفس الحقبة، ألا يمثل جانب كبير من المحللين النفسانيين أنفسهم، حالات مرضية مغايرة.
س-في كتابكم، ربما بدت نقطة تقنية جدا، وهي بحسب اعتقادي ليست فقط تقنية: أكدتم عدم وجود نهاية للتحليل.
مصطفى صفوان:عند تبلور لبنات عمل، ينبغي التفكير حقا بأنه يتجه صوب وجهة ما، لكن أين؟ بهذا الخصوص، توزعت الآراء. بالنسبة لميلاني كلاين، يذهب نحو تحمل الانفصال. في حين أقام جاك لاكان تمييزا، بين الاكتئاب العَرضي وكذا الحزن الأصيل. قد يتجلى ذلك أيضا عبر تحمل الوجود من أجل الموت، مع ذلك تكمن النهاية أخيرا في الخصاء الرمزي، وبغية الوصول إلى هنا يلزم اجتياز شيء يسمى الاستيهام الأساسي. سيهيمن جانب من هذا النوع، حسب الشخص الخاضع للتحليل، وكذا تاريخه. هناك ربما نهاية أخرى، وهي انهيار الذات المفترض أنها تعرف، انهيار من أتخيل بأنها ستقول لي من أنا. بالتالي، هناك نهايات، لكن فكرة الاهتداء بتحليله غاية النهاية تعتبر قضية خاطئة. يمكننا من جهة ثانية أن نحصي بأصابع اليد الواحدة حالات تمكننا من القول بتحمّل الوجود من أجل الموت حيث أو اجتياز الاستيهام الجوهري.
س-أين نحن اليوم من العابر، الإجراء الذي أبدعه جاك لاكان وأقر فيما بعد بفشله؟ فما موقفكم من صيرورة هذا الإجراء؟
مصطفى صفوان: تمثلت فكر لاكان عن العابر بالخروج نهائيا من الخلاف الناشئ سنة 1926، حول إشكالية التحليل الدنيوي، التحليل الممارس من طرف غير الأطباء. بالنسبة لجاك لاكان، كانت علمية التحليل النفسي أفقا والعابر وسيلة لإدراك ذلك: العابر بمثابة جواب للتحليل النفسي عن سؤال تكوين الأطباء النفسانيين ومن ثمة ذلك المتعلق بالإيصال. التحليل النفسي التعليمي الذي يتحقق بواسطته الانتقال، لايستند على أيّ دبلوم، أو إجراء مؤسساتي خارج التحليل النفسي. أراد لاكان تميزا حقيقيا للتحليل النفسي عن كل صيغة كهنوتية، من هنا المقدمة التي أنجزها حول أهمية الرغبة، رغبة المحلِّل كنقطة نهاية للتعليمي وبالتالي مختلفا عن رغبة أن تكون محللا نفسانيا والذي ربما أظهرته ذات معينة حين بداية التحليل. كان جاك لاكان، أول من أدرك بأن رغبة المحلل النفسي تحل محل نظام الحقيقة، وقد استخلص الدرس شهر يوليوز سنة 1978، من تجربة العابر مؤكدا على تعذر نقل التحليل النفسي. لم يعط تفعيل العابر، بلورة معينة للمعرفة، في إطار مدرسة فرويد الباريسية للتحليل النفسي بين سنوات 1968 و1980: جاءت الحصيلة سلبية، من هنا رأي لاكان بأن العابر شكل''إخفاقا"، بحيث لم يقدم أيّ جواب عن المبررات التي يمكنها تحفيز محلّل على تعاطي هذه ''المهنة المستحيلة'' المعروفة بالتحليل النفسي، من هنا الخلاصة الثانية لجاك لاكان والتي مفادها أن العابر لاجدوى منه بالنسبة للتحليل النفسي. الفكرة لامعنى لها، لأنه ينبغي ضمن إطار التحليل، إنهاء الورش الناجم منذ الوهلة الأولى عن إخفاق التطبيع. لأن مايفعله العُصابيون، أن الإسقاط يلحق على أية حال ضررا بالذات. أريد القول بأنه يمكننا إنجاز عمل حول التعاسة الثقيلة التي تقود إليها إغراءات العطاء، تبعا لجل ماينطوي عليه اقتراف الخطأ. يتجه البحث صوب تغيير الأسلوب الوجودي للذات، وإمكانية جعلها تتواجد كي لاتكون لها سلطة على رغبة الآخر.
س-الأمر الذي لم يفهمه عطيل…
مصطفى صفوان: وفق مقتضى الرغبة، يبرز العطاء دائما باعتباره قابلا للقياس ومهتما، وبدا مواجها صغيرا للرغبة. سيطر على عطيل عُصاب التملك وكذا السيطرة المطلقة. من لدن الرافض أن تكون الرغبة عطاء.
س-ربما مرة أخرى الالتجاء إلى لغات أخرى، يعكس إحدى أساليب الصراع ضد العقلانية المختزِلة. لقد دمجتم مصطلحات عربية في كتابكم حول التحليل النفسي. مثلا، عبرتم باللغة العربية عن قوة مصطلح مثل"المريد"الذي يعني التابع، ثم يؤكد حرفيا دلالات ''الراغب"و"المتطلع''. هل تؤمنون بإمكانية تغيير هذه المصطلحات العربية للغة العقل، ومدى جدواها قصد التفكير بكيفية مختلفة؟
مصطفى صفوان : التلميذ، الطالب، هو في الواقع من يريد. يقال هذا خاصة حينما نخاطب أستاذا. وبالنسبة ل''المريد''، هكذا تجلت طبيعة وضعيتي في علاقتي بجاك لاكان. لقد انصب اهتمامي على اللغة واللغات. عندما غادرت مصر، رغبت في الذهاب إلى كامبريدج قصد لقاء فتجنشتاين. بيد أني أتيت إلى باريس، فأصابني العُصاب بسبب انتفاء علاقات وثيقة مع الأساتذة. أخيرا، اقتادني حظي لممارسة التحليل تحت إشراف مارك شلومبرجر. كنت صديقا لمصري أراد إنجاز أطروحة موضوعها اللغة عند هوسرل. وبفضله التقيت باشلار، الذي تكلم ذات يوم عن طبيب نفساني لم يحظ مثلما ينبغي بالمكانة التي يستحقها، يقصد بحديثه جاك لاكان. هكذا توجهت سنة 1947 إلى جمعية التحليل النفسي الباريسية، وعلى الفور أثار لاكان اهتمامي، لأنه الوحيد الذي تكلم عن اللغة؛والكلام، بالتالي بدأت أومن بأن هناك شيء وجب القيام به في فرنسا. يتكلمون داخل فضاءات العالم الأنغلوساكسوني، عن اللغة وليس الكلام. التمست منه إشرافا، فبادرني بالسؤال عن أصلي، وحينما أجبته أن أبي تواجد داخل أسوار السجن حين ولادتي، عَقَّب على كلامي بكيفية ودية جدا: "إذن تربيتم في أحضان النساء"، أخبرته بالنفي، بل وسط حشد من الأعمام. لقد استفدت كثيرا من لاكان مقارنة مع الجميع. بالنسبة إليه، جل مايسمى اختلافا، مهما تجلى موقعه الاجتماعي، يعتبر مفيدا. يستمد كل واحد منا ثقله من كلامه. لم تكن لدى الجانبين، أي أطروحة للدفاع عنها.
س-ألم تحتجزه صعوبات مدرسته غاية نهاية حياته؟
مصطفى صفوان : نعم، بالتأكيد. لقد أراد محللين استطاعوا التخلص من التحليل النفسي أو السلوكية. أصبح لاكان مناضلا. في حين لايمكن أن تكون محللا نفسانيا ومناضلا. يصعب ممارسة التحليل نفسي تحت سطوة رغبة معينة. صار ضحية لقضيته. حلمه المتطلع نحو مدرسة خالصة للتحليل النفسي تسامت عن مختلف التأثيرات المؤسساتية، ومناوشات السلطة، وكذا سائر مفعولات الوقار، وأن يشتغل باعتباره حقا حلما : حاول لاكان أن يثبت بوسائل عدة سلطة، ونفوذا آخر غير الذي يسوغه له مشروعه وكذا درسه، مما أحدث مقاومة وصراعات داخلية. تكمن حتما صلة بين هذا الفشل ثم النتيجة المتمثلة في تفكك مدرسته، يعني انقسام متواصل بين المجموعات، الجمعيات، المدارس، حيث يجتمع أعضاؤها دوما حول مرشد وقائد يفترض بأنه يوجهها نحو فردوس معين.
*مرجع الحوار :
En Attendant Nadeau : numéro 32. 9 Mai 2017.