منذ انطلاق حملة فيروس كورونا الكونية؛ انكبت مختبرات العالم على إجراء أبحاث لإيجاد اللقاح الواقي منه، ورصدت مئات مليارات الدولارات مع مختلف العملات لمعركة التصدي له، والتقليل من خسائره البشرية والاقتصادية وحتى النفسية، وبعد أقل من سنة تم إنتاج اللقاح واستبشرت الأمم خيرا لتحقيق أمل العودة إلى الحياة التي كانت قبل الحرب، ويبدو أن البشرية في سبيلها الى ذلك.
الفلسطينيون أصابهم فيروس كوفيد 19، كما أصاب غيرهم، فمات منهم من مات وشفي من شفي، وكثيرون أصيبوا به دون أن يشعروا وتخلصوا منه دون أن يشعروا كذلك، ومثلنا مثل كثيرين من فقراء العالم ننتظر اللقاح بعضه نحصل عليه بالشراء وبعضه الآخر بالصدقة، والمسعدون منا وهم قلة قليلة حصلوا عليه بطرق متعددة، ومثل باقي شعوب العالم الفقراء والأغنياء سنتخلص من هذا الفيروس أو سنتأقلم معه أو سنتحمل أذاه كما لو أنه انفلونزا، ويشجعنا على الاعتقاد بذلك أن جائحات عديدة مرت علينا منذ قديم الزمان وأخذت من أخذت وأبقت من أبقت، وها هو جيلنا يسمع عنها ممن نجوا منها مع تعديل في الحروف فبدل الكوليرا يقول الأجداد "الكوريرا" مع الاعتذار للروائي العبقري ماركيز صاحب الحب في زمن الكوليرا.
نأمل أن تنزاح عن قلوبنا وعقولنا وهواجسنا جائحة القرن الحادي والعشرين، كما انزاحت كل الجائحات التي غزت بلادنا بما فيها الاحتلالات الأجنبية، غير أن للفلسطينيين فيروسا خاصا بهم أنتجوه وتغلغل فيهم ومنذ بداياته القديمة حتى امتداداته الحديثة لم يفلحوا في إنتاج اللقاح المعالج له أو الواقي منه، رغم آلاف المختبرات التي أسست تحت عنوان التخلص منه ورغم المليارات التي أهدرت للإنفاق عليه ورغم الضحايا الكثيرة التي جرفها في طريقه بشريا ونفسيا ومعنويا والأدهى وأمرّ سياسيا وحقوقيا.
هذا الفيروس الذي ليس مستجدا بل مستبدا، أقيم من أجل الاحتفاظ به والاستمتاع بصداقته أحزاب وتشكيلات بمسميات مختلفة، أنتج بلاغة لغوية فيها نمط متفرد من عبقرية التعامل معه، ولكي لا أطيل أكثر أدخل مباشرة إلى الموضوع لأعرّف فيروسنا باسمه الحقيقي الذي هو فيروس الانقسام.
القائمة المشتركة وراء الخط الأخضر التي تغلبت على هذا الفيروس لفترة وجيزة من الزمن، شعرت بحنين لزمنه اللذيذ وطلبت من مختبراتها إعادة إنتاجه فاستجابت وأظهرت موهبة لا تبارى في استبدال اللقاحات وبدل الحفاظ على المقاعد التي أنتجها اللقاح المؤقت تم الحفاظ على الفيروس مع دفع تكلفة بلغت حتى الآن ثلث المقاعد إن لم يكن أكثر، ولأن الشيء بالشيء يذكر فالمشتركة هي من طينة وعجينة ودم ولحم هذا الشعب الذي عمر أحدث فيروس انقسام فيه 15 سنة، ورغم أطنان الأسبرين التي أخذت للتخلص منه أو التخفيف من آلامه وخسائره، ورغم عشرات الفنادق الفاخرة التي استضافت حلقات البحث لإنتاج لقاح التخلص منه، إلا أنه ظل مستقرا ليس في الأنوف أو الرئات وإنما في الخلايا والجينات إلى أن استقر القوم هنا وهناك وهنالك على "اللا لقاح"، أي مخاتلة الفيروس بدل القضاء عليه.
ومن أدبيات الفيروس الفلسطيني الذي هو الانقسام ما يبدو عبقريا في الظاهر ذلك حين تكفلت مختبرات اللغة في التعاطي معه فأفرزت ظاهرة غير موجودة إلا عندنا، لغة شديدة القوة في إظهار مزايا التخلص منه ولغة أشد قوة في مزايا الاحتفاظ به، وبين اللغة الأولى والثانية يواصل الفيروس الفلسطيني عمله بدأب، ويتحول عمل المختبرات إلى مجرد إحصاء للخسائر.