الحدث الثقافي
أخيرا رسالة من طرفكِ عزيزتي، غمرتني بالسعادة. بين الأولى وهذه، تتسكع الأيام، أرواح مكاني، وأفقد قليلا خطاي.
البارحة، قمت بنزهة كبيرة بالسيارة في مرتفعات آلبيل. مع حلول المساء يصبح جمال هذه المنطقة ممزقا. بحثت عنكِ هناك طيلة اليوم، شيئا ما على غير هدى، جراء ضغط الحاجة إلى حضوركِ. الأرض التي أحبها ماثلة هنا غير أن الكائن الذي أحبه يتواجد بعيدا. وبقدر انقضاء اليوم أحس بالتيه أكثر فأكثر ثم حينما شرع الليل يغزو منحدرات شجرة الزيتون وكذا نبات السرو، انتابني قلق مريع. عدت بهذا الحزن وأفضل أكثر عدم إخباركِ عن الأفكار التي غمرتني.
هذا الصباح، انتشلتني رسالتكِ من جوف هذا البئر الرديء. أبتهج حينما تقولي لي حبيبتكَ. أرتجف في نفس الوقت حيال اضمحلال مختلف هذا. لكني أستشعر فيما قلتيه نبرة أقنعتني. نعم، صحيح جدا أنه سيعود أحدنا إلى الآخر، ربما أكثر صدقا وعمقا. كنا في غاية الفتوة (ما زلت كذلك، مثلما ترين) ولم ندرك بعد مستوى من الشيخوخة يمنحنا إمكانية استخلاص عبرة تبعا لمختلف تجاربنا: هذا مدهش.
سأحاول الإجابة وفق تراتبية أخباركِ:
-أولا قبل كل شيء، لا تقلقي بخصوص مقالتكِ باللغة الاسبانية. لن يطلبوا منكِ شيئا أكثر من هذا. النص مباشر، مناسب وحماسي. ولكي أطمئنكِ، لقد ترجمته إليكِ بسرعة، ستلاحظين بأنه تميزه مسحة ''نضالية'' صغيرة.
- كيف بحق الجحيم عثر عليك جيرار، نانارد كوسي، صحفيي بول رافي.
فيما يتعلق بالأخير، أي بول رافي فقد خلقت لدي حكايته انطباعا مضجرا. لا يجدر بالمرء وضع نفسه في خضم مواقف شبيهة. لكن لا يمكنني إهانته. رجل يمتلك مواهب عدة ثم يبذرها نتيجة عُقد عبثية. تبدو لي حياته الشخصية فشلا فظيعا. لذلك قام بما يفعله بهذا الصدد الأشخاص الذين يتصفون بحساسية وهشاشة: لقد منح مشاعره موضوعات وعرة حتى لا يؤسس ثانية المجازفة بفشل جديد. أدخل الأدب في إحساسه نحوك: بهدوء، لم يتجه تفكيره قط إلى إمكانية امتلاكه حظا يسعفه للحصول عليكِ، قناعة تغذي وهمه بشكل أفضل.
لكن حينما يكون شخص في مقام عمره وكذا مستوى تأمله المخصص للأدب، فوضعه يمثل علامة على تعاسته. إن كان أمره كذلك، ففي نهاية المطاف، يثير الرأفة.
على الأقل فيما يخصني. أنتِ، لا يسري عليكِ نفس المعطى وأستوعب مسألة نفاذ صبركِ. ولا مبرر لكثير من تأنيب الضمير. إذا كنت ما أعتقده صحيحا، فإن ما قلتيه لبول (Paul) رافي : 1- لن يتعلم منه أيَّ شيء، و 2- لن يحبط همته.
يكفي بخصوص هذا الموضوع.
سأبعث لكِ التعديلات المتعلقة بدوركِ في المسرحية (2). أرسلتها بداية إلى باريس من أجل طباعتها. لقد أحدثت في الواقع تغييرا أثرى النص بدور جديد. بحيث أضفت إلى باقي مشاهد المسرحية مشهد القاضي واستحضرت بهذا الخصوص شخصيتكِ. هذا يمنحكِ اشتغالا مضاعفا ثم يضفي على باقي تفاصيل المسرحية مظهرا للمعقولية. أيضا إلى جانب دوركِ، أجريت تعديلات أخرى.
مع ذلك، جل ما أقوم به هذه اللحظة يشعرني بالاشمئزاز. لا سيما وخاصة مع مسرحية الحَبْل (عنوان لا يزال مؤقتا). لحسن الحظ تمكنت من العثور بفضلكِ على وسيلة تنتشلني من هذه الحالة. أقصد ما سمعته منكِ يشجعني للكتابة إلى هيبيرتو كي أخبره بأني لست متأكدا من استعدادي. هكذا سيكون أمامي متسع من الوقت والقدرة ربما حتى أطور العمل إلى المستوى الذي أريده. فشكرا لكِ، عزيزتي.
سأعود على متن السيارة يوم العاشر. سأصل إلى باريس يوم الحادي عشر(سوى في حالة حدوث عطب). إذا رغبتِ أن ألتحق بكِ في بلدة جيفرني أو بريساني، فأخبريني بذلك. غير إشارة منكِ، نلتقي إذن في باريس: هناك أتصل بكِ هاتفيا حتى أعرف وجهة انضمامي إليك. ربما لن يكون لديكِ الوقت كي تعايني صالونات منطقة شيفروس (chevreuse). لكننا سنسألهم عن ملاذ مؤقت (وأنا أكتب هذه الكلمات، يهتز الصُّدْغي). طبعا، سأترك لكِ حرية التصرف في تأثيث ما يحلو لكِ. أربعة جدران مغلقة وأنت، ثم هاهي مملكتي. ديكور الجدران الأربعة، سيلهمني ملامح أخرى عنكِ.
سعيد أنكِ بصدد قراءة رواية ''راهب القرية''. عمل بلزاك المفضل لدي: السمو الحقيقي. وفيما يخص الكاردينال دي ريتز، فما قلتيه جعلني أفكر. قرأته منذ فترة بعيدة: أحببت تهكمه، وذكائه القاسي. لكن في نهاية المطاف، أعرف بأن روحه بذيئة جدا. ردة فعلك المباشرة دفعتني لإعادة قراءته. مخفق ! ممكن فعلا . همنغواي؟ جيد بالنسبة إليكِ. بالتالي، لماذا قراءة هؤلاء الغشاشين المفتقدين لأيِّ عبقرية؟
أحتفظ إلى النهاية بشيء لا يمكنني تحديدا إخباركِ به. لكن الليالي حارة هنا وأجلس أحيانا عند شرفة النافذة استنشق الهواء وأهدئ الدم المتدفق سريعا جدا. أبوح لكِ باعترافات حتى نستيقظ في نفس الوقت، نلتئم من خلال رغبتنا عبر آلاف الكيلوميترات التي تباعد بيننا. لا شيء أكثر جمالا، وأنفة ونعومة من شوقي إليكِ…
لكن، ينبغي أن أتوقف هنا. الوقت متأخر وأتمنى لكِ ليلة سعيدة.
قبل ذلك يلزمني أن أشكركِ من عمق قلبي، جراء السعادة التي أنعم بها معكِ.
إلى اللقاء، إلى اللقاء، أيتها المتوحشة، يا جميلتي… كمْ أقبِّلكِ !
هامش :
(1)ترجمة نص ماريا كازارس من اللغة الإسبانية :
"أتوجه إلى كل الذين منذ اليوم الأول لمغادرتنا نحو المنفى أبدوا نحونا ألفة أخوية، وترحيبا ودودا ودعما فعالا وعفويا. أخاطبهم مرة أخرى لتذكيرهم بأن الأمور لم تنته بعد وأنه إذا كانت حرب الاسبان ربما استنفدت موضوعها بالنسبة للبعض إن لم يكن قد طواها النسيان، لا زال الضحايا الذين خلَّفتهم، رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا ومنفيين، وقد تفرقت بهم السبل في مختلف البلدان التي قبلت استضافتهم، يكابدون غاية الآن تراجيدية حقيقية.
راهنا، مآسي العالم قاطبة كبيرة جدا وضخمة للغاية، تتضاعف بوتيرة معينة إلى درجة أنها تنزع قدرة التأمل عن الذي توخى الاهتمام بمجرد قضية واحدة أو كذلك جانب جزئي من الأحداث. يرتكز دورنا على تعضيد إرادتنا دون مهادنة وعدم نسيان أي شيء ونبقي عيوننا باستمرار مفتوحة حول التصرفات الكبيرة التي رأيناها وكذا ما يتعلق بالنكبات الماثلة، مباشرة أو بكيفية غير مباشرة.
لا تنسوا قط ! لا تنسوا أبدا أن الذين ألتمس دعمكم لهم، كانوا أول المنخرطين للنضال من أجل الحرية ثم تواصل سعيهم، دون توقف.
لا تنسوا مهما حدث، بأنهم في حاجة اليوم لمساعدتنا، فلأنهم فضلوا بؤس وكذا إذلال المنفى عن عبودية الديكتاتورية السائدة في بلدانهم.
تذكروا دائما، استمرار الحرب، رغم كونها خاملة، وبأن كل واحد من هؤلاء الأشخاص ضحى تقريبا بحياة السعادة، والسلام والهناء في سبيل عدم انحداره نحو الانحطاط متمسكا بحقوقه كانسان حر، أمام العالم وفي علاقته مع ذاته أيضا.
إذن، ساعدوهم بخصوص الآثار الكبيرة للمخططات التي تبنوها، وانقطعوا إليها، ساعدوهم معنويا وماديا، ساعدوهم على أن يعيشوا ذلك بمختلف الأشكال.
لاتنسوا أبدا".
مسرحية حالة الطوارئ.