تنص الفكرة الشائعة على أن الديمقراطية شفافة، وتتصف بأن دولتها ضعيفة، بينما الأوتوقراطية تتصف بجهاز دولة كبير، وتتسم بنزوع شديد إلى إخفاء المعلومات عن الناس. فالدكتاتور يميل إلى الكذب وإلى الهيمنة على وسائل الإعلام من أجل تضليل الناس، بينما تكفل الحريات المتاحة في الديمقراطيات تنوع الأصوات ووجهات النظر المطروحة. ولا تستطيع الحكومة أن تخفي المعلومات بسبب وجود الصحافة الحرة التي تكشف أية انتهاكات في ظل غياب الرقابة، وهو ما يزيد من قدرة الإعلام على معالجة الظواهر المختلفة ووضعها بأبعادها المتباينة أمام ناظري الجمهور.
نريد أن نوضح هنا أنه على الرغم من المظاهر، فإنه من المرجح أن العكس هو الصحيح. ذلك أن الأوتوقراطيات بمعنى من المعاني عاجزة تقريباً فيما يتعلق بقدرتها على التلاعب بوعي الناس. وعندما يحاولون في الأوتوقراطية أن يخفوا شيئاً، فإنهم "ينجحون" في الواقع في دفع الناس إلى طلب "الحقيقة" بالسبل الممكنة كلها. وإذا ما فشل الناس في الحصول على المعرفة التي يطلبون، فإنهم يجنحون إلى تصور أسوأ السيناريوهات فيما يخص الأمر الذي تحاول السلطات التستر عليه. وغالباً ما يصل خيال الجمهور إلى مستوى متطرف يقود إلى تشخيص الوضع بأسوأ مما هو بالفعل.
لكن غالبية البشر عموما يعتقدون أن الديكتاتورية تتفوق على الديمقراطية في المقدرة على التلاعب بالناس. والسبب في ذلك هو أنه النظام التسلطي الذي يضرب جذوره عميقاً في الاقتصاد، ويغدو كل شيء سياسياً، كما أن المبادرات من القاعدة تصبح أصعب تطبيقاً من المبادرات من الأعلى. لذلك يجمع المثقفون الغربيون وإعلامهم على أن إبقاء الكوريين الشماليين في الظلام سيكون محالاً فيما لو كان المجتمع مفتوحاً.
لكن هل من الصحيح حقاً أن الناس في كوريا الشمالية يعيشون في الظلام؟ وإذا كانوا في الظلام فعلاً –بغض النظر عما يعنيه ذلك على وجه الدقة-، أليس المتوقع أن يقود عقد الانتخابات إلى وصول الحكومة ذاتها إلى السلطة؟ لكن هل هناك من يؤمن حقاً بأن انتخابات "حرة" في كوريا الشمالية يمكن أن تقود إلى النتيجة السالفة؟ من الواضح أن الجواب على ذلك هو النفي. وإذن ما هو الشيء الذي تنجح حكومة كوريا الشمالية في إخفائه؟ هل تنجح مثلاُ في إخفاء واقعة أنها تسيطر على الاقتصاد وعلى مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ بالطبع لا. ونرجح هنا أنه من الصعب بالنسبة للمواطن في المتوسط، أي المواطن العادي أن يفشل في ملاحظة أن الحكومة مسؤولة عما يحدث له إن خيراً أو شراً. إنه ببساطة موقف شفاف يتمكن فيه كل شخص من تقرير من يسيطر على صناعة القرارات التي تؤثر في حياة الناس. ولا يحتاج المرء إلى مساعدة غرامشي أو غيره من خبراء السياسة والمجتمع ليبين له أن دولة كوريا الشمالية –أو أية ديكتاتورية أخرى- لا تستطيع أن تتدبر أمورها بدون جهاز الدولة الإكراهي لأنها لا تتمكن عموماً من تحقيق حد معقول من الإذعان الطوعي الشعبي. وما من طريق أمامها إلا التعويض عن ذلك بممارسة قوة القمع الصريحة.
في السياق ذاته يناقش مفكرو الديمقراطية الليبراليون ثلاثة أشكال من القوة power هي القوة العنيفة force، والثروة، والمعرفة. ويميلون إلى القول إن القوة العنفية أو التهديد باستخدامها عن طريق وجود جهاز الدولة طريقة فعالة في دفع الشخص إلى فعل ما لا يمكن لها أو له فعله لولا حضور ذلك المؤثر. أما الثروة فيمكن لها أن تؤثر في الناس بمن فيهم الذين في سدة السلطة ليسلكوا بما يخدم مصالح الجهة التي تحوز تلك الثروة. أما النوع الثالث من القوة فيعتمد على الخطابة لإقناع شخص ما للقيام بشيء ما عن طريق جعله جذاباً في عيونه. بهذا الشكل يمكن مثلاً إقناع إمرأة بشراء شيء لا تحتاجه بالفعل، أو إقناع فتى بأن يضحي بحياته، وهكذا يمكن لهذا النوع من القوة أن يؤثر بشكل حاسم في دفع الناس إلى القيام بأشياء متطرفة ولا يمكن تصورها في الأحوال العادية.
على الرغم من إدراك المثقف الليبرالي لأهمية الثروة بوصفها شكلاً من أشكال القوة، إلا أنه لا يعدها النوع الأكثر أهمية. بالنسبة له فإن أهم أنواع القوة هو النوع السياسي. أما المعرفة فتأتي في المرتبة الثانية بينما تحتل الثروة أدنى درجات السلم المثلث.
نود أن نطرح السؤال التالي في وجه هذه التراتبية: هل بإمكان أي كان أن يقنع الناس بأن يتخلوا عن أموالهم عن طريق قوة المعرفة؟ أما شق السؤال الأهم فهو: هل بإمكان المرء أن يستعمل الثروة في توظيف من "يملكون" المعرفة والقوة القمعية ليعملوا من أجله ويكونوا إلى جانبه؟ نعتقد حدسياً على الأقل أن الجواب على السؤال الأول هو بالنفي، بينما هو بالإيجاب فيما يخص الشق الثاني. وهذا الأمر حيوي جداً لغاياتنا لأنه يلقي الضوء على كيفية خلق أوضاع الهيمنة، وطبيعة الموارد اللازمة لذلك. ويتركز ادعاؤنا هنا على أن هناك أدلة جمة على أن الثروة تهيمن على شكلي القوة الآخرين مما يجعل فكرة تقسيم أشكال القوة إلى ثلاثة فكرة مصطنعة من الناحية الجوهرية. قد تكون الفكرة مفيدة على صعيد التجريد أو لغايات توضيح أشكال القوة الفرعية العاملة في سياق معين، ولكنها لا تصلح إذا تم تناولها بوصفها أشكالاً مستقلة توظف في تفسير السيرورة الاجتماعية. لعل مناقشة المثال المفضل لدى الغربيين أن يساعدنا في بناء تصورنا بشكل أوضح وأمتن.
يمثل ستالين –في رؤية المفكر الليبرالي- أسوأ السيناريوهات الممكنة. فهو لا يكتفي بالسيطرة على شكل القوة السياسي ولكنه أيضاً يسيطر على القوة المعرفية، وعلى القوة الاقتصادية. وبالمقارنة فإن هتلر نفسه لم يكن يمتلك ميزة الوصول إلى أكثر من شكلي القوة السياسي والمعرفي. بالطبع نستطيع استعادة المحاججة المستخدمة آنفاً في مناقشتنا المثال المتعلق بكوريا الشمالية. فلو كان ستالين فعالاً حقاً في مجالي المعرفة والثروة لما احتاج إلى توسيع أجهزته الأمنية القمعية وسجونه من أجل تجاوز محنة سنوات الغليان في الثلاثينيات، التي لم تهدأ نارها إلا مع هبوب نار أشد هي نار الحرب العالمية الثانية. أظن أن نظام هتلر كان أكثر فعالية بكثير لأنه تمتع بشعبية أكبر. لقد مثل هتلر في العام 1932 شيئاً من قبيل نصف السكان. وتدريجياً أصبح أكثر شعبية من أي قائد آخر في أوروبا. ولا نظن أن ستالين قد حلم في أي وقت بأن يمتلك مثل هذا السحر تجاه مواطنيه. ولعل قوة هتلر إنما جاءت في جزء منها من أنه بالضبط لا يسيطر على الجانب الاقتصادي، ولا يتحمل –بالتالي- مسؤولية المصاعب التي يعاني منها المواطن في هذا الميدان الحيوي تماماً لحياة المواطنين جميعاً. وهو في المقابل يدغدغ عواطف الناس فيما يتعلق بأمور الوطن وأحلام العظمة القومية التي تلاقي –عادة- رواجاً في أوساط الجماهير في كل مكان.
ينظر الليبرالي إلى المجتمع بوصفه أفراداً. ولا نقصد في هذا السياق أنه لا يرى إلى المجتمع بوصفه طبقات، وإنما إلى أنه لا يراه بوصفه مجموعات، أو جماعات بمعنى أو بآخر. ربما ذلك ما يفسر إصراره على التفسير عبر مفهوم الفرد عوضاً عن الجماعات والفئات الاجتماعية ناهيك عن الطبقات أو الحكومات. ولذلك فقد كانت النخب الاقتصادية والسياسية في ألمانيا تختزل بالنسبة له في هتلر، وتختزل في روسيا السوفييتية في شخص ستالين، وتختزل الدولة السورية كلها في بشار الأسد. هل بإمكاننا توظيف فكرة أشكال القوة الثلاثة على الديمقراطيات؟ أعتقد أن ذلك ممكن بالفعل. وأعتقد أن الأمر يصبح أكثر فعالية عندما نستخدم الفاعل الجمعي عوضاً عن الأفراد. وفي هذه الحال سيجد المرء أن طبقة –أو تحالف مصالح ما- تستعمل ثروتها لتؤثر في حالة المعرفة من أجل الاحتفاظ بهيمنتها. في الديمقراطية تبدو الحاجة إلى الإذعان أمراً حيوياً جداً، لأن اللجوء إلى القوة السياسية والقمع المباشر، مع أنه غير مستبعد بإطلاق، إلا أنه يظل على الأقل محدوداً جداً. وهذا دون شك يساعدنا في فهم المغزى من الأموال الطائلة التي توظف في الإعلام والأكاديميا وأشكال المعرفة المختلفة وطرق إنتاجها واستهلاكها. إن هذا هو الموضع الذي لا يجوز للديمقراطيات أن تفشل عنده. وإذا فشلت فلا شك أنها النهاية. إذ يطفو شكل القوة السياسية القمعية على السطح ويولد بالتالي شيء من قبيل ألمانيا النازية. ربما أن هذا ما يفسر الفشل الدائم للانتخابات العربية في أن تأتي بحكومات مستقرة عوضا عن إعادة إنتاج الواقع أو التوجه نحو نموذج الدولة الفاشلة مثلما حصل في ليبيا والسودان وربما تونس وغيرها.