هذا زمن الموت الثقيل، توقفت عن تعداد أصدقائي الذين قضوا نحبهم، آخرهم حتى اللحظة زميلي ورفيق الأيام الجميلة مريد البرغوثي، الشاعر المتميز والذكي كما وصفه محمود درويش، والكاتب السياسي المتمكن كما ظهر ذلك طوال عمله في إذاعة صوت فلسطين سليلة صوت العاصفة، وهو المذيع صاحب الصوت الواعي واللامع أي أنه كان مجمع مواهب قلما التقت في رجل واحد.
مريد العاشق... التقى برضوى وغرقا في حكاية حب فكان قرار ابنة العائلة المصرية الكبرى أن تقترن بابن المأساة الأكبر، ليقررا معاً خوض الحياة الصعبة... حياة اغتراب الشاب عن بلده وأهله، واغتراب الأديبة المبدعة عن رفاهيةٍ كان يمكن أن تحظى بها لو تخلت عن حبها لمريد، كانا ثنائيا جميلا، رضوى ومريد، وحين سافرت في رحلة دراسية إلى أمريكا نسج من شوقه لها أجمل قصائده... رضوى.
في جلساتنا داخل مبنى الشريفين في القاهرة وفي الركن الذي كنا نسميه الكنبة الخضراء، كنا نستمتع بحكايات مريد… "تزوجنا على طاولة في كافتيريا أحد الفنادق، واشترينا معا الخشب وعدة النجارة التي تلزم لإعداد بيت الزوجية بأقل قدر من النفقات".
وفي شقة لا تزيد مساحتها عن عدة أمتار كانت بالحب أوسع مكان على وجه الأرض.
كنا نزورهما فنرى الأديبة الكبيرة الدكتورة لطيفة الزيّات، تؤدي دور الأم لرضوى ومريد، وهناك في بيت الحب ولد تميم.
مثلما أجاد مريد العربية لغة وثقافة وإبداعا أجاد الإنجليزية، وكنا نلوذ به كلما زار إذاعتنا كاتب أو سياسي أو مثقف أجنبي، كنا نتحدث الإنجليزية "على قدنا" أما هو فكان يتحدثها كما لو أنه من أهلها.
مساء ليلة شتائية من ليالي فلسطين، وبينما كانت الشمس تلقي بشعاعها الحنون وتغادر مرتحلة من فوق دير غسانة باتجاه البحر، وفي يوم العشاق الذي يقدم فيه كل محب لحبيبته وردة حمراء، وصل شوق مريد لرضوى إلى منتهاه، لم يكن بوسعه وضع وردة على ضريحها البعيد فكورونا المستبد منعه من ذلك، إلا أن شوقه لرضوى لم يمنعه من أن يذهب إليها لذكرياتهما.. لأيامهما الحلوة.
بعد موت رضوى عاش مريد سنوات يتنقل بين موت وآخر... الأم... الشقيق... الصديق.. كان يكفيه الحب ليواصل الحياة.
مات مريد... وكان يقول الشيء الوحيد الذي لا استثناء فيه هو الموت، إلا أن الاستثناء الأقوى من القاعدة هو خلود الإبداع.. كتبٌ أودعها مريد للأجيال التي ستأتي وقصائد وأغنيات وحكايات..
إليك نجيء يا وطني... إليك نجيء
بنا وجد إذا مدته ريح هواك
فوق الأرض .. فوق البحر.. يمتد
وإن متنا فلا نرتد عن عينيك
بل إنّا إلى عينيك نرتد
همسنا في جذور الزرع يا وطني بأنك وحدك العهد
ونرضع حبك الأطفال ما ولدوا
وليس يعوقهم عن زحفهم للأرض لا مهد ولا لحد
مريد البرغوثي