المفكر والمناضل الفدائي القومي العروبي أنيس النقاش رحل في زمن نحن ما أحوجنا فيه لمثل هؤلاء صناع الفكر والموقف وأصحاب الرؤيا الثاقبة والعميقة… هو زمن الخنوع والذل العربي… زمن الانهيار وبيع القيم والمبادئ في سوق نخاسة المال الخليجي، كتاب ومفكرون وساسة وإعلاميون ورجال دين وأدباء وشعراء وفنانين باعوا كل تاريخهم مقابل حفنة المال الخليجي والأمريكي والأوروبي الغربي، وأصبح تاريخهم ملوثا وقذرا… سقطوا في وحل التطبيع و"سلعوا" أنفسهم كأي بضاعة في السوق تشترى وتباع بثمن بخس، وبعد انتهاء دورهم واستخدامهم، يجري لفظهم بعد عصرهم كحبة الليمون. الراحل الكبير أنيس النقاش لم يكن نخبوياً ولا صاحب جملة ثورية، ولا مثل كثير ممن يطلقون على أنفسهم ثوارا ومناضلين، ممن يملكون الجملة الثورية و"يتشمسون" على صفحات الفيسبوك والتواصل الاجتماعي...
أنيس النقاش لم يكن نصير قضية فلسطين التي حملها على كتفه وحضنها كواحدة من أبنائه، بل كان نصير كل المظلومين في عالمنا العربي ولكل الثورات وحركات التحرر العالمية وفي العالم أجمع، مناضل شرس وعنيد ضد الثالوث المعادي من صهيونية وإمبريالية ورجعية عربية، خاض كل أشكال النضال من أدناها إلى أعلاها من المظاهرة والمسيرة الاحتجاجية حيث منذ صغر سنه شارك في مظاهرة دعماً للمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، وكذلك شارك في النضالات الطلابية، والإضرابات المفتوحة عن الطعام، ففي عام 1969م أضرب عن الطعام ضد تخاذل الدولة اللبنانية والنظام الرسمي العربي، عندما دمرت طائرات الاحتلال الحربية الطائرات اللبنانية على أرض مطار بيروت عام 1969، وكذلك خاض ثلاثة إضرابات مفتوحة عن الطعام، في فرنسا أطولها 130 يوماً احتجاجاً على عدم شموله في العفو الفرنسي العام، حيث ذهب إلى هناك للمشاركة في عملية اغتيال شهبور بختيار آخر رئيس وزراء إيراني في حكومة شاه إيران الديكتاتور محمد رضا بهلوي، حيث حكم بالسجن المؤبد وخفف لعشر سنوات،
ولم تكن تلك العملية الوحيدة التي شارك فيها الراحل الكبير أنيس النقاش، بل كان عضوا فاعلاً في حركة فتح التي انتمى إليها في عام 1968، وكان له دور ومهام على الساحة اللبنانية والداخل الفلسطيني وساحة أوروبا، وفي عام 1973 أثناء حرب تشرين شارك في عملية إطلاق الصواريخ على المستوطنات الصهيونية من الجنوب اللبناني، وفي عام 1978 بعد الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني، عمل على تشكيل سريتين لبنانيتين لمقارعة الاحتلال في بنت جبيل وكفر شوبا، وكذلك كان جزءا من النشاط الطلابي والتنظيمي للمقاومة اللبنانية، والسرايا العسكرية التي شكلها، أصبح عدد من أعضائها قادة كبار مثل الشهيد عماد مغنية، وكذلك شارك إلى جانب الشهيد وديع حداد في عملية عسكرية في فينا موجهة ضد دول النظام الرسمي العربي من أجل تأديبها على دعمها للقوات اليمينية في لبنان، والمطالبة بفدية عشرة ملايين دولار لتمويل قوى الثورة الفلسطينية بسبب شح الموارد المالية.. والنقاش كذلك كان له علاقات واسعة مع قوى التحرر وحركات ودول محور المقاومة، حيث عمل على إقامة علاقات تعاون وتنسيق ما بين قيادة الثورة الفلسطينية والثورة الإيرانية من حيث التدريب والتعاون الأمني والعسكري.
وقف بشراسة ضد الحرب الأهلية اللبنانية وحذر من التورط فيها، وهو من أصيب في تلك الحرب في 13/نيسان/1975 .
الراحل المفكر والمحلل السياسي، كان مقاتلاً على جبهة السياسة والفكر والموقف والمبدأ، كما كان عليه في ساحة الميدان والعمل العسكري، لا يهادن في الموقف، جريء وحاد في فضح وتعرية كل المنهارين والمتخاذلين من القادة العرب وكذلك المهرولين نحو الفجور التطبيعي مع دولة الاحتلال. لم يفقد اتجاه البوصلة، امتاز بعمق رؤيته ودقة تحليلاته السياسية، كان يبث الأمل.
أي خسارة هذه التي مُنينا فيها ففي فلسطين فقدنا قبل أقل من شهر بقليل قامة فكرية ووطنية وسياسية الدكتور عبد الستار قاسم، واليوم المفكر والمرجع السياسي مدير مركز أمان والبحوث الاستراتيجية أنيس النقاش، وكأن الشرفاء يغادرون على عجل في زمن الانبطاح والانهيار العربي.. ربما هم ماتوا قهراً… قبل أن يموتوا بجائحة "كورونا"... فالشريف والمخلص والوطني والممسك بمبادئه والثابت على مواقفه أصبح مطارداً… إنها حالة ردة وانهيار غير مسبوقة، ولم يكن من الممكن تصورها، بأن تصل الأمور إلى حد إقامة تحالفات استراتيجية أمنية وعسكرية بين دول النظام الرسمي العربي ودولة الاحتلال، وأن يضيع اتجاه البوصلة ويجري حرف الصراع عن أسسه وقواعده من صراع عربي- إسرائيلي جوهره القضية الفلسطينية إلى صراع إسلامي- إسلامي مذهبي ( سني- شيعي) وتصبح إيران بناء على "بعبع" خلقته لهم أمريكا كعدو افتراضي تخيفهم وترعبهم فيه من أجل أن تعيد احتلال بلدانهم وتستمر في "استحلابهم" مالياً.
عندما اغتالت دولة الإحتلال في 8/7/1972، الشهيد غسان كنفاني بتفجير سيارته عن بعد في حي الحازمية ببيروت، قالت رئيس وزراء الاحتلال السابقة غولدا مائير، لقد تخلصنا اليوم من لواء مقاتل، تصوروا قيمة الفكر والثقافة والأدب المقاوم… وأنا أقول اليوم برحيل هذه القامة الكبيرة التي تقلق راحة الكثير من قادة دول النظام الرسمي العربي وتؤرق مضاجعهم، وهم يقولون كما قالت صديقتهم وحليفتهم غولدا مائير، برحيله تخلصنا من لواء مقاتل وكاشف لعواراتنا.
الراحل الكبير أنيس النقاش كما قال وليد نمر " قاتل كـغوريلا بصمت على مدى عقود، من صفوف فتح إلى الجبهة الشعبية وحتى حزب الله، مشكلة أنيس، أنه قاتل ضد عدو واحد ووحيد. مشكلة أنيس أنه بنكهة متفردة ونادرة، لها طعم الدم الواضح، هذا أنيس المقاوم الثابت على مواقفه، الذي مثل أنموذج القائد والمناضل والكاتب والمحلل السياسي، لم يبق في برج عاجي ولم يبق في إطار النخبة بعيداً عن الجماهير وهمومها، بل عاش بينها وتحسس نبضها وخاض النضال معها جنباً الى جنب. النقاش قائد من طراز خاص واستثنائي في زمن قميء ومرحلة رديئة.