يبدو السؤال للوهلة الأولى سؤالاً انتخابياً دعائياً، مباشراً وسهلاً. لكنه أيضاً، سؤالٌ مبطنٌ، لأنه في المقامِ الأول سؤالٌ أخلاقي: هل ننتخبُ الأسير؟ الأسير الذي يُحيلُ إلى البلاد الأسيرة على حد تعبير إلياس خوري فنعيدُ مركزة فلسطين كقضيةٍ أخلاقيةٍ، كما كانت وكما ستظل دوماً؟ إن هذا الطرح المتسائل له شقه السياسي أيضاً، لأنه بالأساس سؤالٌ سياسي، ولعبةُ الانتخابات هي لعبةٌ سياسةُ، وواقعيتها تعدم الأخلاق بل تنصِّبُ لها المشنقة، ومشنقة أخرى للحلم الثوري خارج أطر الواقعية السياسة والسياسيين.
إجابتي الأولى على هذا السؤالِ كانت بديهية بنعم. لأنها مرتبطةٌ بفكرةِ الحقِ والعدالةِ، ولأنه ليس هنالك قدْرٌ أسمى من تمثيل مأسورية فلسطين ممن هو أسير. غير أن إعادةَ التفكير بالإجابةِ العاطفية المثالية الأولى مبنية على نفس المجادلةِ الأخلاقية التي طرِحت في أكثر من مقامٍ، والتي بدأت بالتسريبات الصحفية عن نيةِ مروان دعمه قائمة انتخابية ثانية لحركة فتح في حال لم تستجب الحركةُ لمطالبهِ بتوحيدها بما يشملُ القيادي المفصول منها محمد دحلان. ومن ثم اتخذ هذا التصريحُ بعداً سياسياً تجاذبياً داخل الحركة نفسها عكس التوتر المزمن داخلَ حركة فتح توَّجهُ مروان بإعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية ما حفز قيادة فتح إلى إرسال مبعوثها حسين الشيخ لإجراء لقاء طارئ وصف بأنه محتدم داخل السجن، ساد بعده صمتٌ غير مفهوم لمروان.
وتصادى هذا العراك السياسي بين مروان وخصومه، مع طرحٍ ألقى بهالةٍ من الرمزية على المفاوضات السياسية التي يجريها مروان داخل حركته، والذي تبنته نخب من المثقفين الفلسطينيين، وآخرون من أنصار مروان، ومن ثم عبر عنه إلياس خوري أبلغ تعبير في مقالٍ يحملُ شحنةً عاليةً من الرمزية والعاطفية، لتحملَ هذه الرمزية معه نخبة مهمة ومحترمة من المثقفين العرب والفلسطينيين، في بيانهم الصادر قبل أيام، في محاولةٍ لإعادةِ موضعة القضية الفلسطينية في بعدها العربي أولاً، وفي أيادي نخبٍ حريصة على فلسطين وبعيدةٍ عن النخب السياسية المتصدرة للمشهد الفلسطيني، راغبةً في إخراجِ عدالةِ هذه القضية من إطار التجاذبات السياسية الفلسطينية الداخلية الضيقة التي قزمت القضية الفلسطينية وأنزلتها من فضائها الرمزي، إلى "زاروبةِ" الصراع على السلطة.
غير أن المجادلة الأخلاقية التي يحملها بيان المثقفين العرب، والمعاني التي تحدث عنها إلياس خوري وتحديداً بشأن واقعية الحلم بتغيير الواقع، هي أصلاً معانٍ تدفعنا لتحويل هذا الحلم إلى حلم أكبر. أود أن أستجيب لطرح خوري، وأن آخذ حلمه الثوري هذا إلى حلم ثوري أبعد، لماذا لا نطالب بترشيحِ أسير من أراضينا المغتصبة عام 1948، لماذا لا نرشح مثلاً المفكر والمثقف وليد دقة كي لا يكون سقف الحلم مسوراً في أراضٍ مسورة بهزيمة 67، بأراضي النكسة، وأراضي أوسلو والمستوطنات وجدار الفصل العنصري، وبمعادلات الحزب الذي هندس أوسلو.
ألا يحملنا حلمُ إلياس خوري لو أخذناه إلى مصدره الأصلي إلى امتدادنا الأصلاني، ويعيدُ تصدير العناوين الأصلية لهذه القضيةِ، قضية أرضٍ ولاجئين وأسرى وشهداء ومنفيين ومهجرين. ألا يزيدُ هذا الأمر من الشحنة العاطفية والرمزية للحلم المنشود؟ أم أننا نريدُ حلماً أكثر واقعية، وأكثر قابلية على التحقق فنعودُ إلى نفس أدوات اللعبة التي بين أيدينا وبنفس شخوصها؟
إن مأسورية فلسطين هي مأسورية ذهنية تحولت إلى هزيمةٍ أدواتية، تُحيلنا لا شعورياً إلى التفكير بمخرجات للحالة السياسية الجاثمة على عقولنا بأن أخرجنا تلقائياً النكبة من المشهد وقزمناها إلى نكسة واتفاقيات هزيمة في أوسلو، وفي انتخابات أوسلو، وفي شخوص أوسلو وفي أسرى التنظيم الذي هندس أوسلو، حتى بتنا عندما نفكر بإحالتها إلى حلم قابلٍ للتحقيق نعودُ إلى واقعية أوسلو. علماً بأنه لو أتاح النظام الانتخابي للمقترع الفلسطيني أن يختار أكثر من قائمة انتخابية واحدة لكنت انتخبت كل قائمة تحمل شعار فتح، ليس من باب الانتماء السياسي للحركة وإنما من باب أهميتها وطنياً، ومن باب أن فتح لا تستطيع مواجهة نفسها إلا وفق منطقِ الضرورة، والانتخابات تطلق أفعال الضرورةِ عند فتح لأنها دائماً ما تضعها أمام مآزق وجودية، وهذا أمر صحي كي تواجه الحركة نفسها وكي تقف أمام المرآة وتنظر إلى وجهها المنهك وجسدها المبعثر على القوائم الانتخابية دون خطابات التلميع والشعارات الثورية علها تفكر من جديد في مغزى وجودها وأهميته وأهمية إحياء دورها الثوري النضالي التحرري.
إن إنتاج مأسورية فلسطين بالطريقة المطروحة هو عملياً إنزالُ للحلمِ من غريزته الداعية إلى الحياة نحو قوقعته داخل كهفٍ أفلاطوني مظلم تشكل فيه الظلال الحقائق بل تتحول هي ذاتها إلى حقائق، وما نريده هو أن نطفئ هذه النار التي تعكس الظلال ونخرج من الكهف إلى سماء الحلم الثوري الأبعد من الحلم المأسورِ في أراضٍ مأسورة ثلاث مرات: من الاحتلال والاستعمار؛ من النخب السياسية الفلسطينية المتصارعة على السلطة؛ ومن النكسة الأولى/67 والثانية/أوسلو.