الحدث الاقتصادي - سلام صبيح
يدور في الأشهر الأخيرة صراع خفي بين شركات استيراد الدخان للسوق الفلسطيني وبين قرار صادر عن وزارة الصحة الإسرائيلية بتوحيد أغلفة الدخان المستورد للأراضي الفلسطينية، كان أحد تجلياته منع إدخال كميات كبيرة منه في مطلع ديسمبر من العام الماضي.
لا يمكن فصل محاولات التحكم والسيطرة الإسرائيلية عن سياق السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالواقع الفلسطيني، ولا يمكن مناقشتها في إطار المزاعم الإسرائيلية بأن ذلك يساهم في العزوف عن التدخين، لأنه وبعبارة مختصرة "من يمنحك الموت لا يمنحك الحياة".
إذا ما الذي يجري؟ وما هي مكامن خطورته؟. الرد على هذا السؤال يأتي في شقين: الأول تفنيد المعلن إسرائيليا عن أهداف هذه الخطورة. الثاني، العودة إلى الاتفاقيات الاقتصادية الناظمة للعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية ومحاكمة هذه الخطوة من خلالها.
لم يكن انتشار فيروس كورونا دليلا استثنائيا على الحرب التي يشنها الإسرائيليون على الفلسطيني باعتباره "إنسانا لا يستحق أن يُعامل كباقي الناس" وإنما كان دليلا قريبا على ذلك. فقد كشفت صحيفة بلومبرج أن إسرائيل لم تعد تستخدم لقاح موديرنا، ومع ذلك تخزّن 100 ألف جرعة من اللقاح كانت قد اشترتها في وقت سابق.
الصحيفة أوضحت أنه في الوقت الذي تسعى الدول الأخرى إلى الحصول على لقاحات كورونا بكل الطرق من بينها فلسطين، تقوم "إسرائيل" بتخزينها، وأنها لا تزال ترفض تزويد الفلسطينيين بها، بل وتعرقل وصولها لهم رغم الفائض الموجود لديها ورغم كل المطالبات الدولية والفلسطينية في هذا الشأن.
وفي نفس السياق، جاء تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية ليكشف أن إسرائيل قامت بتطعيم العمال الأجانب الذين يعملون في القطاعات المختلفة لديها، إلا أنها ترفض تطعيم العمال الفلسطينيين، لتبقيهم وعائلاتهم عرضة للإصابة بكورونا، في خطوة تكشف أقصى درجات التمييز والتعامل اللاإنساني تجاه الفلسطينيين.
إذا لا يمكن للإسرائيليين الادعاء أن الهدف من خطوة توحيد غلاف الدخان هو محاربة الظاهرة في المجتمع الفلسطيني، لأنها تركت هذا المجتمع منهكا مكشوفا أمام فيروس كورونا، الذي يعتبر جائحة عالمية تتطلب تجاوز المعايير السياسية الأساسية في التعامل، ومع ذلك تصر إسرائيل على التعامل مع الفلسطينيين على أساس سياسي كقوة احتلال تريد استنزاف ما لدى الآخرين من قوة وصحة وحياة، وهذا ينقلنا إلى التطرق للشق الثاني من الإجابة على الأهداف الإسرائيلية.
تأتي هذه الخطوة في وقت تحاول فيه إسرائيل التحلل من الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية مع الفلسطينيين، لكنها وبذكائها المعترف به، تختار في كل مرة التحلل من قطاع يغذي مصالحها السياسية والاقتصادية، أي ما يخدم خزينتها ويضعف خزينة الآخرين أو ما يرسخ رؤيتها السياسية ويضعف طموحات الآخرين، وكأنها تقوم بمراجعة كل تفاصيل العلاقة اليومية مع الفلسطينيين وتختار ما تستفيد منه لتخترقه من شبكة وقواعد هذه العلاقة.
لا تملك إسرائيل بحسب الاتفاقيات الاقتصادية مع الفلسطينيين سلطة فرض مواصفات خاصة بما تستورده على السوق الفلسطينية إلا إذا كانت المواصفة دولية، وهذا شرط لا يتوفر في الغلاف الموحد للدخان، الذي لا يعد مواصفة دولية، بالإضافة إلى أن بعض الدول تراجعت عن تطبيقه بعد دراسات في هذا الشأن.
والنظرة الأوسع والأكثر شمولية، من ناحية سياسية لهذا القرار، بمثابة تجاوز لحدود ومحددات العلاقة مع الفلسطينيين، وتأكيدا على السياسات الإسرائيلية، باعتبار مناطق وجود وحكم السلطة، كجزء من جغرافيا القرار الإسرائيلي، ويعزز هذا الطرح ما ذهبت إليه الحكومة الإسرائيلية من توسيع لنطاق شبكة الجيل الرابع الإسرائيلية لتشمل الضفة الغربية.
إذا فالقرار يأتي في سياق سياسي خطير، وبالإشارة للمثالين الواردين سابقا (توسيع نطاق شبكة الجيل الرابع، والغلاف الموحد للدخان)؛ يمكن الاستنتاج أن الإسرائيليين يسعون لضرب قطاعات اقتصادية مهمة تعتبر موردا مهما للخزينة الفلسطينية، التي تعاني أصلا من عجز يفاقم من أزمة السلطة المالية، فالدخان المستور يدخل للخزينة الفلسطينية حوالي ثلاثة مليارات شيقل سنويا، وهو رقم تحاول إسرائيل تقليصه، لمعرفتها المسبقة بأن الغلاف الموحد قد يساهم في أهدافها في هذا الإطار.
تتضح الصورة أكثر من خلال الإجابة على الأهداف الإسرائيلية، لنكتشف أن قطاعات اقتصادية فلسطينية تُحارب بشراسة من قبل إسرائيل، التي تختار مداخل مثيرة للسخرية – صحة الفلسطيني - لتطبيق سياسات ستنهك المواطن والحكومة والقطاع الاقتصادي على المستويين القريب والبعيد، ولعل أدق وصف لهذه الخطوة الإسرائيلية بأنها "من كشفك لكورونا لن يغلف دخانك حفاظا عليك!".