لماذا نريد الانتخابات؟ وبغض النظر فيما إذا كانت ستجري في أيار القادم أي بعد أكثر من عشر سنوات من موعدها الدستوري، أم سيتم تأجيلها لذات الأسباب الفئوية التي عطلتها كل تلك السنوات، دون التفاتٍ إلى الحق الطبيعي والدستوري للمواطنين لاختيار من يمثلهم ومحاسبة من أساء لهم. علينا في كل الأحوال أن نتفق، وتحديدًا نحن الذين دفعنا ثمن مصادرة هذا الحق؛ لماذا نحنُ نريدها؟ وما المتوقع منها كي نذهب بأصواتنا نحو الجهة القادرة على إقناعنا بما لديها من أدوات.
نحنُ نريد بناء رؤية لإدارة الحكم على أسس كفاحية ركيزتها حقوق المواطن وتعزيز قدرته على الصمود وتمكينه من حياةٍ كريمة يستحقها، وتحرص على رعايتها مؤسسات قوية قادرة على القيام بهذه المهمة والتي بدونها لن يتمكن المواطن من استعادة قدرته على مواجهة مخططات الاحتلال أو الدفاع عن الأرض والحقوق؛ فالمواطنون الأحرار هم القادرون على حماية الأوطان والدفاع عن حريتها.
في الوقت الذي تعلن فيه الأغلبية السياسية، والشعبية خاصة، أن أوسلو قد انتهى ولم يعد قائمًا ويتوقع الناس الخروج من عباءته؛ تأتي توافقات الفصيلين المهيمنين على المشهد ليكون صلب هذه التفاهمات هو البقاء داخل مبنى أوسلو، بما يشي أن وظيفة الانتخابات هي الحفاظ على ذات المبنى رغم تآكله وتآكل مرجعياته، بل وتآكل الحقوق الوطنية كما عرفتها الشرعية الدولية.
بات من الواضح أن هذا المبنى لا يتضمن أي مساحة لا للحقوق الفلسطينية ولا لمرجعياتها السياسية والقانونية. وأن أي محاولة لصون هذه الحقوق يبدأ من التخلي عن هذا المبنى، دون الانعزال عن فضاء المجتمع الدولي، بل يستدعي العودة إلى ما يوفره القانون الدولي لحقوق شعبنا كالحق في العودة والحق في تقرير المصير والحق في مقاومة الاحتلال الاستيطاني العنصري لضمان إنهائه بصورة مطلقة.
اعتمدت إسرائيل خلال أكثر من ربع قرن على تفريغ القضية الفلسطينية من أسلحتها الأساسية والمتمثلة بالوحدة الوطنية وقواعد القانون الدولي التي تحمي وتسيّج حقوقنا الوطنية. كما حرصت بصورة ممنهجة على تمزيق الكيانية الجامعة وتعزيز انقسام السلطة، وإبقاء القوى المهيمنة عليها تتحكم في تلابيب سلطة منقسمة تتنازع على الشرعية لتدمير ما تبقّى من شرعية وطنية جوهرها ثقة الناس ووحدتها.
من الواضح أن توافقات القوى المهيمنة على المشهد تتمثل في تقاسم السلطة، وربما تشريع تقاسم الجغرافيا، وليس الاهتمام بأولويات الناس وهمومها الحياتية، الاقتصادية منها والاجتماعية والمدنية.
الأهم أن هذا التقاسم يأتي وبصورة مفاجئة في إطار الخضوع الطوعي لما يسمى بشروط الرباعية بعد أن تخلت عنها، ومنذ سنوات، الرباعية الدولية ذاتها. وليست الاستجابة فقط لمتطلبات ومبنى أوسلو وما أحدثته من تآكل في الحقوق ومكانة القضية حد الاعتقاد من قبل حكومة الاحتلال بإمكانية نضج لحظة الانقضاض لتصفيتها.
مخرجات الانتخابات، إذا نجحت استراتيجية طرفيّ الانقسام بتكريس الأمر الواقع الراهن وشخوصه، فهي لن تُخرج المجتمع من أزمته، ولا القضية من خطر التصفية، ولا عزوف المواطن عن المشاركة السياسية والوطنية؛ بل قد تفتح هذه المخرجات الباب لتدهورٍ خطير في مسلسل التنازلات السياسية الجوهرية، والمزيد من الفجوة بين الناس ومن يتحكم بمصيرها، بالإضافة إلى تدهور الأوضاع والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والذي قد يترافق مع انفجارات اجتماعية، وإن بدت محدودة، فقد تتطور إلى انفجارات أمنية وسياسية داخلية. سيما إذا استُدعيت أدوات الدولة البوليسية، كما تلجأ كل الأنظمة الهشة والمأزومة، لمعالجة أي انفجارات شعبية قد تحدث.
السؤال المطروح هنا: هل هناك تناقض بين تحسين ظروف الحياة المعيشية والاقتصادية للمواطنين وبين التمسك بالحقوق الوطنية؟
بفعل حالة الإفقار الناجمة عن حصار قطاع غزة وغياب أي حوكمة سليمة لإدارة الموارد وتردّي إدارة الحكم إلى أدنى معدلاتها، سيما في السنوات الأخيرة، وهذا ينطبق على دور السلطة الرسمية في الضفة الغربية، وما أضافته أزمة كورونا من فشل، وتهاوي الحد الأدنى من منظومة العدالة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية بما فيها سلطة القضاء، والتغول على حقوق الناس؛ نمت بعض الأصوات التي ربما تقدّم الحل الاقتصادي الاجتماعي الديمقراطي باعتباره بديلًا عن تمسك هذه الأغلبية المحتاجة بحقوقها الوطنية.
الحياة الكريمة التي يسعى إليها الناس ترتكز على بناء الاقتصاد التحرري الذي يشكل العَتَلة الأساسية للبقاء والقدرة على الصمود والمقاومة.
هذا الإرباك، والذي يصل أحيانًا حد التناقض في مفهوم فلسفة الحكم واحتياجات الإدارة الرشيدة ومتطلبات القيادة في الحالة الفلسطينية التي تسيطر عليها فعليًا منظومة الاحتلال بكل أبعادها.
يُطرح هنا سؤالٌ وتحدٍ جدي على القوى الاجتماعية الناهضة وحراكاتها الشبابية والنسوية، والكتل المستقلة التي تعكف على بلورة تقديم حلول عملية للأزمة الوطنية، جوهرها تبنّي رؤية شعبية تترجم سياسياً، هل بالاستطاعة تقديم بديل سياسي يرفض الانفراد بالقرار الوطني؟ ويسعى لاقتلاع جذور الانقسام، ويعيد القاعدة الشعبية للحركة الوطنية المتجددة بعد اضمحلالها. حيث لم يعد، وفي الحالة الفلسطينية الراهنة، إعادة البوصلة للنضال الوطني والمشاركة الشعبية فيه دون الإقرار بحقيقة أن فلسطين وحركتها الوطنية والجماهيرية لا يمكن أن تحقق أهدافها باستمرار الانفراد والتفرد والإقصاء. وهنا جوهر التغيير المطلوب لبناء نظام سياسي تعددي في كافة هيئات المؤسسات الوطنية الجامعة في المنظمة والحكومة على حدٍ سواء.
الفشلُ المدوّي لاستراتيجيات الأقطاب المهيمنة، خلق تحدياً كبيراً في إمكانية بروز قوة جديدة تشكل حجر الزاوية في إنهاء ثنائية الاستقطاب المدمرة التي تتأرجح كبندول الساعة خارج الزمن بين الانقسام وتفتيت كل عناصر القوة، ومحاولة الاقتسام والاستمرار في إقصاء الناس بالمحاصصة التي تكرس حالة الضعف والعزلة الشعبية وتكريس الفشل المزمن وحالة الإحباط الشعبي وما يرافقها من تَيه سياسي.
لن تأتي هذه القوة من فصائل اليسار المنكمشة على ذاتها والمستنزفة في إطار انحيازاتها على ضفتيّ الانقسام حد التآكل، ورفضها لأي مراجعة جادة تعيدها لبحر الناس. يبدو أن الوقت قد فات على ذلك ولم تتمكن هذه الأطراف من اللحاق بعربة قطار التغيير المنشود من الناس، سيما ما يزيد عن مليون ناخب جديد وربما ضِعفهم من زملائهم الشباب في بلدان الشتات ومخيمات اللاجئين فيها.
هذا يؤكد أن تجديد الحركة الوطنية لا يأتي من رحم القوى السياسية المهيمنة على المشهد، لأنها هي المشكلة، وهي غير قادرة ولا مؤهلة لأن تكون هي الحل، على الأقل من وجهة نظر الأغلبية الشعبية التي تفيض عن نسبة 80% من الناس، والتي تنتظر طليعةً تنهض من داخلها وتؤكد قدرتها على الربط الدقيق لاحتياجات بناء الوحدة التي تشكل مدخل تغيير ميزان القوى مع الاحتلال وفي مواجهة مخططاته الهادفة لتصفية القضية والحقوق الفلسطينية. طليعة تتمكن من أن تعيد للمواطن مكانته، باعتبار أن الوحدة وصمود الإنسان الفلسطيني يشكلان المدخل لإعادة الأمل للناس، وثقتهم بمشروعهم الوطني والاجتماعي التحرري. تلك هي بوابة التغيير لاستنهاض القوى وضرورة وضع حدٍ لسياسات وقوانين الإقصاء، والتي باتت تمسّ صلب حياة الناس وقدرتها على الشعور بالعدل كما جرى في تعديلات قانون السلطة القضائية، ومحاولة الهيمنة على دور المؤسسات الأهلية التي كان لها، ولا يزال، دور ريادي في استنهاض طاقات المجتمعات المحلية المهمشة لمقاومة سياسات الاحتلال، وفي برامج التنمية التحررية التي تساهم في تعزيز صمود المواطنين.
تكمن إمكانيات التغيير عبر الانتخابات وخارجها، باستدعاء قوىً أو ائتلافات جديدة تمتلك المصداقية والتنوع لتضع أولويتها نحو تغيير تعبيرات توازن القوى في بنية الحركة الوطنية لصالح مكانة المواطن.
هل ستكون القوى الاجتماعية الناهضة عبر الانتخابات أو خلالها قادرة على تحقيق هذا الاختراق؟ هنا يكمن التحدي، وفيه تكمن الأولوية التي يجب أن ينخرط فيها الجميع. وستُظهر الأسابيع والأشهر القادمة مدى نضج اللحظة التاريخية لبداية دوران عجلة التغيير لصون الحقوق الوطنية وحقوق المواطن على حد سواء.