قبل عام، استيقظت فلسطين على وقع اجتياح جائحة كورونا، وهي غافلة عما يحيكه القدر لها. أعلنت السلطة حالة الطوارئ، أغلقت البلاد وعطلت المصالح "حماية لأرواح المواطنين" من فتك الفيروس، واصطف العامة خلف الحكومة في محاولة مستميتة لحصار الجائحة والانتصار عليها. ترجلت البلاد من غفوتها متوقعة أزمة عابرة ومحدودة ومحاصرة في بيت لحم، ولكنها لم تكن سوى بداية حرب طويلة، لا يعلم إلا الله متى تضع أوزارها.
خلال عام، كرست السلطة جهودها في مواجهة غير متكافئة، وامتهنت حكومتنا الرشيدة إصدار قرارات الإغلاق المتوالية، دون اتخاذ إجراءات ناجعة في المواجهة والتطهير، غير مبالية بالثمن الاقتصادي والاجتماعي لهذه القرارات، ودون الموازنة ما بين الوقاية والحماية الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وحتى التعليمية. ويبدو أن البعض رأى ولا يزال، أنه باتخاذ قرارت في غالبها غير مدروسة، وعدم فرضها على الأرض بنجاعة، تكون قد قامت بواجبها، والسلام.
في المقابل، وخلال عام من توطن الجائحة في بيوتنا، ما زال قطاع كبير من المواطنين يتعامل بمنتهى الاستخفاف بمخاطر الفيروس، يقامرون بالوضع الصحي العام بعدم الالتزام بإجراءات الوقاية، ولا يعتبرون من مأساة الواقع المعاش، حيث استشهد أكثر من 2,078 شخصا لتاريخه حسب السجلات الرسمية (إضافة إلى 218 في القدس و 361 في الشتات).
خلال عام من توطن الجائحة بيننا، ما زالت حكومتنا الرشيدة تبرع في إصدار الإحصاءات المبهمة حول حقيقة الوضع الوبائي، ولا ترى في عدم مبالات المواطنين بقرارتها دليلا على فشل إجراءاتها الوقائية، وتصويتا على غياب الثقة بإدارتها وطريقة معالجتها لهذه الأزمة المستفحلة. وبينما يحث أحبابنا خطاهم نحو الفناء، وحيدين... مثقلين بأحلامهم... ومفجوعين من الوحدة في رحلة الختام، تستمر الحكومة ومعظم المواطنين باقتراف أبشع المعاصي بحق وقاية المجتمع وأمنه الصحي.
حكومتنا، التي نعلم جيدا ضيق حالها وتواضع إمكاناتها، ونبرر لها عدم قدرتها على صنع المعجزات، لم تخجل أبدا من استمرار تطريز القرارات والإجراءات الوقائية كل أسبوعين، والتعايش مع تجاوزها في الشارع وعدم تطبيقها، حيث أمِنَ العابثون بصحتنا وحياتنا العقاب. وهكذا... ينتشر الموت بيننا مع سبق الإصرار والترصد. أما نحن المواطنين، الذين لا نقل شِركا ومسؤولية، فإننا مستمرون بترويج الموت بأيدينا يوميا عبر التمرد على قرارات الحكومة والالتزام بأبسط الإجراءات الوقائية المطلوبة من أي مواطن صالح ومحترم، بالتباعد ولبس الكمامة.
خلال عام، من محاولة الصمود والخروج من الكارثة، أبدعنا في توطينها، وأبدعت الحكومة في تكريس فشلها في إدارة التصدي، ومعالجة الخلل حيثما يظهر، وبناء منظومة وقاية صعبة الاختراق.
لقد كتبت شخصيا عدة مقالات خلال عام 2020 حول الجوانب المختلفة لجائحة كورونا وضرورات المواجهة، وأذكر أنني اقترحت في شهر تموز 2020 أن تبادر حكومتنا للتعاقد على حجز وشراء المطاعيم، التي كانت في حينه بمرحلة التطوير، ويعلم الجميع باقي الرواية، حيث ضنت سلطتنا علينا بمبلغ 30 مليون دولار لحجز اللقاحات وتنظيم أكبر حملة تطعيم جماعي في تاريخ البلاد، والأدهى من ذلك أن حكومتنا الرشيدة تتعامل مع ملف التطعيم بتخبط مهول، وتغطي على فشلها بسيل من التصريحات المتناقضة من مراكز مسؤولة حول حقيقة ما يجري، بما في ذلك تعليق الفشل في توفيرها على شماعة الاحتلال. وقد عمقت هذه التناقضات هوة انعدام الثقة بأهلية الحكومة في إدارة توفير اللقاحات، وطريقة توزيعها، وغياب الشفافية في منحها.
شخصيا، لا أحسد الحكومة على وضعها وانهيار الثقة في إدارتها للجائحة، وأعتقد أنها تحسن صنعا بتقييم إخفاقاتها فورا ومحاولة تجاوزها بأي ثمن، خاصة بما يتعلق بكل إجراءات الوقاية المطلوبة كما هو معمول به في باقي العالم، أو الاختصار وطي صفحة استمرارها، طوعا. وبصراحة، نحن جميعا محاصرون بقلة حيلة الحكومة، وتقاعس السواد الأعظم من العامة عن الالتزام بإجراءات الوقاية، وهم يعلمون خطورة ذلك، وإن كان البعض ما زال متشككا من فداحة الإهمال في الوقاية، فلينظر حوله ويستذكر عدد الأحبة والمعارف الذين فقدهم خلال عام بسبب الفيروس.
أقول لحكومتنا ولجميع المتقاعسين عن الالتزام بتعليماتها إن الجائحة مستمرة ولا تظهر في الأفق نهاية لهذا الكابوس حتى عام 2024 على أقل تقدير. ليس من حق أحد أن يقامر بحياتنا سواء بقلة أفعاله أو بسوء سلوكه الوقائي. وبرأيي أن كل من ساهم بنشر الفيروس في أي وقت يجب أن يحمل بضميره عبء المسؤولية عن إزهاق أرواح المئات من أحبتنا الذين فقدناهم حتى الآن.
تقتضي المسؤولية الوطنية والأخلاقية القيام بانعطافة حادة في سلوك وإجراءات الحكومة والعامة على حد سواء، والانحياز التام لمصلحة الوقاية والأمن الصحي للمواطنين ووضعها فوق أي اعتبار، وبأي ثمن. ومن هذا المنطلق، فإنني أطرح على حكومتنا وأولي الأمر جملة إجراءات وقرارات وممارسات غير تقليدية وتبدو تعسفية للسيطرة على الأوضاع ووقف الانفلاش المستشري في المعالجة، لعلها تسعفنا في ما تبقى من هذا الخريف الطويل، وتنقذ ولو روحا واحدة:
العمل على توفير المطاعيم فورا لجميع المواطنين، بأي ثمن. والالتزام بتنفيذ التطعيم بشفافية وبدون محسوبيات، ووفق أولويات معتمدة عالميا، ومعلنة محليا.
إعادة النظر في منظومة وشبكة فرض الإجراءات الوقائية، وبحيث تتم مخالفة ومعاقبة غير الملتزمين بالتباعد والكمامة بغرامات باهظة والإحالة للقضاء، وتتم مضاعفتها على من يكرر المخالفة.
إقامة شبكة فرض الوقاية والأمن الصحي، بحيث يتم تعزيز قدرات الشرطة بآلاف الأفراد من أجهزة الأمن والجهاز المدني، وبحيث يتم تشكيل فرق جولة في كافة المواقع في كل تجمع سكاني بقيادة الشرطة، وعلى مدار الأسبوع لردع جميع المخالفين، ويمكن أن يتم ذلك بانتداب 50% من الجهاز المدني للعمل تحت قيادة الشرطة كمراقبين لحالة الالتزام، وبحيث يكون كل شرطي مهما كانت رتبته مسؤولا عن 4-6 أفراد يقومون بفرض الإجراءات على الجميع ومخالفة غير الملتزمين، بغض النظر عن تصنيف جغرافيا المخالفة سياسيا. إن مؤسسة الشرطة تعاني من محدودية الكادر وعظم المسؤوليات، في الوقت الذي يتفرغ في آلاف مؤلفة من الموظفين العسكريين والمدنيين ويحصلون على رواتب وامتيازات بدون أعباء حقيقية.
الشروع في تحميل المتسببين بالعدوى أو المستهترين الذين تصيبهم العدوى مسؤولية أفعالهم، بحيث يتحمل المستهتر المصاب تكاليف علاجه، وفي حال التأكد أنه أدى إلى إصابة آخرين تحميله تكاليفهم أيضا.
فرض إجراءات مقيدة للحركة على من يقوم بتعريض الأمن الصحي للأفراد والجماعات للخطر.
تشكيل لجنة تحقيق مستقلة من قبل الرئيس للنظر بأسباب عدم توفير المطاعيم حتى الآن، والمصارحة والمكاشفة حول هذا الخلل، وتحويل المتسببين بذلك للقضاء، بغض النظر عن مواقعهم ومراتبهم وولاءاتهم وانتماءاتهم.
أعلم جيدا أن البعض سيرى في اقتراحاتي تطرفا وسادية، ولا ضير في ذلك، حيث إن ما يجري حاليا هو مسلسل مستمر لإزهاق أرواح لا ذنب لها دون حساب أو عقاب، وإن إنقاذ ولو روح واحدة يستحق كل الجهد وكل التطرف في الحماية، ولا أرى في ما يجري حاليا أي مجال للمجاملة. إن الجائحة مستمرة، وفي ظل غياب المطاعيم والتحولات المستمرة وانتشار نسخ فتاكة من الفيروس في كل مكان، يستدعي الاستماتة في الدفاع عن شعبنا وصحته وكرامته في الموت وقدره.
إن ما أطرحه يتطلب توفر إرادة صلبة وشرعية سياسية وتبني من الرئيس شخصيا، الذي يتحمل جزءا من المسؤولية عن فشل حكومته في إدارة أزمة العصر بالنسبة لنا، نحن المواطنين الذين نحاول العيش بكرامة وسلام ومسؤولية ومواطنة صالحة ومحترمة.
في الختام، وبعد مرور عام على توطن الجائحة بيننا والفوضى والتقصير في المعالجة، فإنني أتقدم من الطواقم الطبية والصحية، "جيشنا الوطني الأبيض" بالشكر والعرفان والتقدير على جهودها، وأترحم على شهدائها ضحايا التقصير واللامبالاة، وأتمنى لهم السلامة الدائمة، واستمرار المثابرة. أما حكومتنا الرشيدة فأتمنى لها حسن الختام.