الحدث - محمد بدر
في لقاء مفتوح جمع عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ناصر القدوة بالصحفيين يوم أمس الخميس، بدا وكأن الرجل يحاول تشخيص أمراض الحالة السياسية الفلسطينية ومن ثم وصف ما من وجهة نظره يمكن اعتباره دواء. تحدث عن السلطة كنموذج قائم على عكس متطلبات المرحلة، فـ"نحن في مرحلة تحرر وطني" وليس في مرحلة ما بعد الصراع، وهذا صحيح، لكن الأدوات التي تحدث عنها القدوة لمعالجة هذه الإشكالية العملية والمفاهيمية هي بمثابة أدوات تكيّف مستمر مع مرحلة ما بعد الصراع، بما تحمل من مزايا واستئثار للمنخرطين فيها.
إذن، فالقدوة لا يصطدم مع جوهر السلطة كحقيقة سابقة لزمنها، بل مع طريقة إدارتها نفسها كواقع، وهذا يحيلنا لتقسيم نظريات القدوة ما بين الشعار والممارسة، فعلى مستوى الشعار يلتقي مع التيارات الراديكالية في توصيف المرحلة، ومع التيارات شديدة البرغماتية في بناء السلوك، وهذا الإشكال يفك لغز خطاب، قسم منه موجه لإشباع حاجة الناس من المفاهيم الثورية؛ خطاب انتخابات مفرغ من أي إشارات عملية، وآخر موجه لحاجة الذات المشبعة بالسلطة. يعلم القدوة ومن يدير دفته في المشهد الفلسطيني، أنهم ولدوا فجأة في مرحلة ما بعد الصراع على أنقاض مرحلة التحرر، فلا الزمن يعود، ولا نمط حياتهم يسمح لهم بالعودة لمرحلة لم يكونوا جزءا منها ولا يمسكون بنظرياتها ودينامياتها، وبالتالي فإن الخلل بين مفردات اللغة والسلوك لا يحتاج لمجهر تحليل للكشف عنه.
وفي الحديث عن إشكاليات خطاب القدوة، نجد أنه بالقدر الذي يصرّ فيه أننا في مرحلة تحرر، ينفي حق الشعب الفلسطيني في المقاومة المسلحة للاحتلال، والتي ليست اختراعا فلسطينيا بل سنة سياسية عالمية، وحين يؤكد أن المرحلة ليست مرحلة مقاومة مسلحة، هو يتورط عمليا في فلسفة ما بعد الصراع، أو على الأقل في فلسفة من يدّعي أنه بديلهم المنطقي والمقبول لدى الشارع الفلسطيني. هذه النظرية تجتر امتيازات لأصحابها ليس أكثر. لكن الأهم في هذا السياق أنه يحاول إيصال رسالة متعددة الوجهات، لأطراف ترى في المقاومة المسلحة ممارسة غير شرعية، وهي الأطراف التي تخوض رحلة استكشاف في أفكار "النخبة الفلسطينية" في السنوات الأخيرة لأهداف تخدم استمرار ثقافة وممارسة ما بعد الصراع في أي تغيير قادم.
وكان من الملاحظ أن القدوة في ظهورين من أصل ثلاثة، تعرض بالنقد الشديد لأولئك الذين يطالبون بفلسطين كل فلسطين مع استبعاد العنصر الاستعماري منها بشكل نهائي، وهنا المقصود دعاة المقاومة حتى التحرير الكامل، فاعتبرهم بأنهم لا "يعملون سياسة"، وبغض النظر عن الجهة المستهدفة من رسالته، فإن المنطق يقول إنه من غير المعقول أن يدّعي شخص يسعى لتشكيل تيار "ديمقراطي" بأن طرف ما لا يفقه بالسياسة، وبالتالي وبنفس أدوات نقضائه يقصي تيارا موجودا في الشارع الفلسطيني عن المشهد من خلال الاستخفاف به ومنهجه، وديمقراطيا لا يملك أحد شهادة وصاية على أفكار الآخرين إلى درجة اتهامهم بأنهم "لا يعملون سياسة"، وهو ما يعني بالمنطق المجرد أنهم عبارة عن جماعات أو أفراد قاطعين للطريق، يملكون السلاح ولا يملكون الرؤية، وهذا يؤسس لعملية لتجريم وتفكيك شرعية تيارات في الشارع الفلسطيني ترى في المقاومة سبيلا وحيدا لاستعادة كامل الحق الفلسطيني.
ما هو موقع محمد دحلان في حراك القدوة؟.. السؤال الذي كرره الصحفيون على القدوة، وكان من المهم أن يدرك أن تكرار السؤال نابع من شكوك لها أساس في خطابه، فهذا ليس سؤالا مملا ومكررا كما وصفه، بل سؤالا ملحا وضروريا في ظل سعي جهات عربية وغربية لإعادة دحلان للمشهد الفلسطيني من بوابة الانتخابات والتيارات هذه المرة. أخطر وأغرب جواب ورد على لسان القدوة في هذا السياق أن رفض وجود دحلان كشخص في التيار مرتبط برفض سياسات الإمارات ومحمد بن زايد، وهو تفسير لا يرتقي لأن يكون سياسيا، فماذا لو غيّر دحلان مكان إقامته، هل سيقبل به القدوة رمزا من رموز تياره؟.. أليس ممثلي وكوادر تيار دحلان في الحياة الفلسطينية هم إنتاج الإمارات ومالها؟.. كيف صاغ القدوة هذه الإجابة وماذا تحمل من إشارات المستقبل؟..
السؤال الآخر المهم الذي كرر على القدوة يتعلق بعلاقة تياره مع الأسير مروان البرغوثي، حيث يبدو الأخير غير مقتنعا بما يطرح الأول، فيما يشدد القدوة في نقاشاته الداخلية على أنه متخوف من موقف البرغوثي وإمكانية استجابته لما يعرض عليه من اللجنة المركزية لفتح. يقودنا هذا للبحث عن شروط البرغوثي للبقاء ضمن الجسم الفتحاوي، حيث أنه اشترط أن يجري اختيار الأشخاص في قائمة فتح على معايير ديمقراطية نزيهة، وأن يتغير جوهر اتخاذ القرار داخل فتح، إلى جانب إصراره على وحدة الحركة، وإن تحققت هذه الشروط للبرغوثي، وهو ما أمر لا يبدو متوقعا، فلا يجب أن يكون القدوة متخوفا لمجرد تفاوض البرغوثي والمركزية، إلا إذا كان الهدف ليس "أخذ فتح إلى حالتها الطبيعية"، وإنما الانطلاق بمشروع قد قطع النهر كما وصفه، أو أنه لا يثق بالبرغوثي ويعتقد أنه عرضة للقبول بالإغراءات.
وأخيرا، يقول القدوة إنه إذا انضم البرغوثي لتياره فإنه سيكون أولا في قائمته الانتخابية وهو ثانيا، وهنا يقع تناقض آخر في خطابه، فكيف سمح له بتوزيع المقاعد والأولويات في القائمة الانتخابية إذا كان التيار لم يحدد أرضيته السياسية – التي هي الاولوية في المشروع ككل بحسب حديث القدوة، ألا يعزز هذا الشكوك أن الموضوع ليس أكثر من الحفاظ على البقاء في ظل النظام السياسي؟ ثم أليس بالمنطق الديمقراطي يعدّ ترتيب الأسماء مسؤولية التيار ككل؟. قد يدّعي أحدهم أن هذا ترتيب متفق عليه، لكن ألم يقل القدوة أن المشروع والتيار قيد التبلور وبالتالي لم يكن هناك نقاش فني وإداري بخصوص الانتخابات؟.
هذا التفكيك لحديث وخطاب القدوة يحمل رسالتين، فإن أخذ بحسن الظن فهي دعوة لإعادة ترتيب خطابه بما يتناسب وعقل الذين يستمعون له، وإن أخذ بسوء الظن فسيعتقد أن هذه الكلمات محاولة لدعم طرف يقع على النقيض منه، وفي الثانية لا بدّ من التأكيد أن الذين آذتهم مرحلة ما بعد الصراع بما حملت من تناقضات وانتكاسات وهزائم داخلية وخارجية لا يريدون إعادة إنتاج المشروع الهزيل بتغيير المسميات، ولا يريدون شراء نفس الوهم بماركة أخرى ومصدر نشأة مختلف، لأنهم ببساطة أُشبعوا منه حتى ثملوا على امتداد 25 عاما وأكثر، وأخيرا فإنه من غير المعقول أن يقع الدبلوماسي في كل هذه الأخطاء والتنقاضات في لقاء من ساعة، فكيف لو تسلم أمورنا لسنوات؟!.