''الإنسان ذئب لأخيه الإنسان'' (توماس هوبز)
''الجحيم هو الآخرون'' (جان بول سارتر)
"لا تراهِنْ، سوى على ذاتك'' (ماو تسي تونغ)
''هَمْ هَمْ هَمْ.. غابة كلابها ذيابة.. نازلين في الناس هَمْ" (أحمد فؤاد نجم)
'' ماجدوى أن يكسب الشخص العالم بأكمله ويخسر نفسه؟'' (المسيح)
كثيرة هي الظواهر البشرية، التي حدستها الآداب والفنون العميقة منذ سنوات طويلة خلت؛ ثم التقطتها السينما العالمية واشتغلت عليها بكيفية جمالية في غاية الزخم من خلال حيلة تجميل القبيح، قصد إثارة الانتباه للشر الكامن فينا، المتأهب والمتربص باستمرار نحو الانبجاس ويعمم أوراق اعتماد، كي تنطلق رسميا شرور التخريب الهمجية وتقويض الحس الإنساني من جذوره؛ فيغدو الأخير مجرد حكاية تليدة؛ بلا جدوى، اختلقتها وهْما قطعان الخرفان المغلوب على أمرها، احتماء من افتراس الذئاب.
منذ زمن سحيق، استشرفت الآداب والسينما ممكنات الواقع المرير المترقب للحروب التوسعية الظالمة، والمعتقلات الجحيمية، والمافيات المنظمة والمهيكلة تحت يافطة التمدن، ومجتمعات مزارع الحيوانات التي يراقب أنفاسها الأخ الأكبر بقسوة لا تضاهى، والأصوليات وفق شتى تجلياتها، والشعبوية، والأتمتة الإلكترونية ،والرقمنة الافتراضية، والتوتاليتارية، وبلاهة التنميط، وبورصات الدعارة والاسترقاق، واستغلال الأطفال، والتعديل الوراثي والجيني، وفوبيا الاستهلاك، ونتاج الزومبي، والتيه، والجنون، وأمراض القهر، والترويض القسري، ومجتمعات الشراهة وجغرافيات العوز، وتدمير البيئة، والكوارث الطبيعية الكونية، والأوبئة، والإشعاعات النووية، إلخ.
توقعات، تحولت تباعا ارتباطا بسياقات تاريخية معينة، إلى حقائق اختبرتها البشرية على أرض الواقع؛ ولا زال أمرها كذلك ساريا، تبعا لجدليات الخير والشر، الإيروس وتاناتوس، الآدمية والبربرية، الكم والنوع، التطور والكيف، البنية الفوقية والتحتية، متواليات الأحداث، كما الشأن حاليا مع راهن وباء كورونا.
أيضا، استبصرت تلك المتون الحاذقة المستلهمة للأساس، بجانب ما سبق، لأزمة أخرى للقتل نتيجة المسخ البشري، سميت بين طيات تلك الأدبيات ب: المستذئب، أو الرجل/الذئب. إنها، جماعة من المخلوقات البشرية، تعيش داخل جماعات إنسانية وتظهر شكليا مختلف معطيات التكوين الخلقي للإنسان، غير أنها تبقى ذئابا عند مستوى كنه هويتها الضمنية، تتقاسم فعليا مع الذئب الذي يعيش بعيدا وسط الأدغال، مختلف خواص مص الدماء والافتراس الشديد، وإضمار شتى سلوكات العدوانية.
حكاية مرعبة من هذا القبيل، ألمحت لها بداية الأساطير والخرافات ومرويات القدماء من مسافرين ورحالة، لا سيما المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت حينما أشار منذ القرن الخامس قبل الميلاد، إلى قصص رصدت الإنسان/الذئب عن طريق المكتشفين العائدين من مستوطنات تحيط بالبحر الأسود، حيث يعيش هناك بشر لهم قدرة على التحول إلى ذئاب تحديدا خلال الليل. هكذا، ينطلقون إلى شراهة الافتراس دون أي وازع يذكر، والإتيان على لحوم البشر وامتصاص دمائهم، ثم مع بداية أولى خيوط الفجر، يستعيدون شكلهم البشري، وهكذا دواليك.
بخصوص الموضوع ذاته، كتب الطبيبان المسلمان ابن سينا وبن عباس الزهراوي، عن أعراض كائن غير طبيعي يأكل اللحم النيئ ويعوي كالذئاب، أطلق عليه ابن سينا مرض القطرب.
التمثل الأسطوري للمستذئب، عكسته تماما أفلام السينما، عبر استحضار صورة كائن مخيف، يتحول كليا إلى ذئب مفترس، ليلة اكتمال القمر من كل شهر، فيبدأ تحوله الفسيولوجي، بتغير لون العينين إلى الأصفر والأزرق ثم الأحمر، وتأخذ أظافره شكل مخالب حادة وتبرز أنيابه، ثم يستعيد وضعيته السابقة خلال الصباح، وقد غمر المكان جثثا؛ ذبحا وسلخا وفتكا.أطلق، على هذا النموذج الأسطوري المصاب بالاستذئاب أو فيروس السعار، نعت اللوغارو. ثم صارت الأسطورة حقيقة، حينما صار المستذئبون كائنات عينية تعيش في كنف المجتمع، وإن صنفوا كحالات مرضية غير عادية.
خلال العصور الوسطى، اعتبروا مسوخا وشياطين، بالتالي صدر في حقهم قانون الإقصاء والقتل، لذلك فروا صوب الجبال والأدغال.
مع التطور العلمي، خلصت الأبحاث البيولوجية إلى التفسير الموضوعي للرجل/الذئب، فأكدت حقيقة متلازمة المستذئب أو أمبراس (hypertrichosis) ، الناجمة عن خلل جيني أو طفرة وراثية، ينتج جراء ذلك تكاثر غير طبيعي للشعر فينمو طويلا ناعما على البطن والظهر والأطراف. أحيانا أخرى، قد يكون الاختلال مكتسبا، نتيجة التعرض لبعض المؤثرات الكيميائية والإشعاعية أو الهرمونية.
إذن، لم يعد المستذئب مجرد شخصية خرافية، بل أكدها الواقع، وتجلت معطياتها المباشرة إبان سياقات تاريخية مختلفة. خلال القرن السادس عشر اشتهر بيدرو غونزاليس، الملقب بـ"الرجل القادم من الغابة". فقد اكتسى شعر كثيف، سحنة وجهه وباقي أجزاء جسده. فترة القرن التاسع عشر، ظهر شخص ثان من نفس الفصيلة اسمه ستيفان بيبرويسكي ولد في بولندا عام 1891، وصفه الناس لغرابة مظهره بـ"الرجل الأسد''، قيل آنذاك تفسيرا لحالته الغريبة بأن أمه مارست الجنس مع حيوان. أيضا، يمكننا استحضار اسم المكسيكية جوليا باسترانا، المزدادة سنة 1834، بشعر كثيف يغمر جسدها. أما في عصرنا الحديث، فتعتبر الطفلة التايلندية سوباترا ساسوفان، أبرز نسخة عن المصابين بمتلازمة الرجل/الذئب.
عموما، وبغض النظر عن تأويلات الأسطورة واستدلالات العلم ثم شواهد الواقع، سنختزل مختلف سجالات الإشكال، في خاصيتين شكلتا رافد لقاء جامع، بين تعدد الشروحات حسب المرجعيات: 1- شريعة الغاب؛ -2 إنسان يفترس افتراسا إنسانا آخر.
حينما نسقط ذلك، على راهننا وواقعنا مثلما تتلاشى يومياته عبثا دون ذاكرة حقيقة لتشكل وإرساء الجميل، ألا يمكننا الإقرار بأن الأفق صار مشدوها بما يكفي، نحو تكريس الاستذئاب والانتقال به من مجرد علة شاذة نادرة، لا يقاس عليها بتاتا، ما دام الأصل، أن يسعى الإنسان صوب بلوغ مرمى إنسانيته قدر المستطاع، ويجعل حياته وحياة الآخرين، تستحق فعلا وحقا وجودا على هذه الأرض، مبتعدا في ذات الوقت قدر ما يمكنه الابتعاد، عن أسِّ الشر ومصادره الهمجية، سواء أكانت لذئب أو ديناصور أو ثعلب أو تمساح أو بوم أو خفاش، إلخ. بلغة ثانية، مختلف الهويات الحيوانية، التي تنتصر لقانون الغاب على حساب التمدن والتحضر الإنسانيين.
حين ملاحظة، كمية العدوانية التي أطلقنا لها العنان، بحيث كرست ملازمة المستذئب، وجعلت لازمة الإنسان /الذئب لا تفارق تفاصيل منطق ''الظفر'' و''الانتصار'' في حياتنا كما نعاينها حاليا، تطرح للتو شرعية التساؤل بقوة عن مدى تغول شرايين الذئب أو الوحش الذي يسكننا؟ وكيف افترس بأنيابه الحادة، ما تبقى من شعرة الإنسانية التي كابدت باستمرار حتى لا تنزلق المجتمعات بالمطلق نحو مهاوي الجحيم. ثم، يفترس الجميع هذا الجميع، دون رحمة.