أولاً: دعوة جديدة إلى ندوة باللغة الإنجليزية
مؤسسة الدراسات الفلسطينية تدعوني (مثل غيري على الأرجح) إلى ندوة يوم الإثنين 15 آذار 2021 باللغة الإنجليزية ودون وجود الترجمة. الندوة تتعلق بقرار المحكمة الدولية الأخير بـ "أهليتها" للفصل في انتهاكات جارتنا إسرائيل.
ممتاز. ولا بأس أن "نتناقش" في جدوى ذلك القرار "الأممي" الذي يستعظمه بعضنا ويستتفه بعضنا الآخر وصولاً إلى التحذير من أن ينتهي الموضوع بجر المناضلين من حماس والجهاد وفتح والشعبية إلى دهاليز المحاكم الأممية بتهمة الإرهاب وإلحاق الأذى بالمواطنين المدنيين الإسرائيليين الأبرياء.
لكن لماذا تحرمون الفرد البسيط الذي لا يعرف الإنجليزية من هذا الفتح العظيم؟!
ألن يحس المواطن الغلبان بالإحباط والغيرة والحسد من الذين سيحضرون الندوة بينما المسكين لا يعرف هذه اللغة العظيمة التي لا يمكن للمرء أن يكون عالما أو أن يقترب من حارة العلماء بدونها؟
طيب "ليش" اللؤم؟ يعني على الأقل، ما دمتم مصرين على ندوة في رام الله بالإنجليزية، على الأقل ترجمة يا إخوان، إذ على الرغم من أن جزءاً من الناس سيتظاهر بالطبع بأنه يعرف الأنجليزية لأنه يحس بالعار إن اعترف بأنه لا يعرف هذه اللغة الوجيهة التي تنم معرفتها عن الذكاء والعبقرية والانتساب الى معكسر العلماء، إلا أن عددا قليلا ومتهورا من الناس يقرون عادة بأنهم من الجهل بدرجة أنهم لا يعرفون أية لغة غير العربية.
يا حرام كم من الناس الغلابى من الفلاحين من أمثالي يحسون بالألم واليأس والقهر لأنهم لم يتعلموا هذه اللغة العظيمة!
ثانيا: دعوة قديمة إلى ندوة بالإنجليزية
مؤسسة الدراسات الفلسطينية وهوى اللغة الانجليزية (2019)
تلقيت دعوة عامة (يعني زيي زي الناس) من مؤسسة الدراسات الفلسطينية لحضور محاضرة تلقيها أستاذة من جامعة كندية حول قرار التقسيم ولجنة "بيبيل" وتاريخ القضية الفلسطينية.
المحاضرة باللغة الإنجليزية.
عادي جداً جداً، ممكن الضيفة لا تعرف العربية.
لكن ما أدهشني –إن ظل هناك ما يدهش في هذا الوطن- هو ملاحظتهم: لا يوجد ترجمة إلى العربية.
"ليش"؟ ألا يوجد لدى مؤسسة الدراسات أحد قادر على الترجمة؟
يعني "مجنون يحكي وعاقل يسمع"!
اللغة العربية لا حضور لها في هذا البلد؟ لغة غير معروفة؟ الناس كلها تتحدث الإنجليزية؟
أم أن الجمهور الذي لا يتحدث الإنجليزية ليس جمهوراً مهماً بالنسبة لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، أي والله الفلسطينية!
"بدي" أهمس لصديقاتي وأصدقائي بسر شخصي:
لقد درست الفلسفة السياسية والسياسة المقارنة في جامعة من جامعات النخبة في الولايات المتحدة. لكنني مع ذلك لا أستطيع أن أزعم أنني أتعامل مع الأنجليزية بأريحية تامة، أو أنني أفهم كل شيء فيها بسلاسة تامة.
إذن من هو الجمهور الذي سيشارك في محاضرة مؤسسة الدراسات؟
على فكرة لم أسمع أثناء وجودي في أمريكا عن محاضرة بلغة غير الأنجليزية، وإن حصل اضطراراً أي شيء من ذلك القبيل، فإن الترجمة تكون حاضرة بداهة دون حاجة لملاحظة أو تنويه.
إنه فيما أحسب مركب كامل نعاني منه في هذه البلاد؛ مركب من التبعية السياسية والثقافية والفكرية، مع نخب منبتة الصلة بواقعها تستهلك الخطاب الغربي، وتحاول أن تتظاهر بإنتاج معرفة هي في حقيقتها إعادة تغليف وتعبئة للمعرفة الغربية ذاتها.
إنها نخب تتكلم وتفكر، وعقلها وقلبها وعيونها متجهة جميعاً إلى نيويورك، ومونتريال، ولندن، وباريس.
ثالثا: مؤسسة الدراسات تستكتبني قبل شهر حول التعليم "التحرري" ثم تستنكف عن نشر ما كتبت.
استكتبتني مؤسسة الدراسات مقالا في ملفها الخاص بالتعليم التحرري. وبعد أن كتبت المقال أخبروني على نحو موجز أنهم لم يجدوا المقال مناسبا.
ترى هل يحق لأية مجلة أوصحيفة أو دار نشر أن تطلب من المؤلف الكتابة في موضوع تختاره بنفسها، ثم تركله بدون إبداء أسباب أو حتى مع إبداء الأسباب؟ يعني ممكن مثلاً أن تطلب مني دراسة طويلة ومتعبة ومكلفة ثم تقول لي لا أريدها، كنت أمازحك أو هذه كذبة نيسان ...الخ.
مؤسسة الدراسات لم "تكلف خاطرها" الرد على استفساري عن أسباب رفض المقال. اكتفت برؤية سؤالي و "تطنيشه". لكنني واصلت الإلحاح حول سبب رفض رقابة "الدراسات" للمقال وأنا أتلقى وعوداً من الصبية التي تتواصل معي بقرب وصول التفسير العتيد لرفض مساهمتي. بعد أكثر من شهر وبعد قناعة المؤسسة على ما يبدو بأنني لن أكف عن الإزعاج جاءني الجواب بأن المقال شخصي وليس في صلب الموضوع. بإمكان القارئ أن يرى المقال أدناه ليلاحظ أن الحجة واهية وأن تقنية الفقرة الأولى في المقال "شخصية" دون أن يعني ذلك أنها شخصية. وبالمناسبة "القصة" المروية في استهلال المقال هي "اختراع" لغايات تقنيات الكتابة "الحميمة" إن جاز القول.
حسناً، وقد قلنا ذلك كله: ترى ما هي أسرار القوة التي تتمتع بها المؤسسة وتجعلها تتعامل بهذا الشكل الفوقي والمتعالي؟ المال في هذه الحالة لا يعد سببا، ذلك أن المكافأة التي تحدثت عنها الصبية التي تواصلت معي صغيرة إلى درجة يمكن تجاهلها بالكامل: 50 دولارا.
فما هو سر القوة إذن؟ الاستهانة بنا انطلاقا من قناعة كاملة بأننا لا نملك شيئا نفعله في مواجهتها؟ القناعة الراسخة بأن المهم أولا وثانيا وعاشرا هو تقديم ما يرضى عنه الممول أو صانع الاستراتيجية الكبير أو من يمثلهما ويقوم مقامهما؟ أم ماذا على وجه الدقة؟ لقد احترنا حقاً في تفسير "جرأة" مؤسسة الدراسات التي لا مثيل لها في سلوك مؤسسات النشر والكتابة وما لف لفها.
تواصلت مع المؤسسة فوعدوني بتقديم الأسباب التي دفعتهم إلى عدم نشر المقال "قريبا". لكنهم بعد مضي شهر كامل لم يخبروني بأي شيء. ترى ما هي الدوافع التي تقف وراء سلوكهم؟ هل هي دوافع شخصية؟ سياسية؟ أم ماذا؟ من الواضح أنهم غير قادرين على التصريح بمكنونات نفسهم، وهو ما يشي بوجود ما حير القوم وأربكهم.
دعونا نقرأ المقالة التي كتبناها للمؤسسة بناء على طلبها ثم "اعتذرت عن نشرها". ونرجو من القارئ الكريم أن يبحث معنا في "الخوارق" التي وقعت فيها المقالة مما أجبر "دائرة الرقابة" في مؤسسة الدراسات على رفضها على هذا النحو الذي يستعصي على التفسير.
الجنس وموت العقل والذات:
قراءة في دور التعليم المعاصر في إخضاع البشر
ناجح شاهين
كانت زميلتي إليسون بادية الحزن محمرة العيون. "الحيوان، قطع علاقته بي ونحن على أبواب الامتحانات، لو أنه فقط انتظر حتى ننتهي من هذا الكابوس!" تقريباً أصبت بالدهشة. لم أكن في ذلك الوقت قد أدركت حجم الرعب الذي يتمتع به النظام التعليمي النخبوي. كما أنني لم أكن قد "اكتشفت" دور الجنس بصفته مخدرا يخفف من ضغوط الحياة مثله مثل سيجارة المارغوانا.
كانت إليسون زميلتي في برنامج دكتوراة العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا قد تلقت تعليمها السابق في بيركلي، وكان من البدهي أن تكون مهيأة لتلقي العلم في بنسلفانيا بشكل سلس باعتبار أن هذه الجامعات العظيمات/الشقيقات لا يختلفن في شيء تقريبا. في المقابل لا بد أن نتوقع أن شخصا مثلي تلقى تعليمه في الجامعة الأردنية وتعود ثقافته إلى "الضفة" سيواجه صعوبات جمة في قلعة عظيمة من قلاع العلم مثل بنسلفانيا، أما أن تأتي من كولومبيا أو بيركلي أو ستانفورد فلا بد أنك في أنسب وضع لكي تحس أنك في بيتك، أو بلغتهم to feel at home.
اكتشفت بسرعة أن أليسون وغيرها يخشون من الفشل في إثبات أنهم جزء من النخبة الأكاديمية في سياق "النورمال سينس" (العلم السائد) في الولايات المتحدة. يتطلب الأمر إثبات القدرة التنافسية العالية في مضمار القراءة وكتابة المقالات التلخيصية والمقالات النقدية والتحليلية والتركيبية ...الخ على نحو مرهق شبه يومي. ينبغي تحديدا أن يتمتع المرء بميزة متناقضة تتمثل في أن يكون مبدعا وذكيا ولديه مهارات عالية في القراءة والتحليل دون أن يصل الأمر به أن "ينشق" عن ثوابت البارادايم العلمي السائد لأن ذلك يمكن أن يكلفه مغادرة الجامعة. بالإضافة إلى ذلك يجب على الطالب أن "يظهر" في المحاضرة والندوة والورشة...الخ؛ لا بد من أن يقول شيئا منتميا إلى الموقف ويبدو لافتا وذكيا. قال لي زميل ألماني كان مندهشا مثلي: إنهم يتصرفون بروح ممتثلة ومرعوبة على نحو يذكر بوصف فوكس نيوز لرعب المواطن في كوريا الشمالية. قلت له وأنا أبتسم محبطا: مع أننا نعيش هنا في بلاد حرة.
شاهدت في أثناء دراستي هناك استبعاد طالبتين من برنامج الدكتوراة بسبب نقص الكفاءة أو الموهبة ... وقد كان ذلك مرعبا بالفعل بدرجة أن يقود البقية إلى نوبات الهلع خوفا من مواجهة المصير ذاته. كان لا بد من تملق الأساتذة على نحو دائم بشكل "ذكي" ومدروس بإشعارهم بشكل غير مباشر ولا مبتذل بأنهم نعمة علمية كبيرة على مجتمع العلماء والبشرية كلها. في هذا السياق كنت أعجز عن الامتناع عن الضحك وأنا أرى زميلتي إليسون تتزلف لأستاذ نيوليبرالي من أنصار الحرب في العراق، ثم تنتقل لمكتب الأستاذ الماركسي الوحيد في الجامعة لتجامله بخصوص صدور بحثه عن تاريخ التمييز العنصري في الولايات المتحدة وأبعاده الطبقية، وصولا إلى مجاملة أستاذ نظرية العلوم السياسية الذي يعد تلميذا من تلاميذ جوديث بتلر الموهوبين. خلطة عجيبة: محافظ جديد، ماركسي، وما بعد حداثي/بنيوي. لكن مثلما أوضح اريك فروم في وصفه لشخصية السوق: أنا جاهز لأن أكون بأية صورة تضمن لي النجاح أو أن يستقبلني بها السوق.
في المقابل في الجزء الآخر من العالم، الذي يسمى ناميا أو متخلفا بما في ذلك الوطن العربي كله، ينتشر نوع من التعليم الخفيف السهل الخالي من الفاعلية العلمية والأكاديمية. لكنه في الوقت ذاته تعليم أكثر ملاءمة للمارسات التحررية التي تمكن التلميذ من التفكير بمقدار من الاستقلالية عن النظام الأكاديمي بما يسمح ولو بمقدار صغير أن يكون له صوت شجاع في مواجهة عسف الأكاديميا وتضبيطها الناعم المريع. لكننا لا نتوهم أن التلميذ الفلسطيني على سبيل المثال يفكر لنفسه، أو أنه منعتق من أية قيود فكرية أو نفسية. الطالب الفلسطيني "محظوظ" من ناحية تحرره من الخوف أو القلق المتصل بالامتحان، أو أهمية الشهادة في تحديد مستقبله العلمي أو الوظيفي أو رتبته الاجتماعية...الخ، باعتبار أن الشهادة الجامعية لا قيمة لها تقريبا في تحديد أي شيء، وأن الوظيفة البائسة التي يمكن الحصول عليها بفضل هذه الشهادة تعتمد غالباً على العلاقات والواسطات السياسية والحزبية والعشائرية، وأنها في نهاية المطاف لا تسمن ولا تغني من جوع.
يختفي أي اهتمام للتلميذ ب "العلم" لحظة تخرجه من الجامعة. ولا بد أن رعب القلق المتصل بمواصلة تطوير الذات من أجل المحافظة على فرص التنافس في سياق السوق الرأسمالي الصناعي الذي لا يشبع من التطور، لا مكان له في هذه الجهة "الفلسطينية" من العالم. ينام الخريج نوما طويلا مملاً بانتظار الوظيفة أو داخل الوظيفة. وعلى الرغم من المحاولات "الخبيثة" التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية الممولة من قبل الأمريكيين والأوروبيين لتدريب الخريجين، خصوصا من فئات العاطلين عن العمل على المهارات المختلفة من أجل تحسين فرصهم في الحصول على الوظيفة -وهو ما يشي بأن الوظيفة موجودة ولكن لا يوجد من هو مؤهل للحصول عليها-فإن معظم المتدربين يبصرون بعيونهم أن الوظائف تذهب بالفعل إلى أصحاب الواسطات والعلاقات. غني عن القول إن ذلك لا يساوي استهانة المتدرب بأنشطة التدريب المشار إليها لأنها تحتوي في نهاية المطاف على وجبة طعام وتزجية للوقت وبعض الوهم والأمل.
هناك بالطبع الكثير من العناصر المشتركة بين التعليم "عندهم" والتعليم عندنا. ومن الأمور البارزة في هذا السياق غياب الفاعلية الإنسانية الحرة الجميلة العاقلة والواعية.
عندما يكون الإنسان في حالة فاعلية جادة معنية بالعمل المنتج أو الكفاحي أو الإبداعي...الخ، فإنه يكون مستغرقاً في متعة الممارسة ونشوة الإنجاز. أما عندما يكون في وضع المتفرج الذي ينتظر الوقائع أن تأتيه من خارج ذاته دون أن يكون مشاركاً في السيرروة الحياتية، فإنه "يتخصص" في البحث عن الطرائف والمسليات والمشهيات التي تأتيه من صناع السعادة والفرح في العالم الرأسمالي المبدع في اختراع سلع التسلية التي لا نهاية لها.
لكن هذه السلع تحيل الإنسان إلى متفرج كسول يقتله الملل والإحباط بعد أن يفقد اتجاه البوصلة ويتلبسه شيطان اللاتسيس الذي يحرمه من جمالية القيمة الذاتية وقيمة العمل الجماعي التفاعلي القائم على التواصل الحي بين الذوات التي تجمعها غايات واهتمامات مشتركة تؤسس للتواصل التلقائي والمثمر بين أبناء الحي والديرة والقرية والمخيم والمدينة. هكذا مثلاً غدت حياة الناس في مناطق السلطة عندما "آمنوا" أنه لا دور لهم فيما يحدث في بلادهم، وأن حياتهم يجب أن تتجه نحو اقتناص الفرص للمناصب والمنافع والثروات، بغرض الحصول على السلع ووسائل الترفيه والسفر للتمتع في أرجاء الدنيا من قبيل تركيا أو ماليزيا..الخ.
عندما يغدو الإنسان متفرجاً على حياته ومصيره، يموت الكائن الحر الفاعل والمنتج والمفكر، ويحل محله شبح بائس يبحث عن الفرح في الاستهلاك الفج لشهوات الفرج والبطن وما يرضي قشرة العقل الخارجية من أخبار ومعلومات تافهة تتصف بالغرابة المصطنعة التي تبهت مع الزمن والتكرار، وتفتح مثل الإدمان، الشهية للمزيد من جرعاتها.
فقط عندما يعود الإنسان إلى أخذ مصيره السياسي والاجتماعي والاقتصادي بين يديه بالتعاون والتشارك مع إخوته في الوطن والإنسانية، يغدو للحياة معنى وطعماً، وتصبح الأخبار الغريبة والطريفة بضاعة كاسدة لا تهم أحداً.
لكن العقل الأداتي "الغربي" "المتقدم" والفاعل، وتابعه العقل الأداتي المحدود الموهبة والتدريب في بلادنا، يخيمان على مدينة الإنسان كما لم يحدث في أي وقت سابق. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يفقد الإنسان قدرته على الاستبصار. تمتد التقنية الانضباطية إلى الحقول كلها. فالعقل المضبط هو الذي يسود في سياق التعليم في مراحله ومؤسساته المختلفة. وقد تمكن سحر المعلومة التي يوفرها هذا الزمن التكنوجي الرهيب من تكريس دور العقل في استهلاك هذه التكنوجيا وتطويرها إلى ما لا نهاية. لن نتمكن بطبيعة الحال -مهما فعلنا- أن نقيم خطاً فاصلاً بين رأس المال والتكنولوجيا. لقد جرف رأس المال السريع بطء الحياة التي كانت سمة مميزة لحضارة ما قبل الرأسمالية. لكن الطبعات الأخيرة من التكنولوجيا تسير في إيقاع مجنون لا مثيل له في التاريخ. وبسبب هذه السرعة المذهلة، تغدو الأشياء غير واقعية وغير حقيقية، وتنعدم القدرة -إذا استعرنا سارتر - التي يتمتع بها الإنسان العادي لفرض الأشكال على الأشياء. هكذا "تضيع الطاسة"، ويغدو الناس "مضروبين على رؤوسهم" تحسبهم سكارى وما هم بسكارى. لقد "ميعت" التكنولوجيا الواقع وأسالته نازعة عنه إهابه الصلب، محيلة إياه إلى سيلان لا معالم له، فأصبح الحلم والكابوس والأغنية والحب والحرب تفاصيل لها نوع الحضور نفسه الذي هو بالطبع لمفردات المنتجات التكنولوجية من قصص وأبطال وبضائع.
وفي هذا السياق ضاعت الذات الفاعلة وقدرتها على التساؤل: كيف نغير العالم اليوم؟ يبحث الثوريون عبثاً في النظريات المختلفة عن مخرج من "واقع" يكتظ فيه البريد الإلكتروني والفيس بوك وتويتر..الخ بمئات بل آلاف وربما ملايين الرسائل التي تمتلئ دعوات من كل حدب وصوب: منظمات ومهرجانات وبيانات تتناقض وتتقاطع وتتباعد وتتقارب وتلمس طيفاً لا حد له من الاهتمامات، ولا تترك حيزاً أو نقطة مضيئة أو معتمة في حياة الإنسان إلا أتت على ذكرها وتحفيزها وإثارتها. وفي هذا الاتجاه، لا يبقى للمرء الذي يلهث طوال يومه من شاشة إلى شاشة من رغبة في التفكير في شيء، هذا على افتراض أن أحداً ما زال يمتلك القدرة للقبض على المعنى الذي تراجع إلى مستوى الجزئي/الوضعي الذي ينكر الكلي والشامل والرؤيوي، باعتباره محض إنشاء.
من أين نأتي بالإنسان العاقل الحر ذي النواة الداخلية المتماسكة؟ لقد أزاحت التكنولوجيا العقل التركيبي والقيمي على السواء. وانتصرت للعقل التصنيفي، التكميمي، وانتصرت للسيطرة على الإنسان بالذات. لم تعد الغاية ضبط الطبيعة، ذلك كان الهدف المتواضع للعلم، أما التكنولوجيا الجديدة فقد سيطرت على الإنسان وعلى عقله محولة إياه أداة طيعة في يد "المؤسسة". ليس هنالك من قيمة وراء الفاعلية التقنية، وكل من يعرض بضاعة تتجاوز ذلك ينظر له بازدراء في السوق التكنولوجية/الرأسمالية المعاصرة. ولذلك، فقد غدا العقل "العملي" الأداتي هو العقل الشرعي الوحيد، المتاح والمطلوب. ولذلك أيضاً، فإن قيمة الوقائعية التفصيلية التي تنزع إلى تحسين التفاصيل قد قتلت "الرؤية" تماماً. ومن هنا أصبح كل رؤيوي متهم بأنه أيديولوجي. لكن "الأيديولوجي" الذي يحلم بولادة الإنسان الحر القادر على الفعل المنتج والأخلاقي والجميل هو الأمل الوحيد المتبقي من أجل بناء عالم يتجاوز "أداتية" الرأسمالية الهادفة إلى الربح حتى لو كان ذلك على حساب عقل الإنسان وحريته وانعتاقه.
حاشية: (نشر هذا المقال قبل شهر تقريبا في جريدة الحدث الفلسطينية)