الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

هل باع الفلسطيني أرضه؟| بقلم: عيسى فريد مصلح*

2021-03-14 12:17:06 PM
هل باع الفلسطيني أرضه؟| بقلم: عيسى فريد مصلح*
عيسى مصلح

 

لم يتوقّف المطبّعون الجُدد عن النّعيق واتّهام الفلسطيني بأنّه باع أرضه وقبض ثمنها مالا، ذاك منذ موجة التّطبيع الحديثة التي تقودها تيــّارات مُتنفذةٌ داخل دهاليز بعض الأنظمة العربيّة. وهذا بالمناسبة شعارٌ تضليليٌّ تعتمده الرّواية الصهيونيـّــة من أجل مسخ الفلسطيني وإظهاره بمظهر الوضيع الذي تجرّد من أيِّ قيمة أخلاقية وباع وطنه بثمنٍ بخس، وقبض ثمنَ خيانته، ثم أفاق بَعد ذلك، وندِم ندماً جارفاً على ما اقترف، وعاد مطالباً في استرجاع أرضه وردِّ المال لأصحابه.

إنّ شخصيّة الفلسطيني في الرّواية الصهيونيـّــة تتقاطع إلى حدٍ كبير مع شخصيّة يهوذا الإسخريوطي في كتاب العهد الجديد في المسيحيـّة. فيهوذا ابن سمعان الإسخريوطي – القريوتي الفلسطيني، أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، هو من خان ابن الإنسان وسلّمه بقُبلةٍ لليهود مقابل ثلاثين من الفضّة. ثم عاد بعد ذلك وندِم على فعلته، وراح فردَّ المال لليهود وأقدم على قتل نفسه لشدّة ندمه حسب الرّواية الإنجيليّة.

نلاحظ في القصّتين الآنفتين أنّ العامل الثّابت في الرّوايتين هو اليهود، أمـّا المتغيِّر فهو شخصيّة الخائن، وبالصّدفة غير المحضة يتّفق في القصّتين أن يكون صاحب المال الّذي يهوى شراء الذّمم يهوديـّاً، والخائن فلسطينيّا. وما العجب في ذلك؟!

لكن دعونا نقف هنا قليلاً لنسأل: هل قام الفلسطينيُّ فعلاً بفعل الخيانة هذا؟ هل فعلاً كان الفلسطينيُّ خائناً، أم ساذجاً، ام مُفترى عليه؟ أمّــا عن القصّة الأولى، فلا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلّا باستحضار وتحليل ما كانت عليه الحالة الفلسطينيّة آنذاك، حين اتُهم الفلسطينيُّ ببيع أرضه.

لا مجال للشّك بأن الجريمة التي ارتكبها العالم من خلال اليهود بحقّ الشعب الفلسطينيِّ عام 1948 لهي من أبشع الجرائم التي ارتُكبت بحقّ الإنسانيّـة منذ فجر التــّاريخ. وما يزيدها قباحة أنّ تداعياتها تتفاقم بتقادم العهد. خلافاً للجرائم العادية والتي يزول أثرها بمرور الزمن. إن نكبة فلسطين تسبّبت بتشريد وتقطيع أوصال ما يربو على 800 ألف فلسطيني أصبحوا الآن خمسة ملايين نسمة ويزيد، يعاني غالبيتهم من ظروف حياتيـّة بائسة في مخيّمات بدائيـّة تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة. وبالرّغم من فداحة الكارثة الّتي حلّت على الفلسطينيّين عام 1948، إلا أن نكبتهم كانت قد بدأت قبل ذلك بنحو 90 سنة.

إن نكبة الفلسطينيّين بدأت عملياً عام 1858 تحديداً، حين قامت الدولة العثمانية بسنّ قانون تسجيل الأراضي (الطابو) والذي يعطي مهلة 6 أشهر لتسجيل ملكيّـة الأراضي لأصحابها في دائرة الطابو، فإذا لم تُسجَّل خلال هذه المدّة يكون للحكومة الحق في طرحها في المزاد العلني ونزع ملكيـّتها من أصحابها الأصليّين. لكن بالطّبع الفلاح الفلسطيني البسيط- والذي كان يُثقل كاهله بأصناف متعدّدة من الضّرائب مثل ضريبة العشر (10% من المحصول)، وضريبة (الويركو) وهي ضريبة مفروضة على الأراضي والمسقوفات، وضريبة الطّرق المعروفة ب(الدربيّة)، وضريبة المواشي والأغنام، والضريبة العسكرية وغيرها- كان يخشى هذا الإجراء – أي تسجيل أرضه – ولم يقتنع بوجوب حصوله على صكِّ ملكيّة للأرض التي لم ينفكّ عن زراعتها وأجداده من قبله منذ عشرات السنين. ونظراً لانعدام ثقته بالحكومة المسؤولة عن رداءة معيشته، اعتقد الفلّاح الفلسطينيّ أن هذا الإجراء ما هو إلا خدعة تسعى من خلالها الحكومة إلى تحقيق غايات أخرى. يذكر المؤرّخ الفلسطيني زهير الفاهوم في كتابه (فلسطين ضحية وجلادون) قصة عن الشّيخ يوسف جّرار (شيخ ال جرّار) عندما جاءه مأمور الطابو ليطلب منه تسجيل أراضي قرية صانور قضاء جنين، فما كان من هذا الشّيخ الجليل إلّا واستلَّ سيفه وقال "هذا السّيف هو طابو آل جرّار". ذلك وأسبابٌ أخرى لها علاقة بتعوّد الفلاّحين على نظام المشاع والملكيّة الجماعيّة لأرض القرية، فضلاً عن إفلاسهم وعجزهم عن تأمين رسوم التسجيل، أحجم كثيرٌ من الفلاّحين الفلسطينيّين عن تسجيل أراضيهم لدى الطابو. أما بعضهم فقام بالتّهرب من تسجيل أراضيهم بأسمائهم ولجأوا إلى إيقافها لبعض المؤسّسات الدّينية، لأنّ أراضي الأوقاف آنذاك كانت معفاة من الضّرائب الحكوميّة. وعمد آخرون على تسجيل أراضيهم بأسماء الأُسر صاحبة الجاه والثّراء والنّفوذ إلى أجل مسمّى لتبقى أمانة في أعناقهم، يعيدونها لأصحابها في الوقت المناسب. الأمر الذي لم يحصل قط، بل حتّى قبل أن يجفّ المداد عن وثائق الملكيّة الجديدة، تصرّف المالكون الجدد وكأنهم أصحاب الأرض ولهم الحق بالتّصرف المطلق فيها. أما جميع الأراضي غير المسجّلة الأُخرى، فكانت تطرح تباعاً في مزادات علنيّة تُبتاع من قِبل المرابين والصّيارفة وسماسرة العقارات وغيرهم بأسعار بخسة تراوحت ما بين 5-25 قرشاً للدونم الواحد. أما تلك التي تبور 3 سنوات فأكثر، يتم مصادرتها بموجب قانون عام 1860، وتصبح ملكاً للدولة يحقّ لها التّصرف بها كما تشاء. وقد فقد فلّاحون آخرون أراضيهم نتيجة لتراكم الدّيون عليهم وعدم تمكنهم من سدادها.

تلاحقت كلُّ تلك الأحداث لتؤدّي إلى ظهور شريحة من الملّاكين الكبار الجدد، وتألفت من: السّلطان عبد الحميد شخصيّاً، عائلات عربيّة فلسطينيّة، عائلات عربيّة غير فلسطينيّة، وملّاكون أجانب من الذين استفادوا من قانون عام 1860 والذي يسمح بتملّك الأجانب لأراضٍ فلسطينيّة، في الوقت التي تعاظمت فيه مديونيّــة الدّولة العثمانية. حينها استغلت الدول الأوروبية تعاظم مديونية الدولة العثمانيّـة وهرعت تبتاع منها مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينيّة وتبعث رعاياها إلى فلسطين وتشرع ببناء المستوطنات عليها. إضافة إلى قدوم "الهيكليون الجدد" الألمان الذين ابتاعوا الأراضي وأقاموا عليها 3 أحياء ألمانيّة تابعة للمدن إضافة إلى 3 مستوطنات زراعيّة. وعائلة بيرغهام الألمانيــّة اليهوديــّــة التي قامت بابتياع أراضٍ من قرية أبو شوشة قضاء الرملة والتي قُدّرت مساحتها ب 500 فدّان بمبلغ 40 ألف قرش من الدّولة العثمانيــّة بعد أن عرضتها في المزاد العلني نتيجة لعجز الأهالي عن دفع الضرائب.

ومع ظهور الحركة الصهيونيـّــة ذات الشهيّة المنفتحة لاستلاب الأرض الفلسطينيّة، سارعت بتقديم عروض مالية سخية ومريبة لابتياع الأراضي الفلسطينيّة من الملّاك العرب والمحليّين، الذين لم يدركوا حينها المكيدة التي تُدبَّر لهم من اليهود المساكين المطرودين من كل مكان، والذين لا وطن لهم. فابتاعت من عائلة سرسق اللبنانية مساحات شاسعة من أرض مرج ابن عامر، ثم من عائلة التويني أراض من مرج عكا. أما من سليم العمري واخوانه من سوريا، فقد ابتاعت الحركة الصهيونيـّــة مناطق كبيرة من الأراضي في طبريا والجليل الشّرقي. إضافة إلى ابتياعها مساحات شاسعة أخرى من عائلات القبـّاني وقصّار وبسترس وخوري في الخضيرة ويافا والحوارث وعكا وسهل الحولة والجليل الأعلى. وبذلك، تكون الحركة الصهيونيـّــة قد نجحت بامتلاك أكثر من 400 ألف دونم من الأراضي الفلسطينيّة في الجليل الأعلى والأسفل والخضيرة والقدس. كانت هذه الصفقات تتم بدفع الدّيون المترتبة على الفلّاحين الفلسطينيّين ويتم فوراً طردهم من الأرض. حيث يقول أحد نشطاء الحركة الصهيونيـّــة (يتسحاق افشتاين): "وعدنا نشتري قطعة أرض، ونبعد عنها مزارعيها، لا يزال حتى اليوم يرنّ في أذني نحيب النساء الفلسطينيّات اللواتي أُجبرن مع عائلاتهن على الرحيل من قرية الجاعونة، التي بنينا مكانها مستوطنة (روش بينا)".

رغم سذاجته، تنبّه الفلّاح الفلسطيني متأخراً إلى طموحات المشروع الصهيوني في الإجلاء الفلسطيني والإحلال اليهودي، بحيث حدثت أولى هبّات الفلاحين الغاضبة عام 1886 على مستوطني مستوطنة (بيتاح تكفا) الصهيونيـّــة. وبدأت منذ ذاك العام الصّدامات المتتابعة بين أهل البلاد والغزاة المغتصِبين الذي تفوّقوا في العدّة والعتاد على الفلّاحين البسطاء. تم اقتلاع العديد من سكان القرى الفلسطينيّة وتدميرها بالكامل، وأخرى تم الاستيلاء عليها وتسليمها لليهود ليسكنوها، بالرّغم من المقاومة الشّديدة التي أظهرها هؤلاء البسطاء. ويذكر من هذه القرى قرية المطلّة الدرزية لصالح المستوطَنة اليهودية التي تحمل ذات الاسم. وغيرها الكثير. حيث شكل أهل الأرض الأصليّين من الفلسطينيّين في ذلك الوقت فقط ما نسبته 95% من إجمالي السكان! لحقت ذلك هجرات يهوديّة متتالية أخلّت بالتركيبة الديمغرافية الأصيلة للمجتمع الفلسطيني. كل هذا حصل قبل عام 1916. وصولاً إلى عام النكبة وما سبقه وتلاه من جرائم متتابعة بحق الإنسان الفلسطيني وهويّــته وإرثه الحضاري على مرأى ومسمع من العالم كله.

إذن، هكذا خسر الفلسطيني أرضه قديما، بعضها بسبب سذاجته، وبعضها الآخر بالمكر والخديعة والاقتلاع. كما ولا يزال الفلسطيني لغاية الآن يخسر جزءاً آخر من أرضه كل يوم بالسرقة والترهيب والتدمير والقتل. فهل حقّاً كان الفلسطيني خائناً؟ أم ساذجاً؟ أم مفترى عليه؟

في القصّة الثانية نرى أن يهوذا الاسخريوطي وسمعان الغيور هما التلميذان الوحيدان للمسيح من بين الاثني عشر تلميذاً الذين يعود أصلهما إلى الغيورين أبناء الزيلوت وهي طائفة يهوديـّة عرفت بتعصّبها ومقاومتها للاحتلال الرّوماني وطالبت بتحرير أرض فلسطين من التبعيـّة الرّومانية. أما باقي التلاميذ فيعود أصلهم إلى الجليل.  وسادت المجتمع اليهودي آنذاك -كما اليوم- الطبقيّة والعنصريّة بين فئاته ومكوّناته. فكان الغيورون على عداء دائم مع الأحزاب اليهوديّة الثّلاثة الأخرى وهي الفريسيّون، الصدوقيّون، والهيروديّون. فهل لهذا علاقة بأن يتم اتهام يهوذا بخيانة المسيح دوناً عن تلاميذه الآخرين؟

جاء في إِنجيل يهوذا المنحول -لا تعترف به الكنيسة المسيحيّة- والذي تم اكتشافه في منطقة المنيا بمصر على مخطوطة تعود لبداية القرن الثالث الميلادي، جاء فيه "أن المسيح اطلع يهوذا على أسرار الكون منذ نشأته، وأنه الأفضل بين التلاميذ". حيث يزعم الإنجيل المنحول بأن التلاميذ كلّهم على باطل فقد كفروا بالإله الحقيقي الّا يهوذا الإسخريوطي. وفي روايات أخرى، ذُكر أن يهوذا لم يخن المسيح بقصد الخيانة، إنما هو نفّذ ما طلبه منه الناصري لكي يتعجّل عمله ويدفعه إلى إظهار قوته المعجزة بدعوة من السماء ليتمّم رسالته. فهل كان يهوذا فعلاً خائناً، أم ساذجاً، أم مفترى عليه؟

تبقى الإجابة على هذا السؤال برسم البحث، نظراً لبعد الفترة التي عاش فيها المسيح عنّا زمناً وثقافة. كما ويبقى المنهج الاركيولوجي هو بوصلة العلم في إثبات أي سرديّة تاريخيّة أو دحضها.

*باحث فلسطيني