تفسير أحلام
بقلم: د. عامر بدران
الكتابة تحايل على قوانين علم النفس. وهي بديل مقنع، مؤقتاً، للأحلام. أو هي وعاء للحلم وتفسيره معاً.
أن تكتب، يعني أن تفسر حلماً ما. أن تشرحه لنفسك أولاً. ثم، إن اقتنعت بالجدوى، فعليك أن تنثره قمحاً للحمامات. الكتابة هي أن تعود الحمامات إلى ذات المكان عندما تجوع. وإلا فقمحك لا طعم له.
تقول الحكاية إن تاجراً كان يتجول في السوق، فرأى، على رف إحدى المكتبات، كتاباً لتفسير الأحلام، فاشتراه وعاد بغبطة المنتصر إلى البيت. قرأ الكتاب فأعجبه، فأعاد قراءته مرة واثنتين إلى أن صاح ديك الفجر. فنام التاجر نهاره ولم يذهب إلى عمله. ومنذ ذلك الوقت بدأ يفسر لأصدقائه وجيرانه أحلامهم: الحية حياة. رؤية الميت في الحلم تنذر بكارثة. رؤية المال تعني زوجة جديدة، وهكذا. كان يسهر إلى ما بعد منتصف الليل ويصحو بعد منتصف النهار، يستقبل الحالمين ويودعهم، إلى أن كسدت تجارته وجاع أولاده. لم تجد زوجة مفسر الأحلام الجديد حلاً إلا أن تشكو أمرها للمختار، والذي بدوره وعدها أن يعيد زوجها إلى سابق عهده، تاجراً يحسب له الناس ألف حساب.
- اتركي باب المنزل مفتوحاً هذه الليلة!. قال المختار لزوجة التاجر. ثم جاءه قبيل الفجر بقليل، صارخاً بأعلى صوته: “هيا انهض من نومك، أريد أن تفسر لي حلماً أزعجني”.
- الآن؟ سأل التاجر وهو يفرك جفنيه نعساً. - نعم الآن. أجاب المختار، فهذا الحلم لا يستطيع الانتظار حتى الصباح.
بدأ المختار بسرد حلمه، والتاجر يستمع إليه نصف نائم: “يا سيدي، حلمت أني أقف على بداية درج طويل طويل طويل. وظل يكرر كلمة طويل إلى أن صرخ التاجر: وبعدين يا رجل؟ ماذا بعد درجك الطويل هذا؟ لقد فهمت أنه طويل، فماذا بعد؟ أكمل المختار بكل ما لديه من هدوء: بدأت بالنزول. كنت أنزل وأنزل وأنزل...
لقد كرر المختار كلمة “أنزل” وتصريفاتها النحوية، وشبيهاتها اللغوية إلى أن انفجر التاجر في وجهه: “يا رجل، أتوسل إليك أن تصل، كرمى لله أريد أن أنام”.
وصل المختار أخيراً، وصل بعد أن وصف نزوله بكل ما تعلم من لغة وفصاحة. وصل بعد أن كاد يغمى على التاجر من الضيق والملل. - وصلتُ إلى ساحة كبيرة كأنها ملعب كرة، قال المختار. فتنهد التاجر: الحمد لله، أهذا هو حلمك؟
أجاب المختار: لا، هذا نصفه. لقد كان في الساحة زوج من الأعمدة الرخامية الضخمة. فحملت واحداً على كتفي الأيمن والآخر على كتفي الأيسر وبدأت بالصعود.
هنا، نهض التاجر من سريره صارخاً: توقف أرجوك. لقد أمضيت ساعتين من الوقت وأنت تنزل خالياً، فكم يلزمك من الوقت للصعود محملاً بعامودين رخاميين؟! من أخبرك أنني أفسر الأحلام؟ من كذب عليك هذه الكذبة؟ أنا يا صديقي تاجر وأريد الذهاب إلى عملي. انتهت الزيارة.
إن كانت الكتابة تفسيراً لحلم، فهل يُعد الاستنكاف ضِيقاً من أحلام الآخرين؟
إنه كذلك في حالة واحدة، حين يظن الكاتب أن وظيفته تنحصر في إقناع الآخرين بخطأ أحلامهم. فعلم النفس يقول إنك إن حملت فكرة ما وتريد الدفاع عنها، فلا تحاول إقناع خصمك بتبني فكرتك، ولا تحاول أيضاً، تجييش من يؤمنون بفكرتك مسبقاً للتصفيق لك. بل فكر بأولئك الذين لا يحملون فكرة ما. الذين لا يقفون إلى جانبك أو إلى جانب خصمك. فكر بهم، بالمنتظرين الذين يقفون مع المنتصر حال انتصاره. ولانتصاره لا يلزمه أكثر من تفسير حلمه هو بلغتهم هم، لا بلغته أو بلغة خصمه. الكتابة إذن، هي أن تطرح فكرتك بلغة القارئ، أن تجعله شريكاً جدياً بتفسير حلمك. أن تراه وهو يعود إلى ذات المكان بحثاً عنك. أن تدله كيف يحلم، ثم في النهاية، أن تجلس بكل ما أوتيت من هدوء لتفسر له حلمه (بلغتك أنت هذه المرة)، دون أن يبدو على وجهك الضيق.
الكتابة صعودٌ محملٌ لا نزولٌ خفيف. هكذا فقط نستطيع خلق قارئ ذكي متطلب. يشاركنا الحلم ويعدّل فيه حين يجب التعديل، أو يصحو مذعوراً حين لا يعجبه شيء. هي رفعٌ تدريجي لذائقة القارئ، لا محاولة محمومة لإرضائه.
عزيزي القاريء: لستُ هنا لإرضائك. كما أنني لستُ هنا لخوض معركة تفتقر إلى الندية معك، كونك لا تستطيع الرد. لقد اخترتُ هذه الزاوية لأحلم فيها معك، أن تكون شريكي ما استطعت. لقد شرّفتني إدارة الصحيفة بذلك وأنا ممتن لها. وممتن لك أيضاً إن صرخت في وجهي: "لقد مللت منك فتوقف".