قد يبدو هذا العنوان وكأنه سؤال يهدف إلى التسويق الإعلاني، كما كان سائداً في زمن الأنظمة الشمولية التي سيطرت طويلاً على المنطقة العربية قبل عقود، وما زال بعضهم يعيش تلك الحقبة معزولاً عن الواقع وعن هموم الناس، بما يجلبه من خراب. إلا أنه في الواقع هو سؤال موجّه لبعض الذين يَدَّعون انحيازهم اليوم لمتطلبات التغيير، ولكنهم عندما كانت لَبِنات هذا التغيير متاحة وفي متناول اليد، أو أن عوامله كانت تتدحرج دون أن يكونوا راغبين في رؤيتها رغم ادعاءات بصيرتهم في قراءة الواقع الذي كان يعمل على وقف الانهيار وتكريس نهج تنموي ديمقراطي يؤسس للمستقبل؛ انضم هؤلاء البعض للأسف، في حينه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى جوقة لم يكن لديها من جدول أعمال سوى عمل كل شيء لتشويه وشيطنة تلك المرحلة التي كان يمكن أن تؤسس لمثل هذا التغيير، بفعل ما تحقق فيها من اختراقات بارزة في الوعي العام والممارسة الميدانية إزاء المهمة المركزية لشعب فلسطين، وهي استراتيجية الصمود وتمكين الناس بكل ما يوفر لهم من متطلبات هذا الصمود في معركة البقاء، وهو الأمر الذي أقلق دوائر صنع القرار في المؤسسة السياسية الإسرائيلية؛ من ترسيخ هذه الاستراتيجية على الأرض.
شكّل الانقسام في الواقع الفلسطيني لحظة الكسر المفصلي في مسار تراجع دور الحركة الوطنية المعاصرة من حيث مغامرتها الأصعب أو مقامرتها بإنجازاتها التاريخية منذ بداية الثورة الفلسطينية مروراً بالانتفاضة الكبرى وحتى قيام السلطة الوطنية، وذلك بالتوقيع على إعلان المبادئ المعروف بـ«اتفاق أوسلو» في 13 سبتمبر (أيلول) عام 1993، في حديقة البيت الأبيض بواشنطن.
منذ تلك اللحظة التي اعتقدت فيها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أنها لحظة موسم الحصاد التي ستنقذها من عزلتها بعد حرب الخليج، مُقامرة بكل الإنجازات والرصيد الذي حققه الشعب الفلسطيني، منذ انطلاق الثورة المعاصرة وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في أواسط الستينات ومرحلة الكفاح المسلح في الخارج والجماهيري واسع النطاق الذي تُوّج بالانتفاضة الكبرى، في لعبة الروليت الروسية، دون اكتراث ليس فقط بمعارضيها، وفي مقدمتهم حركة حماس، بل وأيضاً دون أن تحسب حساباً للشعب الفلسطيني الذي بدا وكأن كيانيته، بما يشمل هويته الوطنية، التي شكلت الإنجاز الأكبر، قد تتفكك، مقابل ما اعتقدته ممكناً بتجسيد تلك الهوية في دولة أوسلو التي استنزفت كل ذلك الرصيد، متنازلة، أي قيادة المنظمة، عن الحقوق التاريخية، ومعترفة بمضمون الرواية التوراتية الصهيونية دون أن تقدم لها إسرائيل أي اعتراف أو التزام سوى بتمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، الذي من دونه لا قيمة لهذا التنازل التاريخي الذي قدمته المنظمة باسم الشعب الفلسطيني للحركة الصهيونية ومشروعها الاستعماري، وليس لإسرائيل كدولة بحدود معلنة ومحددة؛ وكذلك دون الانتباه الجدي في حينه لسيناريو المماطلة المنهجية والتلاعب بمستقبل التسوية ومضمونها، بل ونفض اليد منها، الذي بدأ فعلياً مع رابين نفسه الذي لم يبلور المحطة الأخيرة للتسوية، ودشّن مقولة: «لا مواعيد مقدسة»، هذه المقولة التي شكلت مفتاح الانقلاب على كل مسار التسوية، بدءاً من حقبة نتنياهو الأولى، مروراً بحكومتي باراك وشارون، وتأبينها نهائياً في عهد حكومات ملك اليمين العنصري نتنياهو، وانتهاءً بما قدمه ترمب لنتنياهو من وعد يتجاوز كثيراً ما كان يُعرف بـ«خطة ألون للتسوية الإقليمية».
في الخندق المقابل، تعاملت القوى الرافضة لأوسلو في فلسطين سواء الإسلامية منها أو العلمانية على حد سواء، مع السلطة الناشئة كمعارضة رفضاوية ليس فقط لاتفاق أوسلو ومخاطره السياسية، بل وللسلطة الفلسطينية ذاتها التي نشأت بموجب ذلك الاتفاق نافضة يدها من مسؤولية صون الإنجازات ووحدة النسيج الوطني الذي تكرس عبر سنوات طويلة، بما في ذلك من دورها في تحديد مسار ومسؤوليات السلطة الوطنية في بلورة وتطوير التحول المطلوب من مرحلة التحرر الوطني لمرحلة تتداخل فيها هذه المرحلة بطابعها التحرري للحركة الوطنية مع مهمات البناء الديمقراطي في إنشاء وتكوين دور السلطة، التي باتت مكوناً - إن لم يكن شرطاً واجباً - بإمكانية إنجاز التحرر الوطني بإنهاء الاحتلال عن جميع الأرض المحتلة منذ الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967، وفي مقدمتها القدس المحتلة.
لقد حكم هذا الموقف المتنافر لطرفي الحالة الفلسطينية ممثلاً بالاتجاه المقرر في السلطة الوطنية، ليس فقط لمسار العملية التفاوضية مع حكومة الاحتلال، بل ولمضمون بنية وفلسفة الحكم الذي تؤسس له السلطة الوطنية. وذلك بالإضافة إلى سعي القوى الرفضاوية في حينه، لا سيما الإسلامية منها، ليس فقط لمعارضة الاتفاق وتبعاته أو تصويب مساره والتخلص من التزاماته الضارة، بل وأدارت الظهر لنتائج ومضمون ودلالات ما تمارسه السلطة الناشئة من أخطاء استراتيجية في البنية والوظيفة المركزية لهذه السلطة المتمثلة بتمكين فلسطينيي الأرض المحتلة من الصمود الميداني، ومساندة قدرة القيادة على تصويب مسارها وتحقيق الصمود السياسي في معركة التفاوض، أو نفض اليد منها عندما يكون ذلك واجباً؛ فاستمرت حماس في بناء ما يُعرَف بمجتمعها المضاد، في انتظار لحظة السيطرة على التمثيل التي ظلت تؤسس لها منذ أواسط السبعينات وانتزاع الاعتراف العربي والدولي بمكانة المنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، أو تنصلها وفق نظرية «ألم نقل لكم هذا؟!»، لتعتاش على هذه الإخفاقات التي ترافقت مع تصاعد حالة الفساد وسوء الإدارة التي تمتاز بها دوماً مرحلة احتكار الحزب الواحد للسلطة ومقدرات الشعب، وبما ساعد تلك القوى، التي تشكّل الوجه الآخر للاتجاهات التي تحمل إمكانيات التفريط، من أن تعيد بناء مجدها الذي كاد يتهاوى في إطار السنوات الأولى للانتفاضة الشعبية، قبل الانجرار لاستراتيجية استعجال التسوية، حتى لو كان ذلك على حساب خراب مالطا، كما اتضح بعد ذلك بسنوات عجاف وحصادها المر.
شكلت هذه السنوات مرحلة البناء الهشّ الذي صبغ طابع السلطة ووَسَمها بالفساد والمحسوبية وحكم الحزب الواحد والصراع بين أجنحته المختلفة، ليس لتصويب التسوية وشروطها أو الخروج منها، بل التسابق في تقديم التنازلات لإسرائيل في وقت يزداد فيه التصلب في إدارة العلاقات الوطنية الداخلية والاستعلاء في العلاقة مع الناس، لدرجة كادت الأمور حينها تنفجر في وجه قيادة السلطة وأركانها، عشية «كامب ديفيد» عام 2000. هذا كله من ناحية، وما إلى ذلك من اتضاح فشل مشروع التسوية التفاوضية على أساس أوسلو، والانجرار إلى المصيدة التي خططت لها إسرائيل بدقة، كخلاصة تعلمتها من تجربة الانتفاضة الشعبية، لدفع الصراع نحو انتفاضة ذات طابع عسكري وبأجندات مختلفة مكّنت إسرائيل لاحقاً من تنفيذ انقلابها المعدّ مسبقاً على كل مشروع التسوية، تمهيداً للسيطرة على بنيتها ومسارها.
في تلك الأثناء نجحت حماس في استثمار هذين الفشلَيْن البارزين في الحكم والتفاوض لتقدم معادلتها التي تشمل، ليس فقط بأن «الإسلام هو الحل»، بل وإرث النضال الوطني الذي قادته منظمة التحرير، لا سيما الانتفاضة الشعبية الكبرى، بما أحدثته من تحولات كبرى في الوعي الدولي كرست المكانة الأخلاقية للمضمون التحرري الإنساني لعدالة القضية الفلسطينية كمكوّن ثابت من المسؤولية القانونية والأخلاقية للشعوب المساندة للعدل والسلام الدوليين.
نجحت إسرائيل استراتيجياً في تقويض مساحة مهمة من شرعية هذا النضال التحرري، ومكانة القضية الفلسطينية، عندما نجحت في جرّ النضال الفلسطيني لدائرة العسكرة والعمليات التفجيرية، بما فيها استهداف المدنيين، وضللت العالم والمجتمع الإسرائيلي نفسه بأن ما يجري هو حرب بين طرفين، وليس عدواناً عسكرياً بالقوة الغاشمة المحتلة ضد شعب أعزل يناضل منذ عشرات السنين لنيل حقوقه الوطنية، وفي مقدمتها حق العودة وممارسة حقه في تقرير المصير، مثل كل شعوب العالم.
خَلُصَتْ الانتفاضة الثانية إلى اغتيال أبو عمار وتهشيم بنية ومكانة وهيبة السلطة الوطنية وتكريس عزلتها، ودخول الحالة الفلسطينية، بقيادة المنظمة، لمرحلة الكساد والفشل التاريخي وضياع رصيدها الذي غامرت به، إثر فشل التسوية وتدمير بنية السلطة وإعادة وصمها بالفساد، ثم خسارة الانتخابات أمام الخصم اللدود (حماس)، تلاها خسارة قطاع غزة وإمعان إسرائيل في متابعة تنفيذ استراتيجيتها الدائمة؛ بفصله عن مجمل الكيانية الوطنية، بعد أن شكل القطاع منذ النكبة رافعة الهوية الوطنية ومرتكز تجسيد كيانيتها، تمهيداً لتفكيك وتفتيت الهوية والكيانية الوطنية معاً، ودخول مرحلة الصراع الداخلي المعلَن على التمثيل الذي لا يزال مستمراً حتى اللحظة، ويدفع ثمن تبعاته الشعب الفلسطيني من حياته اليومية، ومن مكانة القضية الوطنية على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومعهما تَبدُّد أمل الفلسطينيين بمستقبلهم ومصيرهم الوطني.
في وسط هذا الخراب، ظهر نهج جديد استهدف استراتيجياً استعادة بناء ثقة الإنسان الفلسطيني بنفسه وبمشروعه الوطني التحرري وتجديد سبل مقاومته للاحتلال، بل وإعادة تعريف المقاومة التي نجحت إسرائيل إلى حد بعيد بوسمها بالإرهاب، لا سيما بعد أن نصبت نفسها شريكاً في الحرب الدولية على الإرهاب، إثر الهجمات الإرهابية على برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن، وارتداد بعض المقاومين من حَمَلة السلاح للداخل في مواجهة ما يُفترض أنها الحاضنة الشعبية، متسلطين عليها تعبيراً عن حالة الخراب التي تميّزت بالفوضى الأمنية الشاملة والتعدّي على هيبة السلطة وحقوق وأمن ومصالح الناس في كل من القطاع والضفة، لتحصد نتائج هذا الخراب حركة حماس التي تتميز بالانضباط، كما حصدت نتائجه حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن أفضت هذه الفوضى إلى الانقسام. فبانقلاب حماس على السلطة وسيطرتها على القطاع بعد انقلاب إسرائيل على التسوية تم وأد مشروع التسوية التفاوضية، وما يُسمّى بحل الدولتين وانهيار برنامج المنظمة.
كان لا بد من إعادة استنهاض كل عناصر قوة المشروع الوطني، متمثلاً بقدرة الفلسطيني بخياره الأساسي، وهو البقاء على الأرض، وتعزيز هذه القدرة ومدّها بكل مقومات الصمود كاستراتيجية كفاحية، والطابع الرئيسي للمقاومة الحقيقية في مواجهة مشروع التصفية والضم والاقتلاع الصهيوني.
جوهر الصمود المقاوم وبناء الاقتصاد التحرري هو الإنسان، وتعزيز ارتباطه بالأرض التي تشكل مضمون القضية في الصراع الدائر مع المشروع الصهيوني كان وما زال يستدعي مؤسسات فاعلة وقادرة على خدمة المواطنين في مختلف المجالات، وفي مقدمتها شعور الناس بالعدالة والأمن والأمان، وليس التعدي على هذه الحقوق. إن جوهر فلسفة الحكم والمبرّر الوحيد لبقاء السلطة الوطنية ومدى الحاجة إليها لخدمة المشروع الوطني التحرري يتوقف على مدى قدرتها على القيام بهذه المهمة في سياق أي سيناريو كفاحي، وبما يشمل إعادة تعريف هذا الدور وطبيعة بنية السلطة لتستجيب لهذه المهمة.
لأول مرة منذ نشوء السلطة الوطنية باتت المقاومة الشعبية جزءاً لا يتجزأ من البرنامج الحكومي في عام 2008، وتحولت مقولة الصمود إلى مضمون عملي بعد أن ظلت شعاراً لفظياً لسنوات طويلة. ويجب الإشارة هنا أنه في الفترة الممتدة من مارس (آذار) 2008 حتى مايو (أيار) 2013 بلغ عدد المشاريع التي يمكن تنفيذها في هذا الإطار نحو ثلاثة آلاف مشروع بقيمة إجمالية تجاوزت ملياري دولار، منها حوالي ثمانمائة مشروع في المنطقة المسماة «ج» ومناطق خلف الجدار، حيث لأول مرة منذ نشأة السلطة الوطنية بات التعامل مع هذه المنطقة باعتبارها العمق الحيوي لدولة الاستقلال الوطني، بعد أن كانت وكأنها منطقة متنازع عليها، لا بل تمكنت السلطة الوطنية حينها من تجنيد دول ومنظمات دولية، بما في ذلك قيام منظمات الأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بالبدء بتنفيذ مشاريع تتصل بالمياه والبنية التحتية ودعم المزارعين في هذه المناطق، بل وقيام «الرباعية» المنحازة بقيادة الولايات المتحدة لإسرائيل بإصدار مواقف تتصل بأهمية تنمية هذه المناطق، كعمق للدولة المستقبلية في حينه. بل والأهم من ذلك كله ترسخ الوعي الشعبي بمقولة البقاء مقاومة، ومن يريد أن يتعرف على هذا الوعي عليه أن يستمع لأبو صقر في الأغوار والحاج سامي صادق في قرية العقبة التي تشكل شوكة للاحتلال في عمق الأراضي المحاصرة، بما يُسمى بالمناطق العسكرية المغلقة، وتحدّيهما لهذه السياسة الكولونيالية.
لقد شكلت هذه القضايا، مترافقة مع الشفافية المالية، وتجنيد الدعم الدولي، وتخليص مكانة القضية من محاولة إلصاق تهمتي الفساد والإرهاب بها، حجر الزاوية لما عُرف بخطة بناء مؤسسات الدولة وإنهاء الاحتلال. وأصبحت المؤسسات الدولية تتسابق في إعلان نجاح تلك الخطة تعبيراً عن مقارعة إسرائيل في الملعب الذي استحوذت عليه لعقود طويلة.
فقط فياض لم يعتبر ذلك نجاحاً، ما دام لم يلتئم جرح الانقسام المتسمم، الذي ينخر الجسد الفلسطيني، وما دامت أيضاً لم تتمكن القيادة الفلسطينية من حشد الدعم الدولي لإصدار قرار مُلزِم بإنهاء الاحتلال خلال فترة زمنية محددة، وفق البند السابع، كما سبق أن أعلن قبل اعتماد خطة العامين في حوار مطول مع مجلة الدراسات الفلسطينية عام 2009. أجراه معه د. كميل منصور ود. سليم تماري وخالد فراج، بديلاً عن المواقف المكررة التي نرددها في منبر الأمم المتحدة في خريف كل عام، بانتظار العام الذي يليه، ومعها يزداد تآكل الموقف والجسد الفلسطيني النحيف، ومعه تتآكل مرجعيات حقوقنا التي سبق أن اتخذتها الأمم المتحدة ذاتها.
لهذا كله كانت إسرائيل، وهي غير قادرة على مواجهة هذه السياسة، التي تنزع لتكريس الحقائق على الأرض بعيداً عن الشعارات الفارغة، تسعى بكل ما لديها من تأثير لتقويض هذه السياسة بادعاء احتضانها تارة، وبرفض تنفيذ أي خطوة على الأرض تظهر الإنجاز السياسي لهذه الخطة تارة أخرى، بل اعتبر معهد القدس للشؤون العامة الذي يترأسه دوري جولد ربيب نتنياهو في دراسة أعدها بنحاس عنبري ودان ديكر، أن خطة فياض لفرض حقائق فلسطينية في هذه المناطق، وفق خطة العامين، قد تؤدي في النهاية إلى اندلاع صراع مسلح مع إسرائيل التي ترفض بكل قوة تمديد أو تكريس هذا النهج على الأرض. وهذا ما رصدته منظمة ريغافيم الاستيطانية في تقرير لها صدر قبل عامين بعنوان «حرب الاستنزاف - هكذا تسعى السلطة الفلسطينية لإقامة دولة فلسطينية في مناطق C عشر سنوات على خطة فياض - تقرير حول الأراضي في (يهودا والسامرة) عن الفترة 2009 - 2019»، ونُشرت ترجمة ملخصة لهذا التقرير في مركز مدار للشؤون الإسرائيلية في رام الله، حيث رصد التقرير أن فرض ما سمته ريغافيم بالوقائع الفلسطينية على الأرض، وفق خطة فياض، تشكل الاستراتيجية الأخطر على المخططات الإسرائيلية الاستيطانية، وللأسف، هذا ما يتجاهله بعض الباحثين الفلسطينيين، بل يقللون من شأنه ويعتبره البعض سلاماً اقتصادياً، ضاربين بعرض الحائط الأهمية التاريخية والاستراتيجية لهذا الفكر الذي يشكل جوهر تنمية القدرة على الصمود واستراتيجية الاقتصاد المقاوم.
لهذا قررت إسرائيل من وسطها حتى يمينها، وليس فقط اليمين المتطرف، ضرورة التخلص من فياض، ومنع استمرار نهج بناء الوقائع على الأرض، ومعهما استراتيجية الصمود وتربية الأمل عند الفلسطيني بأنه قادر على أن يصل، ولو بعد حين.
فكيف الحال وحكومة فياض نفسها هي التي كانت أقرّت قانون الأسرى ونفذته، وكان حينها المناضل عيسى قراقع وزيراً لشؤون الأسرى، وقد رفض فياض في حينه كل الضغوط وأشكال الابتزاز الخارجية للتراجع عنه، في وقت قد تم التخلي عن هذه الوزارة ووزيرها في حكومة وفاق فتح وحماس في ربيع 2014، في تنازل غير مسبوق بهذه القضية التي تشكل جوهر مَن نحن، وليستمر بعدها مسلسل تصفية هذا الملف بكل تداعياته، كما يجري اليوم.
هذا ما يوضح لماذا كل تلك الحملة على فياض، ولماذا الريبة من إمكانية عودته، لا سيما أن خلاصة تجربته الحكومية وضعت العديد من المسؤولين الفلسطينيين أمام المرآة الحقيقية، ولسان حال هذه التجربة يثبت أنه دون استعادة الوحدة ستذهب ريحنا، وبها سنكون قادرين، لا سيما إن نجحنا في توظيف تبايناتنا التكتيكية في خدمة أهدافنا الاستراتيجية، ليس فقط على النهوض بمسؤولية الأداء الحكومي لخدمة المواطن، بل وتعديل موازين القوى نحو إقرار إسرائيل ومَن يقف خلفها بحقوق شعبنا، وفي مقدمتها حقه في العودة وفي تقرير المصير والحرية والكرامة.
لهذا يجب من وجهة نظر سلطات الاحتلال أن يظل فياض، ومعه كل من يحمل هذا الفكر الاستراتيجي، بعيداً عن التأثير في النظام السياسي، وما جوقة من يدّعون أنهم النخبة الفكرية سوى مطبلين بلا وعي في هذه الاستراتيجية الصهيونية.
والسؤال هو: إذا كان حكام إسرائيل وعتاة الصهيونية لا يريدون هذا النهج الذي بات جزءاً من التجربة الحية لشعبنا، فأين يُتَوقع أن يكون انحياز المواطن الفلسطيني العادي ملح هذه الأرض وحارسها الذي يعرف بالفطرة معنى الصمود؟
الأزمة المركبة التي تعيشها الحركة الوطنية هي أنها لم تعد قادرة على توليد الجديد من داخلها، وهي مصممة على مقاومة ورفض أي جهد لتشكيل ما يمكن أن يفضي إلى بديل لهذا الواقع، لا سيما إذا كان ذلك يأتي من خارج رحمها الذي بات غير قادر على أي ولادة. وهذا بالضبط ما يفسر إشكالية البديل، وما يوضح الحملة على مرحلة كان وما زال من الممكن أن تشكل حاضنة لهذا البديل.