أظهرت نتائج الانتخابات الإسرائيلية ليس فقط مدى انزياح الناخب الإسرائيلي والمجتمع برمته نحو اليمين، بل ومدى عمق الأزمة التي تواجه إسرائيل نحو ترسيخ هذا الانزياح بضمان استقرار المؤسسة الحاكمة على أساسه. فبالرغم من نجاح نتنياهو في شق القائمة المشتركة وتوجيه ضربة قاسية للوطنية الفلسطينية داخل الخط الأخضر التي سبق وشكلها مشروع القائمة المشتركة على مدار الانتخابات الثلاثة الماضية مرافعة للمشروع الوطني ونموذجاً يمكن الاقتداء به لوحدة فلسطينية تعددية، والنجاح الكبير الذي حققته الكتلة الإسلامية دون أن تخفي نواياها المعلنة لدعم نتنياهو على الأقل لإفلاته من قضايا الفساد التي قد تؤدي به للسجن.
ورغم اختراقات التطبيع مع دول اليأس العربي التي أظهرت قدرة نتنياهو لتمزيق ما كان يعرف بالتضامن العربي مع القضية الفلسطينية، إلا أن ذلك كله أيضاً لم يمنع من استمرار ذات الأزمة مع بعض التقدم الذي حققه في معسكر اليمين واليمين المتطرف على حساب المعسكر الآخر، ولكن هذا التقدم يشكل الانزلاق الأخطر الذي يحد من قدرته على المناورة من خلال شرعنة الكهانية المجرمة التي تمثلت بوحدة سموتريتش وبن غفير والتي تشكل ولادة العودة الرسمية لحركة كاخ على أيدي القابلة القانونية نتنياهو وما يستدعيه ذلك من استراتيجية كفاحية مختلفة على جانبي الخط الأخضر لمقارعة هذا المد الفاشي الواضح.
إن أخطر ما ميز الانتخابات الإسرائيلية هو نجاح نتنياهو من استثمار إنجازه في تفكيك القائمة المشتركة بتوجيه ضربة قاصمة لأطرافها الأساسية الثلاثة التي حصلت مجتمعة على ستة مقاعد، الأمر الذي يؤكد مدى تمدد وتجذر أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية للتجمع الفلسطيني الأهم الموجود داخل الخط الأخضر، وعدم اقتصار هذه الأزمة على الحركة الوطنية التي تقودها فصائل منظمة التحرير وانفضاض المجتمع الفلسطيني عنها سواء في الأرض المحتلة أم في بلدان اللجوء والشتات.
صحيح أن الجناح الأكثر عنصرية في الحركة الصهيونية لم يحسم معركته على هوية إسرائيل القادمة في معركته الداخلية بعد، ولكنه للأسف فإنه يحقق نتائج ملموسة في استمرار تفتيت الحركة الوطنية الفلسطينية ودفعها خارج القدرة على توحيد صفوفها أو استعادة زمام المبادرة في صون القضية الفلسطينية واستعادة المبادرة من قبل كل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، بل فإنه على هذا الصعيد ورغم المتغيرات الدولية التي تؤشر لعدم قدرة هذا اليمين على الذهاب بعيداً في تصفية القضية الفلسطينية بفعل الصمود الشعبي رغم افتقار هذا الصمود لرؤية واستراتيجية فلسطينية موحدة بل وهيمنة سياسية رسمية منعزلة تماماً عن احتياجات الصمود الشعبي ومتطلبات تعزيزه أو استثماره على حد سواء، أو بفعل حالة التضامن الدولي التي لم تضعف بل وشهدت جيوب تقدم جوهرية سواء على صعيد المقاطعة أو في إطار الجبهة الكونية المناهضة للعنصرية والكراهية.
إن التحدي الأكبر أمام الشعب الفلسطيني يتمثل في مدى تمكنه من استثمار محطة الانتخابات الفلسطينية إن جرت في موعدها لتطوير قدرة الحالة الشعبية من مغادرة الإحباط، الذي كرسته قوى الانقسام المهيمنة على المشهد وتلك العاجزة على مواجهته، في استنهاض وتوليد قوى اجتماعية وسياسية جديدة تُمكَّن الشعب الفلسطيني من استعادة زمام المبادرة سواء لجهة تحرير الأمل لدى قطاعات شعبية واسعه و معه تحرير حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية المدنية من حالة الاستبداد والفقر والتعدي على الحريات، أو بتحرير الإرادة السياسية للنظام السياسي من العبث والانفراد والتفرد الذي ولدته حالة الانقسام وتمزيق المؤسسات الجامعة الوطنية التنفيذية منها والرقابية، وذلك بإجبار القوتين المهيمنتين على المشهد من الإقرار بعدم قدرة أي منهما ولا بمحاصصتهما الثنائية على استمرار السيطرة على الحالة الفلسطينية وسيادة السياسات الداخلية والخارجية التي أوصلت شعبنا وقضيته لأسوأ مرحلة في تاريخ القضية من وهن وتفكك ليس فقط بناها الداخلية وانفضاض حاضنتها الشعبية بل والمس بمكانتها الإقليمية والدولية، وانعكاس ذلك كله على استمرار صعود اليمين الفاشي الذي يقترب يومياً من تحقيق طموحاته التاريخية بتوجيه الضربة القاضية لمكونات القضية الفلسطينية تمهيداً لتصفيتها، والتي ظلت تشكل استراتيجية اليمن العنصري الفاشي الأساسية منذ النكبة وحتى اليوم.
هنا يكمن التحدي الذي يجب أن يشكل بوصلة المواطن في معركة الانتخابات التي تشكل مفتاح صوغ النظام السياسي الفلسطيني إما بتكريس الوضع القائم وما يحمله من مخاطر على المصير الوطني، أو باعادة بنائه على أساس الصمود الميداني للمواطن والصمود السياسي للحركة الوطنية الناهضة رغم ما يلحق بها اليوم من خراب.