تنطلق رؤيتنا للواقع الاجتماعي/الاقتصادي من وجود نوعين من الاستغلال أحدهما مرئي نسميه الاستغلال الشفاف والآخر غير مرئي لمعظم الناس ونسميه الاستغلال المعتم. يمكن بسهولة إثبات الاستغلال الذي يتعرض له المواطن السعودي، لكن كيف يمكن إثبات وجود استغلال في مناطق السلطة التي يكاد ينعدم فيها الإنتاج المحلي كله بما في ذلك الثروات الطبيعية من قبيل النفط أو الغابات...الخ؟
في فلسطين هناك جيوب من المنتجين الصغار الذين يديرون أعمالهم على نطاق عائلي، ويشغلون عدداً قليلاً من العمال. ولكن من الواضح أن هذا النوع من العمل لا يمكن أن يشكل أساساً للتمرد على النظام، بل لعل من الأصوب القول إن الرأي العام المحلي في الضفة الغربية تحديداً يتعاطف مع المنتج الفلسطيني الصغير –وهو في هذا السياق يظل صغيراً مهما كبر- في مواجهة الإنتاج الأجنبي، وخصوصاً الإسرائيلي، وإن كان الأمر أحياناً يقتصر على إنتاج المستوطنات، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بمواضيع من قبيل المقاطعة الاقتصادية المحفزة بدوافع سياسية مكيفة أساساً على احتياجات المفاوض الفلسطيني الرسمي. ومن هنا فإن المواطن الفلسطيني لا يرى الاستغلال -بالمعنى الطبقي للكلمة- الذي ينبثق من بنية الإنتاج المحلي. ولعل أبلغ تعبير واقعي عن ذلك هو ضعف النقابات العمالية ضعفاً بيناً يجعلها أشبه بتنظيمات المثقفين الفضفاضة وروابطهم واتحاداتهم، مما هي بنقابات عمالية منظمة للدفاع الفعلي عن مصالح العمال وحقوقهم الختلفة. ومنذ انتشار المنظمات غير الحكومية كالفطر البري في المدن الفلسطينية المختلفة، غدا من غير المستبعد أن يخلط المرء بين النقابات وبينها. وإذا كان هناك من نقابات قوية ومعنية بحقوق أعضاءها فإن نقابات مثل نقابة الأطباء (يا لسخرية الأقدار) هي التي تتصدى بحزم وعزم لأية محاولة لتقييد عمل منتسبيها بأي شكل من الأشكال.
من جانب آخر لا يعاني المزارع الفلسطيني من أية مشاكل يمكنه أن يعرضها على الملأ ويتهم السلطة بها. من ناحية أخرى لم يعد في فلسطين إقطاعيين ولا إقطاعيات واسعة تستغل عمالاً زراعيين أو فلاحين يعملون بالمياومة أو بغيرها. لم يتبق إلا وحدات زراعية صغيرة في معظم الأحوال. ومن الصحيح أيضاً أن المزارع معفى من الضرائب، وأنه يتلقى التشجيع اللفظي الرسمي في أضعف الأحوال، كما أن السلطة الفلسطينية لا تتدخل في منتجاته وتسويقها، خصوصاً أنها تقف مع القوانين الليبرالية التي تكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد. وهكذا فإن المزارع غالباً ما يصب جام غضبه على إغلاق اسرائيل أسواقها في وجه منتجاته، وهو ما لا تستطيع السلطة له شيئاً. ويمكن للمزارع أن يتذمر أيضاً من شح المطر، وهو أمر يعد من مسؤوليات الغيب أوالطبيعة، وليس من مسؤولية الجهاز السياسي أو الإداري المحليين. وهكذا يغدو واضحاً أن القطاعين الأول والثاني أو القطاعين الأساسييين التقليديين في الاقتصاد عموماً لا مكان لهما في الخريطة الفلسطينية من حيث الأهمية الاقتصادية من ناحية –وهو ما سنعود إليه بعد قليل- كما أنهما لا يؤثران سلبياً على الخريطة الاجتماعية الفلسطينية من حيث ملاءمتها للوضع الديمقراطي المستند بحسب شروطنا إلى غياب شفافية الاستغلال. إن الاستغلال في القطاعين الزراعي والصناعي في فلسطين –ونقصد الضفة الغربية خصوصاً- ليس مكشوفاً، بل إن الصراع الوطني الذي ما يزال قائماً على الرغم من أن أقلية من الجمهور تفكر وتسلك وكأنه قد انتهى، يطغى عليهما ويغلفهما بأغلفة تجعلهما في خدمة اتجاه الإذعان الجماهيري بالمعنى الذي يقصده غرامشي Gramsci وليس في خدمة توتير الوضع الاجتماعي ودفع الصراع باتجاه المستوى السياسي إذا استعرنا شيئاً من طريقة ألتوسير Althusser في تقسيم البنية المجتمعية إلى مستويات تتحدد لحظتها الثورية باندفاع الصراع باتجاه المستوى السياسي. والواقع أن مسألة التباين والتفرق في موضوع تحديد الجهات الملومة يسهم في التعمية الضرورية لحرف تفكير الناس عن خصم واحد ومحدد. ومن هنا وبسبب مساهمتها في "ضياع الطاسة" بحسب التعبير الفلسطيني، فإن هذه القطاعات لا تشكل أساساً للحراك الاجتماعي الذي قد يقوض أركان الديمقراطية بمطالبته بما لا يطيقه النظام المسيطر.
وإذن فمن أين تأتي المشكلة التي تعيق نجاح التجربة الديمقراطية الفلسطينية على الرغم من التدرب والتمرن على الممارسة الديمقراطية فترة لا بأس بها تحت الاحتلال؟ من أين تأتي حركة حماس التي ترفض الديمقراطية مبدئياً –بسبب إرثها الشمولي الثيوقراطي المميز والضارب عميقاً في فكر الإخوان المسلمين- لتجعل فكرة تداول السلطة أمراً محالاً على وجه الرجحان لا اليقين المطلق؟
قبل أن نشرع في الإجابة على هذا السؤال نقول إن الأحزاب والحركات الفلسطينية اليسارية والعلمانية ذات توجه "معتدل" لا يتناقض مبدئياً مع شروط الديمقراطية الليبرالية. ولعل أشد الحركات الفلسطينية راديكالية مثل الجبهة الشعبية لا تذهب حد التفكير في الإطاحة بالنظام "الرأسمالي" في فلسطين واستبداله بنظام حكم بروليتاري أو شعبوي أو أي شيء من هذا القبيل، خصوصاً بعد انهيار النظام السوفييتي، وإن كان من الممكن تلمس بعض الميول "الليبرالية" لهذه الحركات في زمن أبكر يعود إلى أيام المعسكر الشرقي بالذات.
إذن تظل المعارضة الجدية التي تطرح تصوراً مضمراً، وربما علنيا، لاستبدال النظام من جذوره هي المعارضة الإسلامية التي تتلخص في حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وذلك يبدو من وجهة نظر البعض أمراً غير سياسي بسبب من كون هذه الحركات حركات دينية أكثر مما هي سياسية. ولكننا نرى أن هذا لا يشكل حجة كافية. ولعل عدم التسيس –إن صح القول- هو موقفي سياسي بامتياز يعلن سراً أو جهراً بأنه يائس من السياسة أو لا مبال بها أو أنه يريد مصادرة دورها...الخ. كما أن وجهات نظر المفكرين اليساريين والقوميين والعلمانيين التي تنتقص القوة الإسلامية بوصفها عرضاً للأزمة لا حلاً لها، أي بوصفها عرضاً لعدم قدرة المجتمعات في الجنوب على اجتراح حلول مبدعة، لا يقدم أو يؤخر شيئاً في واقعة أن هذه القوى تطرح نفسها بديلاً جذرياً لكل ما هو قائم، وأنه من ناحية أخرى، يوجد مسوغات من الواقع الموضوعي –إن جاز هذا القول- تستلزم وجود قوة تطالب بالتغيير الجذري، وأن هذا هو الدور الذي تضطلع به هذه القوى. ومعنى هذا القول، أن الواقع الفلسطيني منكشف، وأنه ليس هناك ما يمنع من تفجيره من الداخل في حال إجراء انتخابات نزيهة (= غير مزورة) وهو ما تحقق في العام 2006، عندما أجريت انتخابات تشريعية شهد لها ممثلو العالم الليبرالي بالنزاهة، ثم ما لبث ذلك العالم أن قام برفضها فور إعلان نتائجها، وفرض حصاراً على الحكومة المنتخبة التي شكلتها حركة حماس. ثم فرض حصاراً أشد على قطاع غزة عندما انفصل عن الضفة بعد ذلك بقليل. وذلك في الواقع قد يتخذ دليلاً على أن الحالة الفلسطينية لا تصلح مثالاً لفشل الديمقراطية في ظل شروط الاستغلال المكشوف وإنما هي مثال على حالة من الرفض الدولي العام للتعامل مع فئة خارجة عن الشروط المقبولة إنسانياً وحضارياً في المجتمع الإنساني الديمقراطي. إذ يمكن ضمن هذا الفهم استبعاد فئات أو أحزاب أو أفراد من قائمة المسموح لهم بممارسة السياسة المشروعة في النظام الديمقراطي...الخ غير أن ذلك في الواقع مجرد ترهات لا قيمة لها من الناحية النظرية، فالديمقراطية يجب أن تحترم إن كان لها أن تكون ما تزعم وإلا فإنها تظل دون المستوى الذي تفترضه التقاليد الليبرالية المستقرة في موطنها الأصلي أوروبا الغربية وشمال أمريكا منذ قرنين من الزمن. وذلك بالطبع لا يتعارض مع تصورنا الأساس الذي يذهب إلى أن الديمقراطية مجرد طريقة أخرى لإدارة الصراع الاجتماعي والسياسي لمصلحة نخب معينة ولكن بتكلفة أقل. بالعكس فالحالة موضوع الدراسة تؤيد ما نزعم، إذ يبدو أن تكلفة الديمقراطية في حالتنا الفلسطينية هذه، قد ارتفعت بالنسبة للقوى المحلية المهيمنة ومن يساندها من الخارج بسبب أن الهيمنة قد تهددت بالفعل، وأتى إلى كرسي السلطة التنفيذية طرف نقيض من النواحي النظرية على الأقل، ولذلك فلا بد من منعه من الحكم بأي ثمن. وإذن فإن الحصار الدولي-الغربي على حكومة حماس وقطاع غزة الذي يتقاطع معه على الأغلب قوى عربية وفلسطينية وتشارك فيه بعض الدول صراحة مثلما هو حال مصر، هو دليل إضافي على صحة ما نزعم من أن الديمقراطية إن لم تلب احتياجات من يقترح اللعبة فإنها سوف تتقوض على الفور. بالطبع هناك أمثلة أكثر وضوحاً من غيرها. ولعل العالم العربي قد قدم أمثلة لا تخطئها العين بالفعل، ويقف على رأسها حالة الجزائر 1992 ثم الحالة الفلسطينية الراهنة والناجمة عن انتخابات 2006. وأخيراً هناك حالات ما بعد "الربيع" من قبيل مصر الإخوانية التي تم إقصاء رئيسها مرسي عن طريق تدخل الجيش المباشر.
في هذا السياق كان الموقفان الدولي والعربي الممهوران بالاعتدال واضحين في تسويغهما للحصار المفروض على حكومة حماس ثم على غزة. فقد كان المطلوب وما يزال، أن تعترف حركات المقاومة الفلسطينية جميعاً بما في ذلك حركة حماس بما اعترفت به السلطة الفلسطينية كله أو جله، وخصوصاً ما تراه اسرائيل والولايات المتحدة ضروريا. ولكن إذا كانت الحركة ستعترف بذلك فما الذي تبقى من الاختلاف؟ بالطبع لم يشترط أحد أن تعترف الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين –مثلاً- بشيء لأنها صغيرة الحجم والأثر، وبإمكانها أن تعارض بأي حد من الراديكالية ما دام ضعفها لا يسمح لها بترجمة شيء من أقوالها إلى أفعال. وهكذا تعود فكرة القوة المنبثقة عن الضعف التي تستعمل في لبنان –ألم تكن قوة لبنان دائماً في ضعفه!- لتخدم فصائل اليسار الفلسطيني وتخدم بشكل أكبر الديمقراطية الفلسطينية التي تستطيع أن تقول إنها تسمح بالتعددية والاختلاف، وها هم من يمثلون قوى معارضة وبشكل كبير للتسوية يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات واحتلال المواقع التي يفوزون بها دون أن يغمط لهم حق. من الجلي أن هذه الفكرة لا تصمد كثيراً أمام النقد، ولا يحتاج المرء إلى أكثر من طرق لطيف على الباب ليدخل إلى حجرة مليئة بالشواهد المناقضة. فالأمثلة كثيرة تلك التي تبين أن المرء إن وصل حد الاختلاف الفعلي في الممارسة، فإنه يعرض نفسه لعواقب وخيمة تتضمن إخراجه عن القانون والسماح باعتقاله وتعذيبه ...الخ وحرمانه حقوقه المختلفة. ونظن أن تجربة أمين عام الجبهة الشعبية أحمد سعدات واضحة بما يكفي، إذ تم اعتقاله من قبل السلطة الفلسطينية على الرغم من أنه لم يقم شخصياً بفعل مناف للقانون، وحتى لو أنه قام بشيء فقد يمكن النظر إليه من باب رد الفعل لا المبادرة إليه، بحكم أن الجبهة الشعبية إنما ردت على اغتيال أمينها العام في ذلك الوقت الراحل أبوعلي مصطفى. وقد تم سجن سعدات في سجن معولم فريد من نوعه، ثم قامت اسرائيل باختطافه دون أن يزعج ذلك السلطة التي يفترض أنها تمثله وتحميه بحسب شرائط النظام السياسي الديمقراطي الذي يعد سعدات نفسه عضواً منتخباً في مجلسه النيابي.
إن أحد الفروض المستعملة في تفسير ما جرى في الانتخابات الفلسطينية سنة 2006 هو القول بأن الناس صوتت ضد نهج سياسي معين يتعاطى سياسة مهادنة للاحتلال وغير مقاومة. ولكن من يرى اللامبالاة النسبية التي تحرك بها الناس إبان فترة أوسلو ثم اللامبالاة ذاتها التي بدت في سياق ما بعد الانتخابات، والتي ميزت الردود الفاترة نسبياً تجاه الحرب الاسرائيلية على غزة في كانون الأول من العام 2008 تشير بوضوح إلى أن المشكلة الأساس لم تكن الأداء السياسي الفلسطيني. ولعل هذا الأداء بالذات مثله في ذلك مثل زميله العربي قد وصل إلى حد من الضعف والهزال جعل أمين عام الجامعة العربية لا يدري ما يفعل عندما غضب رئيس الوزراء التركي انتصاراً لغزة وغادر مؤتمر دافوس في 2009. هذه الأمور إضافة إلى الضعف، بل قل الفتور الذي قد يفسر على أنه تواطؤ فيما يخص الموقف الفلسطيني والعربي الرسميين ليست خافية على جمهور الضفة. ولكن الناس هناك يعيشون لحظة عدم تسيس ابتدأت منذ عقدين من الزمن على وجه التحديد، وفي المقابل ينهض اهتمام أكبر بالأمور المعيشية اليومية والاقتصادية عموماً، وهي التي تؤسس لفكرة الاستغلال التي ينبني عليها عملنا هذا.
لقد كان جوهر الاعتراض الذي يتكرر على ألسنة الناس في الفترة التي تلت أوسلو واشتد بعد وفاة ياسر عرفات، بسبب غياب تأثيره الكاريزمي، هو موضوعة الفساد. كان الجمهور أكثر تسامحاً مع عرفات فيما يخص الفساد، لأنهم كانوا يعدونه الرجل الذي يملك الأوراق كلها، والذي يعمل في نهاية الأمر ما هو ضروري من أجل المشروع الوطني كله ومن أجل الشعب كله. كأنما لسان حال المواطن العادي كان يقول: "إن كان ثمة أخطاء يقترفها عرفات، فإنه مضطر لها من أجل منافع تفوقها في النوع أو في العدد." ذلكم هو ملخص حالة التسامح النسبية التي سادت في حياة عرفات. بعد عرفات لم يعد الجمهور قادراً على التسامح مع موضوع الفساد، خصوصاً وأن الحقوق الفلسطينية السياسية قد تم وضعها جانباً. ولا نقصد بذلك التخلي عنها أو التمسك بها، وإنما بدا وكأنها قد فقدت موقعها على رأس جدول الأعمال، ربما بالنسبة للجميع: الحاكم والمحكوم، ولكل بطبيعة الحال أسبابه. وقد أصبح لسان حال الناس هو: "إذا كنا قد فعلنا كل شيء من أجل الحصول على "سنغافورة" بما في ذلك التسليم بأسس الحقوق الفلسطينية في الأرض والسيادة والعودة، فأين هي سنغافورة؟ وأين هو الريع الذي يفترض أننا سنجنيه من ذلك؟" وقد اتجه الغضب الشعبي في اتجاهين معاً إذا لجأنا إلى استخدام قسمة الداخل والخارج: كان هناك العالم الغربي من ناحية الذي يغدق على اسرائيل العطايا بينما يلقي للفلسطينيين بالفتات، وكان هناك السلطة الفلسطينية التي تستأثر لنفسها ولأجهزتها وأعوانها، بل الأحرى أن نقول وأعيانها، بحصة تزيد على حصة الأسد بينما تواصل أوضاع الناس ترديها. وكانت الدراما تمثل بتفاصيلها المختلفة على الملأ: الأموال تذهب بدون معايير ولا قوانين ولا مقابل إلى جيوب "الأعيان". ولجان التحقيق تتشكل، وتدين أو لا تدين، ولا يحصل أي شيء. كان اتلافاً شفافاً غير مسوغ لأموال هي من حق الشعب الفلسطيني، هي ثروات لم يقم أحد بإنتاجها، تماماً مثلما هو الحال في الاقتصاد القائم على استخراج المعادن والبترول، ولذلك بدا أن الناس كانت مجمعة في رفضها للفساد. وقد وصل اللغط بخصوص ممارسات السلطة وأفرادها إلى كل مكان، وتعالت أصوات الانتقاد واتسع نطاقها حتى شملت أوساط السلطة وموظفيها وحزبها السياسي وأنصارها، وأصبح القول بوجود الفساد والمحسوبية وإساءة استخدام المركز العام..الخ أمر من نافل القول أو من قبيل تحصيل الحاصل الذي لا يناقش فيه أحد. ولعل مثال مطعوم الكورونا الذي استقطب الاهتمام الشعبي الناقد أن يكون مثالاً صارخاً على أولوية قضايا الفساد على ما غيرها منذ عقد ونصف على الأقل.
ولكن أين الاستغلال في استيلاء الفئة النافذة على شيء من المساعدات أو المطاعيم؟ إن أحداً من الناس لم يسرق منك جهدك عندما يستولي لنفسه/ا على أموال جاءت من دول مانحة ومتبرعين أجانب أو عرب. والفرد الفلسطيني ليس دافع ضرائب بالمعنى الصحيح، كما أن أموال الدولة ليست أمواله بالمعنى الدقيق للكلمة، ومن هنا فهو إنما يطالب بعدالة في توزيع أموال ليس له فيها حقوق قانونية! إن موضوع الملكية وحقوقها ينتفي عن "المواطن" الفلسطيني في هذه الحالة بشكل لا لبس فيه.
لعل جواب ذلك كامن في أن المواطن الفلسطيني يضمر -في شكل يذكر بسوء النية بالمعنى الذي يعطيه سارتر Sartre للكلمة- أنه يشارك في ملكية القضية الفلسطينية، وأنه يشارك في القرار السياسي الذي يتم دفع المال من أجل توجيهه إلى ناحية معينة. وإذا كان ذلك صحيحاً، فإن المال الذي يحصل عليه المشتغلون في السياسة الفلسطينية هو مال عام يجب أن يعم الشعب الفلسطيني لأنه جاء من أجلهم ومن أجل استمالتهم لكي يلينوا مواقفهم السياسية تجاه عملية التسوية. لقد وعد الجمهور الفلسطيني كله بمكافأة مادية ضخمة تتمثل في النهوض بأحوالهم الاقتصادية والمعيشية. وكان النموذج الذي يروج له هو نموذج سنغافورة، وفجأة صحا الناس ليجدوا أن الحلم كان كابوساً: فقد تواصل الاستيطان وتم عزل الضفة عن القدس وعن غزة وعن بعضها بعض، ولم يتحقق أي شيء من عالم سنغافورة العتيد، وبدا للناس أن الأمور الحياتية قد تدهورت فعلياً عما كانت عليه "أيام الاحتلال".
رافق هذا التدهور الحاد في أوضاع الناس رفاهية مريبة وسافرة في حياة البعض. كانت الفلل والبيوت الفخمة والسيارات الفارهة التي تجوب شوارع غزة ورام الله علامات ساطعة على التناقض بين حياة البائسين وحياة النخب. وقد اقتنع المواطن العادي أن سرقة المال العام هي التي تتسبب في معاناته، وإذا كان المال يقدم لنا بوصفه ريعاً لا أكثر، وثمناً لمواقف سياسية اخترناها أو اضطرتنا لها الظروف، فما الداعي لأن يغتني القلة ويفتقر الغالبية من الناس؟ لا بد من القول إن حماس لم تغفل عن هذا الواقع، وربما يجدر القول إنها قدمت نقداً أكثر جذرية ووضوحاً مما فعل "اليسار الفلسطيني".
تمحور خطاب حماس حول الإصلاح والأمانة وما أشبه. وقدمت نموذجاً مغايراً في الممارسة لنموذج أهل السلطة، بل ربما كان نموذجها أكثر شفافية من الناحية المالية، وأكثر عدلاً في التوزيع من نموذج المنظمات غير الحكومية التي بدا أنها تتمول بسببب الشعب الفلسطيني ولكنها تستثمر الأموال لخدمة منافع شخصية. وهكذا حدث عن طريق ضرب المثال أن ازدادت الأمور وضوحاً. لم يتحول الجمهور الفلسطيني بطبيعة الحال بين ليلة وضحاها إلى جمهور أصولي، بل لعل لعبة الأصولية والتطرف وما إليهما ترعب الجمهور الفلسطيني المسالم أساساً، والذي تنطبق عليه مقولة " احنا عايزين ناكل عيش يا بيه" المصرية الأصل أو "بدنا نطعم الولاد" بالطريقة الفلسطينية. لقد كان الجمهور الفلسطيني دائماً وعلى امتداد السجل التاريخي الواضح طوال القرن العشرين جمهوراً ينحاز بقوة إلى الحياة الاعتيادية، حتى في اللحظات التي كان يفترض به فيها أن يهجر الحياة العادية من أجل أن لا يخسر تلك الحياة العادية بالذات على نحو جوهري مثلما حدث في محطة النكبة أو في محطة ثورة 1936. واقع الحال يشير إلى أن الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة من التاريخ كان يتمتع بسيكولوجيا تنفر من العنف وتميل إلى المسالمة. ولعل من البين بذاته أن الشعب الفلسطيني على الرغم من الاستعمار الكولونيالي الهادف إلى انتزاع كل شيء منه بما في ذلك اقتلاعه من أرضه عبر التطهير العرقي لم يكن في مجموعه شعباً عنيفاً. ومن الواضح أن شيئاً من قبيل الثورة الجزائرية أو الفيتنامية لم تشهده فلسطين أبداً. فالنموذج الفلسطيني عينة من نموذج سوريا الكبرى التي لم تعرف تاريخياً الميل للعنف أو مقاومة الجيوش الغازية. وربما يعود ذلك إلى أمور من قبيل أن سوريا على حد وصف فكرة توينبي Toynbee الشهيرة كانت معبراً لمثلث القوى الكبرى المتحاربة. لكن ذلك ليس موضوعاً نتوسع فيه هنا. من ناحية أخرى ليس هناك ما يشي بميول فلسطينية إلى التطرف، ولا نظن أن الشروط الثقافية الفلسطينية تسمح بولادة فصائل تشبه القاعدة، والنمط "الشامي" مثلما أسلفنا ميال عموماً للاعتدال. ولا نقصد بالطبع وضع افتراضات جوهرانية essentialist أو ماهوية تصنف الفلسطينيين مرة وإلى الأبد في شكل معين وتعطيهم خصائص ثابتة لا تتغير. نحن على العكس إنما نستعين بالواقع الفلسطيني الحي والمتفق إلى حد كبير مع البيئة الشامية التي ينتمي إليها في مسالمته وانشغاله بأموره اليومية. ليس الخيار الأصولي هو الخيار الأكثر جاذبية للفرد الفلسطيني المتوسط الذي لا يريد الإلحاد ولا يريد التدين ولا يريد التطرف. "التأدلج" الشعبي ذو صبغة دينية معتدلة للغاية ومتساهلة وتقبل الآخر ولا تغضب ممن لا يلتزم بالفرائض. ولعل من الطريف بمكان القول إن مرآة الأيديولوجيا الشعبية الفلسطينية تعكسها حركة فتح بالذات التي تبدو كأنها نسخة مغربلة قليلاً من الشعب الفلسطيني ذاته. لقد كان من الممكن أن ينحاز الجمهور الفلسطيني إلى فصيل علماني مثل "التيار الثالث" أو "المبادرة" أو تيار يساري كان يعرف بتبنيه للماركسية اللينينية فيما مضى. لم يكن خيار حماس "مبدئياً" أو نهائياً، لكن كان هناك شرط واضح معلن أو مضمر هو أن يكون موقف الحزب المعني أقرب إلى مكافحة الفساد مما هو إلى الاستفادة منه. وكان ذلك يعني أيضاً أن لا يكون جلياً أن هذا الحزب يتلقى مصروفاته اليومية من السلطة، فذلك مما يخدش مصداقية وعوده بمكافحة الفساد باعتبار أن قراره يفتقر إلى الاستقلالية المالية التي لا غنى عنها لتحقيق الاستقلالية السياسية.
وقد قاد هذا الوضع بالذات إلى أن تصبح القوى الإسلامية في نظر الإعلام الرسمي المحلي والعالمي وخصوصاً الغربي، البديل المرفوض ديمقراطياً لأنها تمثل الأشياء السيئة جميعاً، بما في ذلك رفضها الاعتراف بشرعية المؤسسات التي تنتمي لها العملية الديمقراطية أو رفضها اتفاقيات منظمة التحرير مع اسرائيل بخصوص عملية التسوية السياسية وغير ذلك من أمور ومسوغات. لكن التهديد الحقيقي الأخطر في رأينا إنما يتلخص في قدرة القوى الإسلامية على تقديم بديل كامل وفي المناحي المختلفة يخالف النموذج السائد، وهذا يعني إمكانية تجاوز النظام القائم أو استبداله بالكامل، وهو ما لا يجوز لأنه يقوض بالفعل شروط اللعبة التي تعني بقاء النظام السياسي جوهرياً، والمحافظة على مصالح الناس الذين يقومون عليه غير ممسوسة. فشرط الديمقراطية الفلسطينية الأساس إذن هو أن لا يصل للسلطة من يرغب في رفض الأساس الذي تقوم عليه السلطة. والواقع أن المعارضة الفلسطينية الأكثر وزناً والممثلة في الإسلاميين ترغب في ذلك بشكل أو بآخر، ولذلك فإن التعدد بهذا المعنى يتجاوز حدود النظام وصولاً إلى تقويضه، وهنا تنتهي اللعبة. هل كان من المقبول في أي وقت من الأوقات أن يصل الحزب الشيوعي إلى السلطة في الولايات المتحدة؟ الجواب بالطبع بسيط جداً ويتلخص في أن الولايات المتحدة حظرت "قانونياً" الحزب الشيوعي. وقد قامت "قانونياً" أيضاً بمطاردة ذلك الحزب. وإذن فإن الديمقراطية تعني تداول السلطة بين الفرقاء الذين يقطنون في الضاحية ذاتها أو اختيار أحد أفراد العائلة ليقوم بإدارة مصالح العائلة مع عدم السماح بانتقال مقاليد الأمور إلى عائلة أخرى. لا يعني ما نقول أن نخلط حقلين معاً: أعني كيفية نظر الجمهور إلى القوى الإسلامية بوصفها من سيخلصه من الفساد ويرفع مستوى حياته الاقتصادية والمعيشية وبين نظرة القوى الإسلامية إلى نفسها بأنها نقيض للعملية السياسية برمتها مما يجعلها مرفوضة من قبل الجميع. من البدهي بطبيعة الحال أن فكرة النزاهة بمعناها الليبرالي قد لا تشكل في الحالة الفلسطينية سبباً كافياً لإزعاج الأطراف الأقوى في المعادلة. والواقع أن ما حصل بعد فوز حماس في 2006 هو أن المؤسسات الأمريكية والأوروبية المختلفة قد شرعت في حملة ضخمة في الضفة الغربية لتأسيس أوضاع توحي بالنزاهة مكرسة على صعيد الخطاب الإعلامي قيم الديمقراطية الليبرالية. وهو أمر ينسجم مع وجهة نظرنا التي تذهب إلى أن تحقيق الهيمنة في فضاء المجتمع المدني بالمعنى الذي ذهب إليه غرامشي هو أمر مهم جداً للديمقراطية. ولذلك فإن ما يجري منذ ذلك الوقت قد يصل في سعته إلى مستوى إعادة صياغة الوعي الفلسطيني كله، وهي حملة لا تقل فيما نظن عن الحملة التي بذلها في الأردن في النصف الأول من القرن العشرين الجنرال الإنجليزي جون غلوب Glubb الشهير بغلوب باشا لإعادة صياغة وعي البدو ليصبحوا قادرين على القيام بمهام المواطنة وخصوصاً الخدمة في الجيش. وهي عملية انتهت بتطبيع فكرة الوطن والبلد على الرغم من أن الأردن بوصفه دولة ووطناً لم يكن له وجود فعلي قبل ذلك. في سياق مشابه يقوم الأمريكيون والأوروبيون هذه المرة وفي ظروف أكثر تعقيداً بمحاولة تخترق مستويات متعددة من المجتمع الفلسطيني بما في ذلك جوانب أمنية واقتصادية وصحية وثقافية وأكاديمية عبر برامج كثيرة غنية عن التعريف وموثقة جيداً بغرض بناء فرد فلسطيني يمكن أن يصلح للديمقرطية ولانتخاب من ترضى بهم السياسة الأمريكية في العالم والمنطقة.
لكن تلك الجهود لم توفق دائماً إلى ما تريد. ولا بد أن إسرائيل والولايات المتحدة قد ساهما مباشرة في إضعافها وربما تقويضها في أحيان كثيرة. غني عن البيان أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والإشارات الإسرائيلية الواضحة بالتخلي التام عن فكرة حل الدولتين وصولا إلى ضم المزيد من الأرض لا يعمل في صالح النظام الفلسطيني المعتدل ككل. وليس معنى هذا أن إسرائيل أو أمريكا تخافان من فكرة النزاهة أو ممارستها في الساحة الفلسطينية على الرغم من إزعاجها للشرائح الفلسطينية المستفيدة من الفساد، والتي يمكن للديمقراطية النزيهة والفاعلة أن تودي بها جذرياً. لكن هل معنى ذلك أن الولايات المتحدة وأوروبا سوف تخلقان ظروفاً تقود إلى الديمقراطية؟ نظن أن ذلك تطلب طوال الوقت إنفاق مبالغ كبيرة وتقديم مساعدات تشبه تلك المقدمة إلى اسرائيل مع أفكار للتسوية تتضمن حد "معقولاً" من التنازلات الإسرائيلية. ولا نميل إلى القول بأن أياً من هذه الشروط متوافر، لأن كلفة المعارضة الفلسطينية، بل القوى الفلسطينية كلها ليست عالية بما يكفي بحيث تستدعي العمل على تقديم المزيد لاحتوائها. وإذا كان الأمر كذلك فإن حالة من الفساد المكشوف سوف تظل قائمة وتمنع من حيث المبدأ إقامة ديمقراطية فلسطينية، وإن تكن ديمقراطية قليلة الكثافة تماماً. لذلك على الأرجح جاءت الأفكار الأخيرة بعد لقاء القاهرة (شباط 2021) والتي تتضمن إشارات إلى تشكيل قائمة موحدة تضم الأحزاب كلها التي كان يفترض فيها أن تتنافس. هكذا يبدو التوافق شكلاً من الديمقراطية التي لا تختلف جذريا عن الأتوقراطية في أي شيء.