(1)
وأنت تطوي المكان، يبدو الناس وفق مشاهد سوريالية رهيبة؛ قد رحلوا منسلخين عن ذواتهم صوب الوجع. وحده، الأخير تملَّك رسم الأفق، وما تبقى من بقايا عدم وجودنا. إن استمر في ذخيرة جعبتنا أفق وبقاء وجِلدة، بين رقع كومة الكرة الأرضية.
(2)
هي الكرة الأرضية إذن، تاهت من تعب الدوران وأصابها الإعياء والتيه، لم تعد تدور حول نفسها مرحة أو الشمس متطلعة؛ بل تدور هكذا دون وازع يذكر، لم تعد هناك خريطة إحداثيات، أصابها الضجر جراء الفراغ، فلم يعد يحدث أيّ شيء قابلا لتذكره، هكذا امتطت لانهائية الجنون نحو المجهول.
قبل، غاية ما قبل تجلي فقدان البوصلة، اعتقدنا بأن الأرض تنتمي لأصحاب الأمزجة الترابية، بالتالي، هي مشدودة إلى ثقل مختلف مقومات التجذر والإرساء والتدبر، فلا شيء يحدث بجرة خفة طائشة.
ظلت العلاقة بين الإنسان والكرة الأرضية، مبنية على أساس تلك العلاقة المتوازنة أفقيا، يتوخى الأول دحرجة هذه الكرة أمامه وفق تناغم إيقاعي. في ذات الآن، تأبى تلك الكرة عن نفسها، اختزالها إلى مجرد كيس هواء متأكسد.
(3)
هو الفراغ، إذن. هكذا، نستشف كنه حضورنا من الوهلة الأولى. يظهر كأن الناس قد أفرغوا تماما من حمولة كل مسكنات الأمل. أمل، أساسا في استمرار حيز هذه الكرة المسماة أرضية، مجرد دحرجة وتسلية لعب طفولي حالم، ثم لا تزيد عن ذلك، قليلا أو كثيرا، صوب أيّ وصلة أخرى أو تستدعي وصاية ثانية.
(4)
هي الوصايا، إذن. ونحن صغار كانوا أوصياء قسرا على ولادتنا، وصاية مضمونها ضرورة التكتم على السر غاية الرحيل؛ حفاظا ربما على سلامة سكينتنا. ما معنى أن تولد، والكرة الأرضية نفسها تعيد الكرَّة عبر التأفف؟ تفتقد موطئ قدم. تدور بدون وجهة. لا تعرف حياة ثانية، غير دوخة الدوران.
ونحن صغار، أخبرونا عن ظهر قلب، بأننا نولد، ننصهر بين ثنايا المعنى، نتسامى أخيرا عن اللامعنى. قد يكون الفرد لغير ما خُلق له أساسا. تلك حقيقته الأصلية، أن يكون حيث اللامكان، غير حيز توقع الوصايا. أقروا، بوجوب مراعاة الثالوث المقدس: الأرض، الأصل، الوصل. عناصر ثلاثة تعود لذات العنصر، غير قابلة للانفكاك أو التنازع؛ وبوسعك أن تستنبط منها زيجات عدة، لكن حسب أصل الأرض. ألحوا، أكثر فأكثر، بأن لا نعرف سبيلا للانفصال.
(5)
هو الانفصال، إذن. قيمة إنسانية أولى وأصيلة لاتطرح نفسها بقوة، إلا مع اللحظات الميتافيزيقية المفصلية التي بوسع كل شخص خوض غمار تجربة اختبارها. بل، لا بد له من ذلك، كي يتلمس حقا مستويات إنسانيته المبدئية: العزلة، المصير، القلق الوجودي، الضمير، السؤال ثم الموت. بمعنى جل لحظات العراء، المتجردة بالمطلق عن جل هويات الزيف. عندما تكون أنت نفسك، وحدك في مواجهة اختياراتك، مقاوما كل ما لا ينتمي إليك.
أن تكون أنت، ولادة وجودية، لا غنى عنها، تستدعي بالضرورة التنصل من الولادة البيولوجية والسوسيولوجية والمؤسساتية. ما دامت الأولى تمس الإنسان، والثانية مجرد تنميق مزيف للنموذج. تراهن الأولى على أفق البناء اللامتناهي، في حين تتسامى الثانية بخزعبلات النمط.
(6)
هو النمط إذن. الإنسان إنسان، لأنه مختلف عن ذاته، يخترقه التعدد قبل علاقته مع غيره. الإنسان آخر لذاته، دون انتقاله إلى مجال وحيز الآخرية. من بين المرجعيات الطليعية، المتهمة بالإساءة إلى الوجود، نكتشف تراتيل حراس هياكل النمط. هؤلاء المعياريون؛ المهووسون بمكامن الحيثيات والنفخ في أبخرة مجمر وصف تليد، القابعة دوما بين محفوظات الغبار والتلاشي المتوارية عند مدافن ومقابر الحجر.
(6)
هو الحجر، إذن. أيها الحجر أرجوك؛ ابْق سيدا على نفسك حارسا لعقيدتك! لا أريدك عنوانا لشاهدة قبري. أرفض اختزالك لي المتحجِّر والمتعجرف بين أبعاد قطعة حجر صماء، تطوي عبثا اسم أب وأمٍّ وتاريخ ولادة ثم موت. أرفض توثيقك ذاك، المقيد بمساحة حجرة روح فيها ولا قلب معها، ميتة توضع من باب الوشاية والتلصص المجتمَعيين، عند مقدمة قبر؛ كي تخبر ببروقراطية داكنة، العابرين؛ على أني فلان بن فلان ثم أنحدر من هنا أو هناك، أتيت عاريا وغادرت عاريا حسب الموعد المرصود أعلاه. ما جدوى ذلك؟ مجرد لغو بلا داع، ما دمت قد قررت أن أعيش بطريقتي وأموت دون إخبار أحد، حتى أخلد إلى صمتي الأبدي، وأنا مطمئن بازهرار هوياتي كالنبات، ملأى بالحياة لا تكف عن التدفق والانبجاس، سواء تباهيتُ أو احترستُ، تمددتُ أو انكمشتُ.