الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الإمارات بين "إسرائيل وفلسطين"/ بقلم: ناجح شاهين

"يرى البعض أن تحالف نسيبة مع دحلان غير مستساغ، لكن ألم يتحالف درويش مع عرفات بغض النظر عن اختلاف قامات الرجال الأربعة؟"

2021-04-02 02:18:09 PM
الإمارات بين
ناجح شاهين

 

تغيرت نظرة الإمارات لنفسها جذرياً في السنوات الأخيرة. كانت أبوظبي لا ترجو من الدنيا الفانية إلا السلامة، وأن يتركها "الأغيار" تنعم بنفطها وتستثمره في تحقيق رغد العيش على أفضل نحو. لكن الأحداث الجسيمة في العقد الأخير غيرت موقف الإمارات مما يجري، وطورت سياستها السلبية المسالمة إلى سياسة فاعلة ونشطة في ميادين الصراع المختلفة بما فيها اليمن وسوريا وفلسطين ولبنان..الخ. ولا بد أن نشاط إمارة قطر الأسبق زمنياً قد ساهم في "تفتيح وعي" الإمارات، ولفت نظرها إلى إمكانية أن تقوم بدور أكبر مما تكتفي به. لقد برهنت قطر في سياق "الربيع" العربي على دور مؤثر يتجاوز حجمها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإمارت دولة ضخمة بالقياس لجزيرة قطر الصغيرة. إذن في هذا العالم "الشرق اوسطي" الجديد تهيأت الظروف من أجل أن تكبر الإمارات وتتعلم المشي بخطوات واثقة جريئة باتجاه الإعلان عن العلاقات الوطيدة مع إسرائيل التي تم إخفاؤها ردحاً طويلاً من الزمن.

في هذا السياق ترى الدكتورة ابتسام الكتبي، رئيس "مركز الإمارات للسياسات"[1] في اتفاقية السلام بين دولة الإمارات وإسرائيل تغييرا استراتيجيا ونقطة تحول في الصراع الطويل الأمد بين إسرائيل والعالم العربي.

لكن لماذا هذا التغير "الثوري"؟

تخبرنا الدكتورة الكتبي أن العقد الماضي قد شهد اضطرابًا جوهريًا في الشرق الأوسط، وذلك ما وضع حدا للنظام الإقليمي الذي عرفناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذا يعني أن النظام العربي "القديم" قد ولى زمانه، وأن نظاما جديدا للشرق الأوسط قد ولد ليحل محله. وتبين الدكتورة أن سبب هذه الولادة الشرق أوسطية الجوهري هو تغير الدول الرائدة في الوطن العربي، مما غير الرؤية والمصالح والأولويات والتهديدات المتعلقة بهذا المنطقة. في ضوء هذه التغيرات الجيوسياسية كما تقول الكتبي، من المتوقع أن يكون لاتفاقية السلام العتيدة آثار تتجاوز علاقات إسرائيل مع الإمارات أوالخليج، لتصل إلى مدى يتجاوز العلاقات مع العالم العربي بأسره. وهذا يعني أن الإمارات باتت ترى السياسة بعيون دولية، أو برؤية كونية شمولية تتناسب مع الدور الجديد الكبير الذي تضطلع به بعد عقد الاضطرابات الذي تصاغرت فيه مصر والعراق وتونس والجزائر، وتم تدمير ليبيا وسورية واليمن والسودان ...الخ. كأني بالدكتورة الكتبي غير قادرة على إخفاء سعادتها بهذا الدمار العربي الشامل الذي مكن الإمارات من أن تحتل موقعا سياسياً يفوق ما كانت تحلم به بكثير. 

لكن الكتبي تخفي ابتسامتها بذكاء وتشرع في توضيح الاثار الفعلية/الواقعية لنتائج السلام مع إسرائيل. فقد يخطر ببال بعض الفلسطينيين وبقايا العرب المتطرفين أن الإمارات مخطئة، ولكن الإنجازات تتحدث عن نفسها؛ فقد قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي وقف خطته لضم ثلث الضفة الغربية وأجزاء من وادي الأردن. وهكذا أثبت السلام الإماراتي مع إسرائيل أنه يخدم القضية الفلسطينية على نحو حاسم . لكن الأهم من ذلك، أن هذا الاختراق التاريخي يؤثر على الرأي العام في إسرائيل. ولا بد أن إشاعة جو من السلام والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط، إلى جانب تشجيع الانتقال إلى الاعتدال والاستقرار، سيظهر لإسرائيل أنها ستكون بحال أفضل إذا تبنت السلام في علاقاتها مع العالم العربي والفلسطينيين. هذا الاكتشاف الذي يسجله مركز الإمارات للسياسات ليس جديدا أبداً، فقد توصل إليه الراحلان السادات وحسين قبل ذلك بعقود، ثم لحق بهما التيار السائد في منظمة التحرير، ولكن ما غاب عن هؤلاء "الرواد" جميعا هو أن إسرائيل مثل أي عاقل في الدنيا ستجد أن جبهة أعدائها قد تفككت ووهنت إلى حد يدفعها إلى التفكير في ضم الأردن والعراق وسوريا ومصر وربما أجزاء من الجزيرة العربية بما يمكن أن يشمل في المدى الاستراتيجي الإمارات ذاتها.

لكن الدكتورة الكتبي لا تعاني لحسن الحظ من أية أعراض عصابية تشاؤمية، ولذلك فهي ترى رأياً آخر فحواه أن المعارضين، خصوصا ايران وتركيا يخشون من الاستقرار والاعتدال في المنطقة الذي سيحرمهم من الاستفادة من حالة الفوضى لتوسيع نفوذهم. كنا نظن من خلال تشخيص الدكتورة أن الفوضى التي سادت في العقد المنصرم هي التي سمحت للإمارات بالتحول إلى قوة إقليمية، وربما كونية، لكن الدكتورة نسيت ذلك، أو ربما أن القوة الظبيانية الصاعدة تحتاج الان الى الاستقرار لتمرير استراتيجيتها المرسومة في مركز الإمارات للدراسات بالتعاون مع مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي. 

تسعى الإمارات من خلال موقعها القيادي الجديد إلى لجم الولع الإيراني بالفوضى والدمار، وتشجيع طهران على الإقلاع عن استراتيجية الصراع مع اسرائيل. ولا بد أن دخول إيران في سياق هذه الاسترايتجية سيدفع تركيا أيضا الى التعقل والتخلي عن سياسات الحرب والعدوان. لم تخبرنا الدكتورة عن دور الإمارات التوسطي الدقيق بين اسرائيل وتركيا خصوصا أنها تعلم دون شك بالعلاقات العريقة التي تربط اسرائيل بتركيا منذ زمن سحيق يسبق تأسيس دولة الامارات الاتحادية ذات التأثير الدولي الهائل.

وقعت الإمارات اتفاقية السلام مع اسرائيل في 15 أيلول  2020، وعلى الرغم من أن المعاهدة لم تجلب الترياق الشافي للقضية الفلسطينية، إلا أنها شكلت اختراقا عظيما للفكر الإماراتي الجديد فيما يتصل بالمنطقة وصراعاتها.

وفي توضيح سياق المعاهدة وتداعياتها الاستراتيجية، لا تكل ابتسام الكتبي ولا تمل من تكرار التأكيد بأن العقد الأخير (أي من 2010 وحتى 2020)، قد شهد تحولاً حقيقياً وجوهرياً في منطقة الشرق الأوسط، بحيث أمكن القول إن النظام الإقليمي الذي عرفناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد انتهى، فأصبح هناك تحوّل كبير في وزن الدول، وجرت تغيرات في هوية الدول العربية القيادية، وفي الرؤى والمصالح والأولويات والتهديدات. كذلك طفت على السطح مشاريع وبرامج متنافسة لدول غير عربية في المنطقة العربية، وفي سياق هذا الوضع الغريب والمعقد وقع على كاهل دول الخليج التفاعل مع هذه التغيرات الجيو – استراتيجية ، واتخاذ القرارات العقلانية من أجل الحفاظ على استقرار المنطقة وسلامة دولها وشعوبها. لم يكن هذا الأمر سهلاً؛ وقع الكثير من الأخطاء، واشتبكت الأجندات وتصاعدت الاستقطابات، واستنزف الكثير من الموارد، ولا يمكن الجزم بأن ما حدث كان مثالياً. لكن الإمارات بذلت وسعها من أجل تحقيق أفضل ما يمكن.

في هذا السياق، جاءت معاهدة السلام الإماراتية - الإسرائيلية، التي ستجلب على الإمارات النقد اللاذع من قطر وتركيا أكثر من النقد الآتي من الفلسطينيين أنفسهم. لكن مركز الإمارات يرد برباطة جأش إن الاتفاقية حدثٌ استراتيجيٌ بالغ الأهمية، إذ تنطوي على ترتيبات جديدة في المنطقة ترتكز على تعزيز الاستقرار والتنمية والازدهار، وتطرح مشروعاً للتعاون الإقليمي يقوم على المصالح الحيوية التي تهُم شعوب الإقليم؛ كالاقتصاد والتكنولوجيا والتعليم والطب والمياه والطاقة والزراعة .

وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، كانت الثمرة الأولى لمعاهدة السلام الإماراتية - الإسرائيلية مثلما أسلفنا تجميد خطة نتنياهو، بضم ثلث أراضي الضفة الغربية وغور الأردن. فضلا عن ذلك تُشكِّل المعاهدة رافعة جديدة يتم من خلالها إعادة ربط القضية الفلسطينية بالنزاع العربي - الإسرائيلي، بعد أن عزلت لفترة طويلة. وكما هو معروف، فإن كثيراً من أوراق القضية الفلسطينية ارتبطت بالتفاعل الأميركي - الإسرائيلي، والأميركي - العربي، في المنطقة، وبالتالي سيُعطي الثقل السياسي الجديد، الذي اكتسبته الإمارات بموجب هذه المعاهدة، وزناً أكبر من أجل التدخُّل في تطورات القضية الفلسطينية بما يخدم  المصالح الفلسطينية العليا على نحومباشر.

ليس من ضير بعد هذا من القول إن القرار الإماراتي بتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل خيار استراتيجي عقلاني يهدف إلى تحقيق تعاون حقيقي وفعلي يخدم الدولتين ويخدم شعوب المنطقة. وبينما تُشكل الإمارات الرائد للنهج الجديد في المنطقة، فإنها على ثقة بأن نتائج العلاقات الإماراتية - الإسرائيلية وثمارها ستدفع المزيد من الدول العربية إلى الركوب في قطار السلام. ومع توسُّع إطار العلاقات مع إسرائيل لتصبح ذات صبغة إقليمية، فإن اتفاقيات السلام ستكون قادرة على إحداث التحول الاستراتيجي المتوقع منها، سواء على صعيد تقوية الأمن والاستقرار أو على صعيد تحسين نمط حياة الناس والشعوب، الأمر الذي يجعل منطقة الشرق الأوسط تلحق بالمناطق الأخرى التي استطاعت أن تطور دولها من خلال آليات الحوار والتفاهم بما انعكس إيجاباً على استقرارها ونمائها. 

في هذا السياق الاستراتيجي يمكن قراءة الدور الإماراتي في "مشروع" الانتخابات الفلسطينية الذي تتمثل فيه الإمارات بكتلة يقودها سياسياً سمير مشهراوي ويقودها فكرياً "الفيلسوف" سري نسيبة تحت مظلة القائد (هل نقول الرمز؟!) محمد دحلان الذي يجمع إلى جانب دوره الفلسطيني دوراً إقليميا من خلال موقعه مستشارا لولي العهد الإماراتي.

أما الدكتور نسيبة فقد دأب منذ ستة أشهر على الأقل على "إيضاح" الأدوار المهمة التي تؤديها الإمارات والمناضل دحلان دفاعاً عن القدس وفلسطين. بعض الناس يظن أن تحالف نسيبة مع دحلان ليس مستساغاً، لكن ألم يتحالف محمود درويش مع الراحل عرفات بغض النظر عن اختلاف قامات الرجال الأربعة؟ ترى ما الذي كان يجمع الرجلين؟ سحر استخدام عرفات للغة التي يعشقها درويش حد المرض والإدمان؟ أم عشق درويش للمال والنفوذ الذي احتكره عرفات على نطاق واسع؟

يبدو أن سري برؤيته المستندة إلى الدولة الواحدة هو الرجل الملائم للمرحلة الراهنة بعد تدمير إسرائيل لفكرة الدولتين. هكذا يبدو أن المخرج المرحلي الراهن هو "بيع" الناس فكرة الدولة الواحدة بانتظار أن يحل التاريخ مشكلة بقايا الأرض التي في يد الفلسطينيين. لكن من المدهش بالفعل أن هذا "العقل" يأتي في قائمة "المستقبل" بعد سمير المشهراوي رجل الأمن الوقائي في كتلة تضم أشخاصاً لامعين آخرين من قبيل جهاد طمليه ونجاة أبوبكر وفي سياق قائمة طويلة عددها 132.

ليس من الصعب أبداً قراءة الدور المركزي للإمارات التي تجمع دحلان ونسيبة علاقات مميزة بها. وليس من الصعب أبداً تخيل الاسترايتجية الخارجية التي يعمل في خدمتها أو بالتوافق معها هذا الرجلان. هناك "قناعات سلامية" واضحة لدى الرجلين يعززها ويغذيها منجم الدولارات الإماراتي الهائل.

يجب بطبيعة الحال أن نرى دحلان ونسيبة جزءاً من المشروع الإماراتي الساعي إلى وراثة الدور القطري في المنطقة. لذلك جاء التقارب مع إسرائيل في اتجاه يخدم رؤيتهما ويردع القوى التي تعمل في الاتجاه المعاكس. لكن تحالف البلدين يمكن أن يشمل أيضا دولا مثل السعودية والبحرين السودان والمغرب والأردن، خصوصا عندما نقرأ مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية الدكتور زيد عيادات الذي يخبرنا بأن معاهدة السلام الإماراتية - الإسرائيلية جاءت ضمن سياق التحولات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة، حيث برزت الحاجة إلى رؤى جديدة لمعالجة أزمات المنطقة ومشكلاتها. ويؤكد الرجل موقف الكتبي من فلسطين، بالقول إن الإمارات هي الرابح الأكبر من هذه الخطوة، لكن الرابح الثاني هو القضية الفلسطينية، لأن الإمارات نجحت من خلال المعاهدة بتجميد قرار بنيامين نتنياهو بضم 30 % من أراضي الضفة الغربية وغور الأردن. ويضيف الباحث الأردني أن المعاهدة تُعزز دور الإمارات في الضغط على إسرائيل لمصلحة الفلسطينيين، مثلما تفعل مصر والأردن.  كما أن المعاهدة تجعل الإسرائيليين يدركون أنهم يربحون في علاقتهم بالعرب، ما يسحب البساط من تحت أقدام اليمين الإسرائيلي ويجعله أكثر مرونة تجاه التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية.

ولكي تكتمل فكرة بناء الحلف الإقليمي الشرق أوسطي بزعامة اسرائيل، علينا أن نقرأ الخبير الاستراتيجي المصري عبد المنعم سعيد الذي يخبرنا أن المعاهدة تعبّر عن روح جديدة لدى القيادة الإماراتية تنطلق من أن العرب يمكن أن يحدثوا تغييراً في مسار المنطقة، خصوصا أن الإمارات تُقيم علاقات مع إسرائيل من منطلق القوة، لأنها دولة ناجحة في الاقتصاد والتنمية، كما أنها تقدم نموذجاً جاذباً من حيث التنوع والتسامح والإدارة الحكومية المميزة والقدرة على الاستفادة من العولمة، والأهم أنها تعكس صورة «العربي» الذي لا يخاف من إسرائيل والذي يتعامل معها بمنطق الندية.

ويرى الدكتور سعيد أن المعاهدة جزء من التيار التعاوني الذي أخذ يبرز في السنوات الأخيرة في المنطقة، مستنداً إلى قيم الاستقرار والازدهار والتقدم، معبراً عن نفسه في إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم من المنطقة فلسطين والأردن ومصر إلى جانب إسرائيل. وهكذا فإن الرجل لا يكتفي بحلف اسرائيلي/اماراتي/مصري/سعودي وإنما يوسعه ليشمل السلطة الفلسطينية التي تتمتع طوعاً أو كرهاً بعلاقات طيبة مع تلك الدول جميعاً.

وفيما يخص البعد الجيوسياسي للمعاهدة، يرى سعيد أن المعاهدة تسهم في تغيير توازن القوى في المنطقة، وأنها تطرح مشروعاً للتعاون الإقليمي بعيداً عن المشاريع التي خَسَّرت شعوب المنطقة وهددت دولها الوطنية، مثل المشروع الأصولي المتطرف أو مشروع التوسع العثماني أو مشروع تمدد النفوذ الإيراني. في هذا المنحى تحديداً يبدو أن المشاركة الفلسطينية في المشروع الموعود لا تجد ممثلاً لها خيراً من قائمة دحلان نسيبة الانتخابية ورؤيتهما السياسية المرنة بما يكفي للتخلي عن "أسطورة" الدولة الفلسطينية من أجل أن تنعم فلسطين والمنطقة كلها بفضائل السلام والرخاء والتعاون المثمر مجالات الحياة المختلفة.

[1] مركز تفكير، هكذا يعرف عن نفسه، أُسِّس في مدينة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة في سبتمبر 2013، بهدف دراسة مُهدِّدات الدولة الوطنية في المنطقة العربية والخليجية، سواء أكانت نابعة من الداخل أم من التفاعلات الإقليمية والدولية؛ واستشراف مستقبل المنطقة، وتأثير المشاريع الجيوسياسية المختلفة فيها؛ ورسم خريطة توزيع القوة في العالم والمنطقة وموقع دولة الإمارات في هذه الخريطة.