عام على بدء الجائحة، والحمد لله! فالتجمعات في فلسطين دون تباعد، وكمامات نصف ملبوسة على قدم وساق، وترى هذا الافتتاح، وذلك الاحتفاء بهذا المطعم، أو ذلك البوتيك، والأعراس وبيوت العزاء، والأَمَرُّ والأدهى من ذلك كله، مشاركة المسؤولين في هذه الفعاليات، ولبس الكمامة على الذقن كأنها موضة، أو كأنها رمزٌ سياسيٌّ؛ كالكوفية، ولا تشبيه… ويستمر ارتفاع المنحنى، وتزدادُ نسبة انتشار المرض، وتستمر المستشفيات بالأنين تحت وطأة المرض، وسط تعتيم إعلامي لافت...
أما نحن في القطاع التعليمي، فقد عانَيْنا الأمَرَّيْن؛ ما بين التعليم المدمج، والتعليم أونلاين، والتعليم الوجاهي، وحصر الإصابات، وتتَبُّع المخالطين، وتغيير برنامج الحصص، والتكيُّف بسرعة البرق مع الإغلاق الشامل، أو الجزئي، أو الذكي، لا والله لم تكن سنة سهلة، ولا تزال معاناتنا مستمرة.
لقد وجد المعلم والإداري والممرض نفسه في مهبِّ عاصفة من الغضب العارم، وكأننا لا قدَّرَ الله مَنْ سَبَّبَ الوباء، فلا يُعجِبُ أحَدًا أيُّ نوع من التعلُّم، فالتعلُّم عن بعد غير فعّال، وقد نتَّفِقُ هنا، ولكنَّ تفاصيل التعلُّم عن بعد لا يمكن تلخيصها بفعّالٍ أم لا، فهناك عديدٌ من العوامل الأساسية في التعلم الإلكتروني عن بعد، أهمها البنية التحتية للبلاد، وتطوير المعلم، وجاهزية المجتمع لتقبل طرائق جديدة في تعليم أبنائهم، وهنا لا بد لنا من الاعتراف بأن المجتمع لم يتقبل فكرة التعليم عن بعد، ولم يرَ إيجابياته، بل أَصرَّ على رصدِ سلبياته فقط، ولكن إن أصرَّت المدرسة على التعليم الوجاهي، أصبحت غير مسؤولة، وغير مكترثة لحياة الطلبة والمحتنع المدرسي، ووجدت نفسها في مَهَبِّ رياحٍ عاتيةٍ؛ من تعليقات الصحفيين، وهجوم أولياء الأمور، ومتابعة المسؤولين لها، دون أن يتأكد أحدٌ من صحة المعلومات التي تدل على انتشار الوباء فيها. فمثلًا في تجربتنا المتواضعة، لم تنتقل العدوى بين الطلبة داخل أسوار المدرسة، وكان تفشي الوباء محصورًا بأسبابٍ خارجية؛ فالنشاطاتُ الاجتماعية خارج أسوار المدرسة؛ من أعياد ميلاد، وتجمعاتٍ بمناسبة أو دون مناسبة، دون ارتداء الكمامة، وبعيدًا عن التباعد أو حتى التعقيم، ومشاركة الأطعمة بمختلفها بين الأطفال، إذ رأينا هذا في صفوف متعددة في أوقات مختلفة من العام الدراسي. كل ذلك ظلَّ حاضرًا، والغائبُ الوحيد هو إهمال البروتوكولات الصحية، وتعليمات المدرسة بهذا الشأن خارج أسوار الحرم المدرسي.
وفي أحد الصفوف، وللوهلة الأولى اعتقدنا أن العدوى تفشَّت داخل المدرسة، ولكن مع ازدياد الحالات بشكل عشوائي، جاء الاعتراف من الطلبة أنفسهم: "مس إحنا تجمعنا عند فلانة/فلان، وهو مخالط لفلان، وغير ملتزم بالحَجْر، وبعد يومين طلع مصاب…" وجاء هذا الاعتراف بعد إغلاق الشعبة إلى أجل غير مسمى في ذلك الوقت.
وتستمر النشاطات والافتتاحات، ويأتي رمضان مُحَمَّلًا بالتجمعات، ومُبَشِّرًا بمزيدٍ من الاحتفالات، ويتحور الفيروس، ليصيب الأطفال، إذ تدلُّ آخرالتوقعات العلمية على أنَّ الموجة القادمة ستؤثر على الأطفال بشكل رئيسي، ومع أن تطعيم الكادر التعليمي سار على قدم وساق، إلا أننا نجد أنفسنا أمام أسئلة تطرح نفسها، أو تفرض نفسها: هل يمكن إعادة فتح المدارس بالكامل معتمدين فقط على تطعيم الكادر التعليمي؟ هل سيحصل الطلبة الكبار (١٦ عامًا فما فوق) على الطعم، قبل البدء بالامتحانات الرسمية الوطنية والعالمية؟ وماذا عن العام القادم؟ أتوجد خطة لإعادة تطعيم الكادر التعليمي، عند انتهاء مفعول الطعم الحالي؟ أم أننا سنعود إلى مربع الصفر في منتصف العام القادم؟
أحبتي، لا أستطيع العودة إلى دوّامة حصر المخالطين، ولا أحتمل فراق زميل آخر بسبب هذا الفيروس اللعين، ولا أريد التعليم المدمج، وأريد أن أرى أروقة المدرسة تعجُّ بالطلبة، وساحاتها صاخبة بأصواتهم، وأتوق لمصادرة كُرَةِ قدَمٍ أساء طالبٌ استخدامها، ومن ثم إرجاعها له بعد الاتفاق على استخدامها، وأشتاق لطلبة الصف الثاني عشر، لا يتزحزون من مكتبي، فوالله إنها لَسَنَةٌ صعبة، وفي الوقت الذي وجد فيه التاجر والعامل وربُّ العمل مَنْ يدافع عنه، ويرفع صوته للجهات المختصة، ونتج عن هذا الضغط إعادة فتح مرافق عدة، فإنَّ القطاع التعليمي بمكوناته كافة، وجدَ نفسه في مأزق جَدِّيٍّ، سنشعر بذبذباته سنين طوال. ولكي يتحقق الحلم بعودةٍ سليمة، فإنه لا بدَّ من خطة جدية قصيرة وطويلة المدى، يُشكِّلُ فيها التطعيم الذي بدأ ويستمر هذه الأيام جزءًا أساسيًّا، ولا بد أن يستمر في الأسابيع القادمة؛ ليغطي الكادر التعليمي في المدارس الحكومية والخاصة التي لم تطعم بعد. ولا بدَّ من قرار مجتمعي لحماية حق أطفالنا في التعليم، حيث يجب أن يتشكَّل ذلك من أطراف متعددة؛ من وليِّ الأمر الذي لا بدَّ أن يكفَّ عن حضور مناسبة اجتماعية مكتظة، ويلتزم بلبس الكمامة، وبالتباعد بشكل دائم، بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا مناصَ من رسمِ خطة وطنية واضحة المعالم للعام الدراسي المقبل، تشمل الجانب الأكاديمي والنفسي والصحي، للطالب والمعلم، وبرنامج تطعيم مستمر؛ لإعطاء جرعات منشطة لمن انتهى مفعول التطعيم، أو الإصابة لديهم.
وإلى ذلك الحين، أرجوكم! ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء. بلا منها التجمعات المكتظة بكافة أنواعها، ويا ليت أن نتابع المخالفين بشكل جدِّيٍّ وفاعل، أكثر ممّا رأينا في العام الماضي، وإن لم يحصل أيٌّ من ذلك، فَلَكُمُ الله معلمينا وطلابنا.
فليس للطالب ولا للمعلم مَنْ يُطالب بحمايتهم، والأمر لا يتوقف فقط عند حدود حماية حق الطالب في التعليم، وإنما يجب الالتفات إلى حقه في الحماية من المرض، ومن الاكتئاب، وحماية المعلم من الاحتراق الوظيفي. وعندما يقتصر النقاش من جهة على " رجعوا الأولاد على المدارس" في الوقت الذي يفشلُ فيه المجتمع من حماية نفسه، ويَتَراخى في دَرْءِ مخاطر الوباء عن قصدٍ أو عن غير قصد، فإننا كمجتمعٍ و- للأسف الشديد- قد فشلنا في أنْ نضع التعليم كأولوية؛ لأننا آليَنا على أنفسنا الاستمرار في إقامة الأعراس، والمشاركة في التجمعات بأشكالها كافة، ضاربين بعرض الحائط كل التعليمات، ودون متابعة أحدٍ للمخالفاتِ الفادحة في هذه الفعاليات.